بأقلامهمعربي عبد الرحمن بسيسو يكتب عن : حَيثُ يَمْكُثُ الغُولْ by admin 3 أبريل، 2023 written by admin 3 أبريل، 2023 15 لم يكن مارجرجس، في حقيقته الكامنة في مُخيِّلة مُبتكري هُويِّته من البشر، إِلَّا رمزاً من رموز الخصب، ومن هنا جاءت المطابقة بينه وبين “الخضر” إذْ رُوِىَ أنَّ الخضر “إنما سمي الخِضْر لأنه أينما صلى اخْضَرَّ حوله”(15). و”لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء”(16). الجديد \ عبد الرحمن بسيسو – ناقد من فلسطين مقيم في سلوفاكيا الغُولُ، التَّنينُ، الذِّئابُ، الأَشْبَاحُ والوَحْشُ المُتَغَوِّلُ.. مقاربة نقديَّة لتجلِّيات رموز الموت و الانبعاث في الرِّواية والقصَّة الفلسطينيَّة. يُلاحظُ الباحث في الرِّواية والقصة القصيرة الفلسطينية، أنَّ رموزاً وكلماتٍ كـ”التنين؛ الوحش؛ الغُول؛ الأشباح؛ والذئاب” لا تني تتكَرَّر في العديد من الروايات والقصص عبر طرائق توطيفٍ متنوِّعة الأساليب والمقاصد، وبتجلياتٍ نَصِّيِّة متغايرة؛ ففي قصة “الرَّاعي حمدان”(1)، يذهبُ الرِّوائيُّ والقاص توفيق فياض إلى توظيف الدلالات الرَّمزيَّة التي راكمتها “الذِّئاب” عبر التجارب والحكايات والأزمنة، ليوازي بين الذِّئاب والعَدُو الصُّهيوني، حيثُ تتكاثر هذه الذِّئاب وتتجمَّعُ حول إحدى القرى، مستبيحةً أغنامها لإشباع نهممها الَّذي لا يُشْبَعُ إلى اللَّحم والدَّم، وفاتكةَ بسكان القرية بغية دفعهم إلى الرحيل عنها (رحيل ناجي صديق الرَّاعي حمدان من القرية عقب هجوم الذِّئاب) هرباً من الموت أو البقاء تحت وطأة أنيابها. وجليٌّ، هُنَا، أنَّ الذِّئاب لا تكتسب أبعادها الرَّمزية إلَّا من خلال إحالتها إلى الواقع الفلسطيني الذي كان قائماً منذُ نحو قرنٍ مضى، والّذي لم يزلْ قائماً، حتَّى الآن، تحت نير الاحتلال الصُّهيوني لأرض فلسطين، فهي، إذنْ، ذئاب بشرية أخذت تتكاثر حول فلسطين إلى أنْ استباحتها، واقتلعت جُلَّ أهلها منها، وشَّرَّدتهم في منافي الأرض، أو دفعتهم، قسراً، إلى سطوة البحر واللُّجوء القسريِّ في أيٍ منفىً في بلاد الشَّتات، لتستولي على فلسطين خاليةً من أهلها، من أصحابها الأصليين الملتحمين بها منذ أقدم قِدمٍ عرفته الحضارة الإنسانيِّة، وسجلات التَّاريخ. وإذا تتوازى الذِّئاب مع الصَّهاينة، فإنَّ خروج الرَّاعي حمدان لمواجهتها إنِّما يُؤسِّس لإقامة نوعٍ من الموازاة الرمزية بينه وبين “مارجرجس” الذي خرج لمواجهة التِّنين في واحدةٍ من أبرز تجلِّيات أساطير الموت والانبعاث، وكأنَّ الذِّئاب، هنا، اسمٌ آخرٌ، أو تجلٍّ صُوَريٌّ مُتخَيَّلٌ، اجتماعياً، لما هو متحقِّقٍ في غابات الطَّبيعة والتَّوحُش البشريّ المشهودين، للتَّنانين الأسطوريَّة. وهكذا، عبر أقوال حمدان لصديقه ناجي الذي قرر الرحيل هرباً من الذئاب، تشرعُ القصة في الإحالة إلى الواقع القائم في فلسطين المُحتَلَّة: “بدك تشَرِّقْ يا خوي شَرِّقْ. الله يسهل عليك. أما أنا وراك منيش مشرق يا ناجي .. ما دام حمدان أخوك، ما ذيب في الوعر يطيح ذياله … قال وين يا ناجي بالخير.. قال مشرق عالغور! قال في ذياب في الجبال قال!! الله عليك يا زمان، تعيش يا حمدان وتشوف.. باطل.. باطل. والله ماني هاجرك يا هالبلد، لو بفطس في زقاقاتك وما بلاقي مين يدفني”(2). وفي رواية “العشاق” يوظف رشاد أبو شاور رمز “الوحش”، ليجعله موازياً للقهرين القومي والطبقي. ويأتي هذا التَّوظيف من خلال الكشف عن هواجس “حسن” ومشاعره وأحاسيسه وأفكاره بعد أنْ أقدم على حرق “المزرعة” المملوكة لإقطاعيٍّ، أوعبر تداعي ذكرياته عن الوطن ورحلة المنفى، يقول حسن مخاطباً محمود: ” دائماً في صغري، كنت أحلم أنَّ وحشاً أسود كبيراً، يطاردني، ودائماً كنت أجري وأركض حتَّى أجد أُمِّي، فاختبئ في حضنها، ويقف الوحش بعيداً، كاشفاً أسنانه الرَّهيبة، متوعداً، زائراً بغضب”(3) وجَليٌّ، هُنا، أنَّ الوحش الأسود الذي يُطارد حسن في رواية “العُشَّاق” لا يرمزُ لشيء سوى قوى الشَّر: الجدب والعقم والموت والقهر والظلام والتيه …، وجَليٌّ، هُنا، أيضاً، أنَّ هذا الوحش لن يتراجع إلا إذا أقدم الإنسان على مواجهته، فالوقوف والانتظار، أو تفادي الخطر دون القضاء على مصدره، لا يبعدُ الوحش الأسود، ولا يُغيِّبه، ولن يقضي عليه، بل سيبقيه متربصاً ومتحيناً أي فُرصة مُتلحةٍ ليحسنَ اقتناصها على نحو يُمكِّنهُ من اقتناص الإنسان، وإهلاكه. في روايته “حبيبتي ميليشيا”، الَّتي تصور البطل الملحميِّ “سِرْحَان” باعتباره رمزاً ملحمياً للبطولة القومية، وللاستمرار في التاريخ، حيث هو وارث البطولة عن سِرْحَان قديم تسردُ الرواية سيرته عبر حكاية بطوليِّة مُضمَّنة في سياق أحداثها وتداعيات بطلها الذي هو إيَّاهُ ، وهو حامل هم الجماعة القومِيَّة وطموحاتها في التحرر السياسي والاجتماعي، وهو المتجاوز سَميِّه القديم بتجاوزه حدود القبيلة، والوطنيَّة الضَّيقة، عبر انخراطه في صفوف الثورة الفلسطينية لا بد إذن من الاحتماء بـ”الأم/الوطن” والخروج خُروجاً حاسماً لمواجهة هذا الوحش الكاسر، تماماً كما فعل كُلٌّ من السَّيِّد”المسيح”، والقديس “مارجرجس”، و”موسى” و”الخضر”، وغيرهم وغيرهم في أكثر من صيغة من صيغ أساطير الموت والانبعاث، ولا سيِّما منها أسطورة مارجرجس والتنين(4). هكذا خرج “حسن”، كرمز للثوار الفلسطينيين فأقدم، بادئ ذي بدء، على حرق “المزرعة” التي تمثل جانباً من جوانب القهر الطبقي الباهظ: “في تلك الليلة التي احترقت فيها المزرعة، كنت أرى الوحش الأسود الرهيب يتراجع، بينما كانت النار تتلاطم آكلة سواد الليل مشرئبة بألسنتها في السماء، كانت ستبلغ النجوم لقد أحرقت المسروقات التي اختطفوها من أيدي أطفال اللاجئين، كي لا يهنأ أولئك اللصوص … ولكن ذلك الوحش لا يُمِكُنُ أنْ يقتل بإحراق تلك المزرعة، يجب أنْ نشعل الليل كله، حتى يأتي وطننا نظيفاً، طاهراً، موحداً”(5) في العبارة الأخيرة، تتضح، ضمن دلالات أُخرى، دلالة البعد الثاني للرمز، فالوحشُ الذي يُوازي “العدو الطَّبقي”، أو الاستبداد المحلِّي، يُوازي العدو القومي” أيضاً، والبدء في مواجهة “العدو الطَّبقي” أو أيِّ نظامٍ مَحلِّيٍّ مُسْتَبِدٍّ ،تَابع، وغير وطنيٍّ، والقضاء عليه، لا يقضي على الوحش تماماً، بل تجب مواجهة “العدو القومي” و”العَدو الطَّبقي” و”الأنظمة المُستَبِدَّة’” مجتمعين حتى يتمَّ القضاء عليهما معاً؛ أي على الوحش المُضَاعف. وهنا يؤكد رشاد أبو شاور فكرة مركزيَّة عمل على بلورتها في روايته الشَّهيرة “البكاء على صدر الحبيب”(6)، فالعدو القومي من جهة والعدو الطَّبقي والقيادة التي فقدت البوصلة السَّوية من جهة ثانية، وجهان لعملة واحدة وهما معاً يشكلان “الوحش” الذي يتربص بفلسطين، وبالعرب: أوطاناً وكياناتٍ وشعوب. وفي روايتها المعنونة بـ”شجرة الصُّبِّير”(7)، تعقد الرِّوائِيَّة امتثال جويدي مقارنة بين رمز “الغُول”، و”الإسرائيلي”، وتأتي هذه المقارنة في سياق تداعي خواطر الطفلة “وداد”، بطلة الرواية التي لَمَّا تتجاوز السَّنوات العشر، والتي كانت تعيش في مدينة يافا قبل سقوطها تحت نير الاحتلال الإسرائيلي في العام 1948. فمع بدء التحركات الإرهابيَّة الصهيونية وأعمال العنف الموجَّهة ضِدَّ الشَّعب الفلسطيني بهدف اقتلاعه من وطنه، وتشريده في منافي الأرض، ومع قرب وصول خطر هذه التحركات والأعمال إلى مدينة يافا الفلسطينيَّة، يحذر الأب ابنته “وداد” من الخروج من البيت، ولكنها تخرج فيؤنبها قائلاً: “هل ذهبت ليخطفك الإسرائيلي”(8). ولم تكن صيغة التأنيب، المقرونة بالتخويف، التي استخدمها الأب إلَّا تكراراً مُعَدَّلاً قليلاً لما كانت تستخدمه أمُّ ودادٍ، أو أيٌّ فردٍ آخر من أفراد الأسرة، حين يريد تخويف هذه البنت الصَّغيرة، أو تحذيرها، من مغبة الإقدام على تَصرُّف غير مرغوبٍ فيه، وذلك عبر تهديدها باستدعاء “الغُول”. وهكذا تلتقي الصُّورتان في ذهن الطفلة وداد، فتبدأ في عقد مقارنة بين “الإسرائيلي” الذي حلَّ، في الصيغة التي استخدمها الأب، مَحلَّ “الغُول”، وبين الغُول الذي تمَّ استبعاده لحظة حُلوله، رمزيَّاً ودلاليَّاً وواقعيَّاً، في هُويَّة “الإسرائيلي” الذي سيخطفها إنْ هي خرجت من البيت. ويكشف المقتبس التالي عن فحوى المقارنة وعمَّا أسفرت عنه في ذهن وداد، فالإسرائيليُّ: “خطر يحيط بها من كل جانب. هو الجار، وبائع السَّكاكر، والخضري، وسائق التاكسي وصاحب المصبغة. وهو طفل، زميل لها في المدرسة أيضاً. إنَّهُ في كل مكان ولا سبيل إلى اتِّقاء شره. إنه ليس كالغُول الذي يظل مختبئاً في ذهنها. فهذا على الأقل يسكن بعيداً في أعالي الجبال، ولا يحضر إلا بدعوة من أهلها”(9). وكأني بالكاتبة تريد أنْ تقول من خلال هذه المقارنة التي تسردها بوصفها تجربة خاصَّة خاضتها الطفلة وداد: إن “الإسرائيلي” أشدُّ خطراً وشراسة وشراً من “الغُول”، فالإسرائيلي حاضر، وحضُوره أمر واقع في واقع الحياة اليومية منذ تَغَوُّل الهِجْرة اليهوديَّة إلى فلسطين، ولكنَّ الغُولَ يقطن في أعالي الجبال، والطِّفلة تريد التَّخَلُّص من “الغول/الإسرائيلي” الذي يحول دونها والتمتع بالخروج واللعب، فيتفتق ذهنها الطفوليُّ عن فكرةٍ تقضي بإقصاء “الإسرائيلي” إلى حيث يَمكث “الغُول” الذي تماهى به وحلَّ في كيانه: “سأسأل أمي في الصَّباح عن طريقة تقصيه عنا إلى حيث يمكث الغول”(10). وهكذا، وببراءةِ طفلةٍ مسكونةٍ بإنسانيَّة جوهريِّةٍ صافية، لا ترى وداد مكاناً لهذا “الإسرائيلي/الغُول” في الحياة الإنسانية، فالمكان الوحيد الذي يُمِكِنُ أنْ يَحْتَمِلَ وجوده هو “حَيْثُ يَمْكُثُ الغُولْ”، وبهذا تصل “وداد” عبر “الكاتبة” إلى إقامة موازاةٍ تطابقيَّة كاملة بين “الإسرائيلي و”الغُول” بما ينطويان عليه من تَوحُّشٍ لم يسبق أنْ عرفته الحياة الإنسانية التي تعرفها الكاتبةُ بقدر ما تعرفها الطِّفلةُ “وداد” إحدى أبرز شخصيِّات روايتها. تخطيط: حازم الملاح وفي روايته “حبيبتي ميليشيا”، الَّتي تصور البطل الملحميِّ “سِرْحَان” باعتباره رمزاً ملحمياً للبطولة القومية، وللاستمرار في التاريخ، حيث هو وارث البطولة عن سِرْحَان قديم تسردُ الرواية سيرته عبر حكاية بطوليِّة مُضمَّنة في سياق أحداثها وتداعيات بطلها الذي هو إيَّاهُ ، وهو حامل هم الجماعة القومِيَّة وطموحاتها في التحرر السياسي والاجتماعي، وهو المتجاوز سَميِّه القديم بتجاوزه حدود القبيلة، والوطنيَّة الضَّيقة، عبر انخراطه في صفوف الثورة الفلسطينية، وانفتاحه على {فاقٍ إنسانيِّة رحبة. وإذْ تُجَلِّي الرواية ذلك، وتؤكدهُ، من خلال الصياغة الملحمية لشخصية سِرْحَان، ومن خلال تضمين الحكاية البطوليِّة المُشار إليها، فإنها تُجَلِّيِه وتؤكدهُ، مرة أخرى، حين تقيم موازاة رمزية بين “سِرْحَان” و”مارجرجس” في مقابل الموازاة التي تقيمها بين نقيضيهما “صهيون” و”الملك التَّنين” اللَّذين يوازيان “التِّنين” الأسطوريِّ، مُنفردين ومُجْتَمِعَين. ويأتي توظيف هذين الرَّمزين الأسطوريين من خلال “هواجس البطلة الروائِّية الملحميِّة “دهرية” بشأن الاحتمالات المتوقعة مع اندلاع الحرب المُبرمجة من قبل العدوين القومي والطَّبقي ضدَّ الثَّورة وجماهيرها، وعبر أقوالها التي تُصَوِّر الوضع القائم، الآن، أو أثناء احتدام الصِّراع الدَّامي، أو في نهاية الحرب التدميريِّة المُهلكة. تُخاطبُ الفدائيَّةُ “دهرية” التي تُجَسِّدُ الرواية حضورها كبطلة ملحميِّة، تُخاطبُ حبيبها البطل الملحميِّ”سِرْحَان” قائلةً: “تنيناً أصبح الطفل يا سِرْحَان. تتململ رؤوسه وتتململ. تفتح عيونها. وأشداقها تفتح في طرقات عمان وأزقتها. الكل يسمع وما من فارس يشكو السلاح إليه ويخرج. ليس بالتعاويذ ينام التنين يا سِرْحَان. إنني أعرفه، فمن دمي ترعرع، وأعرف أية كارثة ستحل بنا إذا ما واتته الفرصة وانقض علينا… اسمعني يا سِرْحَان جيداً. وإني أقول. أخرج إليه كما جرجس ولا تنتظره حتى يقطع النبع”(11). هكذا ترى دهرية الوضع في قبل بدء المعارك. الكل يدرك أنَّ الصدام آت، وأنَّ الموت آت، ولا أحد يعد لمواجهة هذا الموت الذي يحمله التِّنين بين أنيابه وفي ثنايا رؤوسه السَّبعة، فالقيادة الفلسطينية غائبة، والمقاتلون يحترقون ويطالبون ببدء الصِّدام “أمامنا عدو يحتل أرضنا. ويشرد شعبنا ويلاحقنا. وخلفنا نظام يمنعنا من قتاله. يقهرنا ويسحقنا، أردنيين وفلسطينيين، ولا بديل عن السلاح في التعامل مع كليهما(12)”. حين تُشير دَهْرِيَّة على سِرْحَان أنْ يخرج لمواجهة التنين وقتله، كما فعل مارجرجس في الأُسطورة، فإنها لا تطلبُ ذلك من، ولا هي تُشير بذلك على، سِرْحَان “الفرد”، بل سِرْحَان”الرمز”، “سرحان” البطل الملحميِّ، فهي على المستوى الواقعي تطالب بخروج الثورة لمواجهة النظام المستبد، التَّابع والمرتهن، قبل أنْ ينقض عليها ليرتكب المجازر ويقضي على الرجال والثورة. وإلى ذلك، فإنَّ دهرية لا ترى في سِرْحَان، في هذا السِّيَاق، إِلَّا رمزاً دالاً على الثُّوار والثَّورة في تَجدُّد انبثاقاتهما عبر الأزمنة، وفي استمرار حضورهما في الحياة والتَّاريخ، تماماً، كما تُجسِّدهما الرواية من بدئها حتَّى منتهاها. وبهذا يتأسَّس التَّوازي بين طلب دهرية الموجَّه إلى سِرْحَان الجديد في الرِّواية، وطلب وضحا الموجَّه إلى سِرْحَان القديم في الحكاية البطولِيَّة المُضمَّنة. وبالطَّبع، سيكون لهذا التوازي المستمر أنْ يُشير، ضِمْنَاً، إلى ما يتجسَّد في الواقع الفعلي القائم، ليتجلَّى في الرواية التي توازيه موازاةً فنيِّة وجماليِّةً، من معالم بطولة المرأة الفلسطينية وتضحيتها، وعطائها الإنساني الثَّوريِّ المتواصل على مدى تاريخ صراعي طويل، نُشداناً لحياة هي الحياة. وفي إشارة دهرية إلى ضرورة إعمال السلاح في مواجهة التنين، إدانة لأولئك الذين يعتقدون بوجود إمكانية للتصالح مع العدو الطبقي والنِّظام المحلِّي المُستبدَّة، فيؤجلون الصِّراع معهما. كما أنَّ في مُسوِّغات هذه الإشارة المنطوية على موقف حاسم إدانة لأصحاب الوعي الزَّائف الذين يسترشدون بسلبيات التُراث الشَّعبي لتبرير سلبيتهم، فيسدون الأبواب التي تأتي منها الرِّيح، ولا يخرجون لمواجهتها، بل يركنون إلى حائط الرُّقى والتَّعاويذ والدَّعوات الصَّالحة والابتهالات المرفوعة إلى سماواتٍ لا تسمع، لمواجهة واقعهم القاتم، وعدوهم الشَّرس، وذلك من دون أنْ يأخذوا في اعتبارهم سلاسل تجاربهم المفلسفة التي أكَّدت، مراراً وتكراراً، أنْ “ليس بالتعاويذ ينام التنين”. ولأن قيادة الثورة لم تستعد لمواجهة الملك التِّنين، ولأنها لم تخرج للقضاء عليه كما أراد الثُّوار والمقاتلون، انحكمت المواجهة بالخيارات الفرديَّة والارتجالية وبانعدام التَّخطيط، وهو الأمر الذي أدى إلى استفحال الدَّاء حيث أصبح “للتِّنين حول دهرية ألف رأس”(13). ومع تصاعد أوار المعارك وازدياد شدتها وضراوتها على نحو تدميريِّ استهدف الحياة نفسها، يخرج “مارجرجس” لمواجهة “التنين”، ولكنَّ خروجه، هذه المرة، كان ارتجالياً، أيضاً، فهو لَمْ يُعِدّ نفسه أو يُهيِّئها لمواجهته، ولُم يُخطِطِ لِيَومٍ كانَ معلوماَ أنَّه سيأتي غداً، أي أنَّه لم يخرج لقتل التِّنين قبل أنْ يصبح له ألف رأس ورأس. ومردُّ ذلك، فيما ترى دهريَّة، أنَّ “مارجرجس”هذا، لم يُردْ القضاء على التِّنين قضاءً مُبرماً، بل كان يسعى إلى تفاديه، ويحاول تأجيل مواجهته سعياً إلى التَّصالح معه: “التنين استفاق ولا زلنا ننتظر زحفه لنتفاداه لا لنقضي عليه. ونستنجد الأمة العربية. إننا نقصف هنا بالمدفعية الثقيلة وكل أنواع الأسلحة يومياً، والأنظمة العربية تقف موقف المتفجر. كلام يتلوه كلام حتى الجيش العراقي لا يتدخل. وقد بدأ ينسحب. إنها مؤامرة شاملة يا سِرْحَان. وقد أخذ الملك صك الإبادة”(ص 174). وهكذا تحترق المدينة، التنين يدمر ها، والنيران تلتهم كل شيء،: “تململ التنين. تفاغرت أشداقه. زحف. لمعت عيونه. أبرقت جبال عمان. أرعدت. زلزلت الأرض. تفجرت. تجمد وجه عمان. احترق”(14) وعلى مدى الصفحات التي استغرقها السَّرد الروائي المتصل باندلاع الحرب: توقُعاً وإرهاصاتٍ وتفجَّراً واندلاعاً ومساراتٍ دموية وخاتمة، يُقيم الرِّوائيُّ، عبر توظيف رمزيِّ لأسطورة: التِّنين ومارجرجس، موازاة رمزية للحدث الواقعي الذي يجري ويتصاعد، فتتحول حركة التنين إلى موازٍ روائيٍّ رمزي لحركة الحدث المتحقِّق في الواقع : بداية القتال، احتدامه، نهايته. وقد أتاح توظيف هذا الرمزِ على النَّحو الذي قاربنا بعض ملامحه في الفقرات السَّابقة إمكانيات فنيَّة واسعة للتخلص من التقريرية والمباشرة والتَّسجيلية التَّوثيقيَّة التي يمكن أنْ تطال أسلوب من يسرد أحداثاً تاريخية. وقد كان لتوظيف هذا الرمز أنْ يُعمِّق الإحساس بشراسة هجمة النِّظام الاستبداديِّ المحَلِّي المُعزَّز بدعم العدو القومي، ضِدَّ تجليات الحياة وذلك باستهدافها الثَّورة وجماهير الشَّعب وأحرار العالم الذين انخرطوا في النِّضال الهادف إلى تحرير الأرض والإنسان وإعادة الحياة إلى الحياة. هذا الإحساس الذي لا يمكن إيصالهُ، وبثُّ دلالاته، عبر كتابة ما لا يُحصى من الصفحات المُتْخَمَةِ بالعبارات التقريرية المُباشرة، والمُعَدَّة، تسجيليَّاً، سَلَفَاً. ولعلَّ لتفسير مسألة التِّكرار التَّعَالقي للتَّناقض القائم بين رمزي “التِّنين” و”مارجرجس” في الرواية والقصَّة القصيرة الفلسطينيِّة المُعاصرتين، ألَّا ينهضَ على شيء أرسخُ من معطيات الواقع الفلسطينيِّ القائم الذي تُشَخِّصَاهُ، والَّذي يتراسلُ، من جوانب شَتَّى، مع معطيات التجربة الإنسانيَّة المديدة، والمحكومة، أبداً، بالثُّنائيَّات وصراع المتناقضات؛ فليست أسطورة “التنين”، في حقيقتها التَّصوُّريَّة وأصل نشأتها، إلَّا تجسيداً رمزيَّاً، لحركة الصِّراع المائرة في الطبيعة وفي الحياة الإنسانيَّة، منذ نشأة الكون وبدء الخليقة: جدب وخصب، موت وانبعاث، سكون وتجدد. ولم يكن ثَمَّة من خيارٍ أمام هذه الأسطورة، التي ابتكرتها مُخيِّلة الإنسان الأوَّل، إلَّا أنْ تؤكدَ حتميَّة انتصار قوى الحياة والخصب والانبعاث والتَّجدد الخلَّاق على قوى الموت والجدب والانحطاط والتَّكلُّس والرُّقاد المُهلك. فانتصار مارجرجس على التنين، إنما هو انتصار للخصب على الجدب، للانبعاث والتجدد على الموت والعقم. لم يكن مارجرجس، في حقيقته الكامنة في مُخيِّلة مُبتكري هُويِّته من البشر، إِلَّا رمزاً من رموز الخصب، ومن هنا جاءت المطابقة بينه وبين “الخضر” إذْ رُوِىَ أنَّ الخضر “إنما سمي الخِضْر لأنه أينما صلى اخْضَرَّ حوله”(15). و”لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء”(16). إلى ذلك، سُمِّيَ مارجرجس بـ”جورج الأخضر”(17). وإذا كانت مهمة مارجرجس، أو الخِضْر، أو غيرهما من رموز الخصب، وصَنَّاعه، وآلهته، إنَّما تتمثل في القضاء على التِّنين وَعْدَاً باجتثاث جذوره، فإنَّ مهمَّة الإنسان الفدائي، المُقاتل، المناضل الحُرِّ من أجل الحياة والحريَّة والعدالة والكرامة الإنسانيَّة، إنِّما تتمثَّل في القضاء، قضاءً مُبرماً، على جميع تَجسُّدات التِّنين وتجلياته، أيَّاً ما كان نوعها أو شكْلُها، ومهما تعدَّدت الأردية التي يلبسها، أو تنوَّعت الأقنعة التي يُلْقِيها على وجهه لإخفاء حقيقة حقيقته. وفي الصِّراع الدائر ، الآن، في الواقع القائم في فلسطين، وفي الأعم الأغلب من بلاد العرب، بين الشَّعب الفلسطيني والشُّعوب العربيَّة من جهة، وبين قوى القهرين القومي والطَّبقي والأنظمة الاستبداديَّة والتَّابعة من جهة أُخرى، تتطابق مهمة الثَّورات الشَّعبيِّة النَّاهضة في الواقع المرفوض مع مهمة مارجرجس الأسطورة، إذْ على الفدائيِّ الثَّائر، كي يكون فدائيَّاً وثائراًحقيقيَّاً، أنْ ينهض بمهمة القضاء على التنين الجديد. حين يَعْمدُ الأدب إلى إقامة الموازاة الدَّالة بين “التنين” وقوى القهر القومي والطبقي والأنظمة المُستّبِدَّة من جهة، وبين “مارجرجس”، أو أي رمز آخر من رموز الخصب والانبعاث والتجدد، فإنما ينطلق من خصوصية الواقع الذي يصوره، ومن حركة الصراع المائرة فيه، ومن طبيعة هذا الصِّراع على تعدُّد أعماقه وأبعاده، ومن ماهية الدَّور الذي يلعبه كل طرف من أطرافه. وإذ يقيم الأدب هذه الموازاة التي لم يتوقَّف عن تكرارها وتنويع تجلياتها؛ فإنه يتجاوز حدود “الخاص” المحكوم بشروط الواقع القائم ليذهب صوبَ “العام” الذي يكتنزُ خلاصات تجارب الإنسان ويعكسُ جوهرها العميق؛ فالرموز التي تحتويها أساطير الموت والانبعاث، والدَّلالات التي تشي بها هذه الرموز، إنِّما تكمن في اللاوعي الإنساني الجمعيِّ، ضَامَّةً، في ثناياها، كُلِّيَّةَ التاريخ وخُلاصات دروسه، وعاكسةً، في تشابك دلاليٍّ ثَريٍّ، تجليات جدلية الصِّراع المفتوح بين قوى الموت وقوى الحياة، مؤكدةً، في كُلِّ وضعٍ وحال، حتمية انتصار قوى الحياة المفتوحة على ما لا يُحصى من تجليات الحياة التي يكتنزها الحاضرُ المفتوحُ، أبداً، المستقبل. وإلى ذلك، لا يُمكن لرموز أساطير الموت والانبعاث إلَّا أنْ تكون رموزاً إنسانية جمعيَّة وشاملة، قديمة وعميقة، بل موغلةً في القَدامة والعمق بقدر أيغالها في أعماق الوجدان الجمعيِّ للإنسانيَّة بأسرها. لعلَّ لتفسير مسألة التِّكرار التَّعَالقي للتَّناقض القائم بين رمزي “التِّنين” و”مارجرجس” في الرواية والقصَّة القصيرة الفلسطينيِّة المُعاصرتين، ألَّا ينهضَ على شيء أرسخُ من معطيات الواقع الفلسطينيِّ القائم الذي تُشَخِّصَاهُ، والَّذي يتراسلُ، من جوانب شَتَّى، مع معطيات التجربة الإنسانيَّة المديدة، والمحكومة، أبداً، بالثُّنائيَّات وصراع المتناقضات؛ فليست أسطورة “التنين”، في حقيقتها التَّصوُّريَّة وأصل نشأتها، إلَّا تجسيداً رمزيَّاً، لحركة الصِّراع وليس من شك في أنَّ الرَّمْزَ “كُلَّما كان … قديماً وأكثر عمقاً، بالتالي فسيولوجيا، وكان جماعياً وكلياً، كان أكثر تجسيداً. وكلما كان مجرداً ومميزاً ومحدداً وكانت طبيعته قريبة من الوعي والفردية، سلخ عن نفسه طبيعته الكلية، حتى إذا بلغ أخيراً الوعي التام، تَعَرَّض لخطر التحول إلى مجرد شكل آليجوري(18) لا يمكن أنْ يَتَخَطَّى حدد الإدراك الواعي، ويتعرض إلى مختلف محاولات التفسير المنطقية غير الوافية”(19) وحين يتجاوز الأدب الفلسطيني حدود الخاص باستخدامه لمثل هذه الرموز التي تجسد كلية التاريخ، فإنه يعبر إلى “العام”، مجسداً الطبيعة الإنسانية الشمولية للمهمة التي ينهض بها الفدائي الفلسطيني في مواجهة الحركة الصهيونية وغيرها من قوى الهلاك والشَّر. ويبدو جليِّاً، الآن، أنَّ القصَّة القصيرة، والرِّوايات الثَّلاث، التي قاربناها لِتعرُّف كيفيَّات توظيفها للرموز المترادفة: التِّنين، والوحش، والذئاب والغول، إِنَّما تنطلق في توظيفها هذه الرُّموز من خصوصية الواقع الفلسطيني، وذلك لأنَّها انطلقت، على اختلاف في الحيِّز النَّصيِّ والمستوى الفني بين رواية وأخرى أو بين روايةٍ وقصَّة، من سَعْيٍّ إبداعي يتوخَّى إعادة تشخيص الشَّرط الاجتماعيِّ التاريخي الذي يحكم الواقع الفلسطيني الذي تعالجهُ مُعالجةً فنيَّة وجمالية، قبل أنْ تعمد إلى توظيف رمز التِّنين وردائفه لتدل به على بعض معطيات هذا الشَّرط المُهلك. وفوق ذلك، فإنَّ الروايات الثلاث والقصَّة، تتقاسم مسألةً أسلوبيَّة تتعلَّق بتقديم تنويعات هذا الرَّمز عبر هواجس وتداعيات شخصياتها: دهرية، حسن، وداد، حمدان، فالروايات الثلاث تتعامل مع هذا الرمز الأصلي الكامن في اللاوعي الإنساني، وهي إذ تبرزه من خلال هواجس أبطالها، فإنها تُفصح عن المفجرات التي أيقظت هذا الكامن من غفوته، وليست هذه المُفجِّرات المُوقظةِ غير معطيات الواقع الثَّقيل، والضَّاغط، الذي تعانيه شخصيات الروايات، كما شخصيات القصَّة، فتشرعُ في مكافحته فور توافرها على وعيٍّ ثوريٍّ، مستنيرٍ، وموقظ. هوامش وإشارات: (1) الرَّاعي حمدان هي إحدى قصص مجموعة “الشارع الأصفر” لتوفيق فيَّاض، وهي تستغرق الصفحات من 3 إلى 51. أُنْظر: توفيق فيَّاض: الشَّارع الأصفر، ، دار العودة، بيروت، الطَّبعة الثَّانية، 1970، من ص 3 إلى ص 51. (2) المرجع السَّابق، ص 43. (3) رشاد أبو شاور: العُشَّاق، ، منظمة التحرير الفلسطينية، دائرة الأعلام والثقافة، بيروت، الطبعة الأولى، أيار (مايو) 1977. ص 117. (4) حول الصيغ المختلفة لأسطورة التنين، وحول المطابقة بين مارجرجس والخضر في أُنْظُر: ريتا عوض: أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، نيسان (أبريل) 1978. وانظر أيضاً: الكتاب المقدس، العهد الجديد: رؤيا يوحنا اللاهوتي، الإصحاح التاسع عشر: “19- 20″، حيث المسيح يحارب وحشاً بحرياً ويقتله. وأيضاً: الكتاب المقدس العهد القديم، سفر حزقيال، الإصحاح التاسع والعشرين: “3”، حيث يشبه حزقيال فرعون مصر بوحش نهري كبير “هأنذا عليك يا فرعون مصر التمساح الكبير الرابض في وسط أنهاره”. (5) رشاد أبو شاور: العسَّاق، ص 131. (6) رشاد أبو شاور: البكاء على صدر الحبيب، دار العودة، بيروت، الطبعة الأولى، 1974. (7) صدرت رواية شجرة الصُّبِّر عن دار القضايا، بيروت، الطبعة الأولى، نيسان (أبريل) 1972، وصدرت الطبعة الثانية، عن دار النشر نفسها في حزيران (يونيو) 1975، ونعتمد هنا الطَّبعة الثانية. (8) المرجع السَّابق، ص 16. (9) المرجع السَّابق، ص 17. (10) المرجع السَّابق، ص 17. (11) توفيق فيَّاض: حبيبتي ميليشيا، الاتحاد العام للكتّاب والصحافيين الفلسطينيين، بيروت، آذار (مارس) 1976، ص 158، 159. (12) المرجع السَّابق، ص 78، 79. (13) النعلبي: قصص الأنبياء المسمى عرائس المجالس، مطبعة العلوم الأدبية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1344ه، ص149. (14) المرجع السابق: ص149. (15) ريتا عوض: المرجع السَّابق، ص 59، وهذه التسمية شائعة في فلسطين، حيث تسمى كنيسة مارجرجس بكنيسة “الأخضر”. (16) آليغوري Allrgory: مصطلح نقدي يعني التَّوازي الأمثولي الذي يحمل دلالة واحدة، وليس هو رمزٌ بأي حال. (17) القول لكارل غوستاف يونع، نقلاً عن ريتا عوض: المرجع السَّابق، ص 93. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post وليد الحسيني يكتب عن : مواقف موقوفة في سجون الكذب next post محمد حجيري يكتب عن : 25 عاما على رحيل ميشال طراد…ألهمته جلنار وغنته فيروز You may also like مايكل آيزنشتات يكتب عن: مع تراجع قدرتها على... 21 نوفمبر، 2024 ما يكشفه مجلس بلدية نينوى عن الصراع الإيراني... 21 نوفمبر، 2024 غسان شربل يكتب عن: عودة هوكستين… وعودة الدولة 19 نوفمبر، 2024 حازم صاغية يكتب عن: حين ينهار كلّ شيء... 19 نوفمبر، 2024 رضوان السيد يكتب عن: ماذا جرى في «المدينة... 15 نوفمبر، 2024 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: ترمب ومشروع تغيير... 15 نوفمبر، 2024 منير الربيع يكتب عن..لبنان: معركة الـ1701 أم حرب... 15 نوفمبر، 2024 حميد رضا عزيزي يكتب عن: هل يتماشى شرق... 15 نوفمبر، 2024 سايمون هندرسون يكتب عن.. زعماء الخليج: “مرحبًا بعودتك... 15 نوفمبر، 2024 الانتخابات الأمريكية 2024: وجهات نظر من الشرق الأوسط 15 نوفمبر، 2024