كان عمر المقاتل في المعركة لا يتجاوز 15 دقيقة وخلال 200 يوم سقط أكثر من مليون ونصف المليون قتيل ونتيجتها غيرت مسار الحرب العالمية الثانية
قبل نحو عام وبالتحديد في فبراير (شباط) 2023، عشية احتفالات روسيا بالذكرى الـ80 للانتصار على القوات الألمانية في معركة ستالينغراد، تحدث الرئيس بوتين قائلا: “إن ما يحدث لا يصدق لكنه حقيقي، نحن مهددون مجدداً بدبابات ليوبارد ألمانية”، ومؤكداً في الوقت نفسه أن “روسيا قادرة على الرد على الدول التي تهددها”.
في ذلك النهار أضاف بوتين في الاحتفال الذي أقيم في مدينة فولغوغراد (ستالينغراد سابقاً)، والواقعة جنوب غربي البلاد: “مرة أخرى حلفاء هتلر يريدون محاربة روسيا على الأراضي الأوكرانية باستخدام باندرفوتسي”، وهو اسم أطلق على أنصار القومي المتطرف الأوكراني ستبيان بانديرا (1909-1959) الذي تعاون مع النازيين خلال الحرب العالمية الثانية.
لم يكن بوتين وحده من استعار من الماضي ذكريات الهجوم النازي على المدينة الروسية ذات الأهمية التاريخية والاقتصادية والعسكرية، فقد سارع الرئيس السابق ونائب رئيس مجلس الأمن القومي الحالي، ديمتري ميدفيديف، إلى القول: “إن روسيا يجب عليها ألا تسمح بقيام نازية جديدة”، في إشارة إلى القوميين الأوكران، وألا تعطيهم الفرصة للانتقام مما حدث منذ 80 عاماً في ستالينغراد، متابعاً “لقد كسرنا العدو حينها ولن ينجح اليوم”.
تبدو قصة معركة ستالينغراد وكأنها من قصص الأساطير الحربية، فقد بدت واحدة من أصعب المعارك وأكثرها دموية في الحرب العالمية الثانية، لا سيما أن عدد قتلاها تجاوز المليون ونصف المليون قتيل، وانتهت بهزيمة ساحقة للجيوش النازية وأسر قائدهم المشير باولوس.
كيف بدأت هذه المعركة الضروس، ولماذا كان التركيز من جانب قوات الفوهور على هذه المدينة الروسية تحديداً، وهل كانت بالفعل الموقعة التي كتبت نهاية الحرب العالمية الثانية، لا سيما أنه لم يكن أمام النازيين المدحورين وقتها سوى التراجع على طول الطريق حتى برلين، إلى نورمبرغ، ليختفوا من الوجود؟
عملية بربروسا وطريق ستالينغراد
لماذا اعتبر هتلر هذه المدينة ذات أهمية خاصة بالنسبة له، عسكرياً ودعائياً بنوع خاص؟
بداية، كان لهتلر أن ينظر إلى هذه المدينة بوصفها ذات قدر استراتيجي كبير وفاعل، لا سيما على صعيد التصنيع العسكري في قلب الاتحاد السوفياتي، كما كان لاسمها الذي يعني “مدينة ستالين”، تحد خاص بالنسبة إلى الفوهور، إذ كانت تحمل اسم عدوه الأشد ضراوة، “جوزيف ستالين“، زعيم الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت.
كان لسقوط هذه المدينة عسكرياً، بيد قوات المحور، أن يحدث أثراً كبيراً في معنويات القوات السوفياتية، وليس سراً القول إن هتلر كان يكره الشيوعية، بمقدار كرهه لليهود وربما أكثر، ولهذا بدا له أن نهاية “الجيش الأحمر” لا بد لها أن تنطلق من ستالينغراد.
تمتد مدينة ستالينغراد بمحاذاة الضفة اليمنى لنهر الفولغا، ويبلغ طولها 30كم، ولها أهمية صناعية خاصة، وتعتبر المنطقة من الأراضي المنبسطة التي تكثر فيها المستنقعات والسبخات، وهي امتداد للسهل الأوروبي، وكانت ولا تزال من أغنى مناطق الاتحاد السوفياتي السابق، وروسيا حالياً، لناحية الثروات المتنوعة.
يعن لنا التساؤل: هل كانت معركة ستالينغراد مجرد معركة عسكرية، أم أن سياقات أيديولوجية بعينها، كانت قد ملأت رأس هتلر ضد الاتحاد السوفياتي برمته، ولم توفر تلك السياقات الحصول على منافع اقتصادية براغماتية في كل الأحوال؟
جاءت معركة ستالينغراد ضمن إطار أوسع عرف باسم عملية بربروسا أو Unternehmen Barbarossa، وهو الاسم الرمزي الذي أطلقته دول المحور على السعي العسكري لغزو الاتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية.
بدا واضحاً أن التجهيزات الألمانية للقيام بهذه العملية غير مسبوقة في تاريخ المعارك، فقد حشد الألمان نحو 5.4 مليون جندي من قوات المحور على جبهة بطول يكاد يصل إلى ثلاثة آلاف كم.
على أن التساؤل المثير هو الاسم غير التقليدي لهذه العملية “بربروسا”… لماذا وما المعنى والمغزى؟
سميت العملية باسم “بربروسا” نسبة إلى الإمبراطور الألماني فريدريك الأول بربروسا (1122- 1190)، حيث تقول الأسطورة إن بربروسا سيستيقظ من سباته وينقذ ألمانيا حينما تحتاج إليه. شكلت عملية بربروسا الجزء الأكبر من معارك الجبهة الشرقية خلال الحرب العالمية الثانية.
أما الطرح الأيديولوجي وراء العملية فيتمحور حول فكر ألمانيا النازية الراغبة في الاستيلاء على غرب الاتحاد السوفياتي، وتحويله إلى مستوطنات للألمان.
لم يكن الفكر النازي والفاشي ليغيب عن التوجهات الألمانية بالنسبة لهذه الرقعة من الأراضي السوفياتية، ذلك أن هتلر كانت تدور في رأسه أفكار حول استخدام الروس السلافيين، أصحاب البلاد الأصليين كعبيد سخرة للعمل في المجهود الحربي لقوات المحور، وتالياً الاستيلاء على احتياط النفط من القوقاز، عطفاً على الموارد الزراعية من الأراضي السوفياتية.
هل كانت عملية بربروسا بمثابة خيانة من جانب الفوهور للاتحاد السوفياتي؟
مؤكد أن تعبير الخيانة يليق بما قام به هتلر، لا سيما أنه وقبل عامين من هذه العملية الطويلة النفس والأجل، التي تخللتها عمليات عسكرية عديدة، كانت ستالينغراد أبشعها وأشنعها، كانت ألمانيا قد وقعت مع الاتحاد السوفياتي اتفاقات سياسية واقتصادية لأغراض استراتيجية.
كان من الواضح أن الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين، يريد أن ينأى بنفسه عن الدخول في معارك طاحنة ترهق البلاد وتزهق أرواح العباد مع القيادة الألمانية المتطرفة إلى حد الجنون بقيادة هتلر.
غير أن رؤية هتلر للرايخ الثالث، وشروحات وطروحات “الجنس الآري”، دفعت القيادة العليا للجيوش الألمانية للقيام بالتخطيط لغزو الاتحاد السوفياتي في يوليو (تموز) 1940، تحت اسم “عملية أوتو”، التي وافق عليها هتلر في 18 ديسمبر (كانون الأول) 1940.
لم يكن الاستعداد لهذه المعركة استعداداً عادياً، بل كان أقرب ما يكون إلى القضاء المبرم على الاتحاد السوفياتي، غير أن هذا لم يحدث، فقد عاندت الأقدار عملية بربروسا، ولم تصل إلى هدفها النهائي أي القضاء على الاتحاد السوفياتي.
كانت الحرب تجري بشكل جيد للألمان، حيث غواصاتهم من طراز U-boat، تتسبب في إزعاج بالغ لقوات حلف الأطلسي، وفي شمال أفريقيا، أظهر القائد “أروين روميل”، ثعلب الصحراء مهارة فائقة مكنته من احتلال مدينة طبرق الليبية، ومضت النجاحات إلى غرب مصر.
على الجانب الشرقي للاتحاد السوفياتي، كانت الجبهة العسكرية تشهد نوعاً من الاستقرار على طول الخط الرابط بين مدينتي ليننغراد شمالاً إلى روستوف جنوباً، تخللتها بعض الهجمات خصوصاً لجهة موسكو شمالاً وخاركوف جنوباً، حيث أجبرت القوات الألمانية على التراجع بعض الشيء، لكنها لم تكن ذات تهديد كبير.
بدت الأجواء مغرية للألمان لتطوير القتال، وبنوع خاص فإن هتلر كان يدرك أن الولايات المتحدة الأميركية لن تظل بعيدة طويلاً عن دائرة المعارك السائرة والدائرة حول العالم وأنها عما قريب ستدخل الحرب، مما عجل من عملياته العسكرية، التي ستكون ستالينغراد محورها، لحرمان السوفيات من مصادرها، وحيازته ما يؤمن به حاجات جيوشه من الموارد الإضافية.
ستالينغراد تتجهز للمعركة
بالوصول إلى نهاية يونيو (حزيران) من عام 1942، بدت القيادة الروسية بزعامة ستالين تستشعر قرب المعركة من ستالينغراد بنوع خاص.
كان زحف القوات الألمانية، مرغماً للجيش الأحمر على التراجع في الجناح الجنوبي من الجبهة على عمق 150-400كلم، وتمكنت من بسط سيطرتها على مدينتي خاركوف وفوروشيلوفغراد (لوغانسك حالياً) في أوكرانيا.
أدركت الاستخبارات الحربية السوفياتية أن الألمان سيهاجمون ستالينغراد بضراوة غير مسبوقة، ما دفعهم لاتخاذ مجموعة من الإجراءات التي تسحب البساط من تحت نفوذ الألمان، لكنها في الوقت عينه كانت تتهدد حياة سكان المدينة الروس.
أمر ستالين بجمع كل ما في الداخل من حبوب وماشية ونقلوا عربات السكة الحديد عبر نهر الفولغا بعيداً كي لا تصيبها الأضرار، ما جعل المدينة تعاني نقص الغذاء حتى قبل بداية الهجوم الألماني.
وفي الوقت عينه، سارع ستالين بإرسال جميع ما توفر من قوات إلى الضفة الشرقية لنهر الفولغا، وبلغ به الأمر أن استدعى حتى القوات الكائنة في سيبيريا أقصى الشمال.
في 12 يوليو (تموز) من عام 1942، جرى إنشاء جبهة ستالينغراد تحت قيادة المشير “سيمون تيموشينكو”، الذي أسند إلى جيوشه مهمة وضع خطوط دفاع حصينة بطول الشاطئ الأيسر من نهر الدون، ولتبدأ في 17 يوليو نفسه العملية الدفاعية الاستراتيجية، وفي 27 من الشهر نفسه أصدر القائد العام جوزيف ستالين، أمره الشهير بعدم التراجع “ولا خطوة واحدة إلى الخلف”.
السؤال المثير هنا: هل كان غزو ستالينغراد مقرراً ضمن بداية الهجوم على الاتحاد السوفياتي؟
الجواب مفاجأة، ذلك أن هتلر في البداية لم يكن قد وضع عينه على ستالينغراد، إلا أنه وعلى رغم تحذيرات جنرالاته، أمر مجموعة الجيوش النازية بتقسيم القوات إلى مجموعتين، مجموعة جيوش “أ” وتحوي الجيش الـ17، والجيش الأول بانزر (دبابات)، بقيادة فيلهلم لست، وأوكلت لها مهام مواصلة الهجوم نحو حقول نفط القوقاز، في حين أوكلت لمجموعة الجيوش “ب” وتحتوي الجيش السادس الذي يقوده فريدريك باولوس، والجيش الرابع “بانز” الذي يقوده هرمان هوث، مهمة الهجوم على ستالينغراد ومنطقة نهر الفولغا، كما كانت قيادة مجموعة الجيوش “ب” موكلة للماريشال فيدرو فون وبعده أوكلت للجنرال ماكسميليان فيخس.
كيف بدأت المعركة وكيف جرت أنهار الدم في ستالينغراد؟
متوسط عمر المقاتل 15 دقيقة
يستطيع المرء أن يملأ كتباً عدة بأحداث تلك المعركة الأسطورية، التي لا يوجد لها مثيل في التاريخ العسكري المعاصر، حيث قدر عمر المقاتل في هذه المعركة بنحو 15 دقيقة فقط، مما يشرح كيف وصل عدد القتلى إلى نحو مليون ونصف المليون قتيل خلال صولاتها وجولاتها.
على مدى تسعة أشهر تقريباً، استمر القتال الضاري بين القوات الألمانية المدججة بالعدة والعتاد المتقدمين، ونظيرتها السوفياتية المقاومة، من 17 يوليو (تموز) 1942، إلى الثاني من فبراير (شباط) 1943.
بدأ الهجوم على ستالينغراد من خلال قصف سلاح الجو الألماني للمدينة، الذي استبق دخول القوات البرية، منفذاً حملات قصف جوي عنيف ومتواصل حولت المدينة إلى أنقاض وأطلال، مما ارتد عكسياً على الجيش الألماني وأرغمه على التخلي عن تكتيكه الناجح المعرف بـ”حرب البرق” التي تعتمد بصفة كبيرة على سلاح الدبابات والهجمات السريعة الخاطفة، غير أنه في ستالينغراد وجد الجيش النازي نفسه غارقاً في حرب مدن من بيت إلى بيت ومن شارع إلى شارع.
يعن لنا قبل الدخول في عمق مشاهد المعركة التساؤل: هل أصاب الغرور الجيش الألماني بعد المعارك الناجحة الكبيرة التي خاضها في عموم القارة الأوروبية التي سقطت دولها في يديه، ما عدا بريطانيا التي عصت عليه؟
غالب الظن أن الانتصارات الكبيرة التي حققها قد خيلت له أن الأمر ممكن ووارد، حتى من دون الاستعانة بالأسلحة الهائلة التي أسقطت الدفاعات الفرنسية الفولاذية والأسمنتية، كما الحال مع خط “ماجينو” الشهير في فرنسا… ما الذي استخدم هناك، ولماذا لم يجرب الجيش الألماني استخدام هذا السلاح الفتاك في ستالينغراد؟
خلال الهجوم الألماني على فرنسا، تم استخدام دبابة ذات مدفع ألماني ثقيل مثبت على سكك حديد خاصة، عرف باسم “غوستاف”، وذلك لهدف رئيس واحد، وهو تحطيم القلعة الرئيسة الحصينة في تحصينات خط ماجينو الفرنسية التي كانت توقف تقدم القوات النازية تجاه الأراضي الفرنسية.
ولكي تحقق القوات الألمانية هذا الهدف، توجب على صانعي هذه الدبابات جعلها قادرة على إطلاق ذخيرة يمكنها اختراق سبعة أمتار من الخرسانة المسلحة أو متر كامل من الفولاذ المضاد للمدفعية وكل ذلك من دون الدخول ضمن مجال المدفعية الفرنسية.
لم يستعن الألمان في ستالينغراد بهذه الدبابات، ثم حاولوا لاحقاً الاستعانة بها، لكن الوقت كان قد فات.
فات الألمان كذلك الاستفادة من شبكات التواصل اللاسلكي الخاصة بهم، التي لم يكن الروس يستطيعون فك شفراتها بسهولة ويسر، وأهملوا فكرة اللعب على العامل النفسي كما فعلوا سابقاً مع بريطانيا حيث قاموا بقصف مصانع تعفين الخبز التي استخدمتها بريطانيا لإنتاج المضاد الحيوي “البنسلين” لحماية جنودها من الميكروبات.
ما الشيء الوحيد الذي أجاد الألمان فعله في سماوات ستالينغراد، والذي بدا لاحقاً أنه غير كاف لامتلاك زمام المعركة؟
تعرضت ستالينغراد، لأول قصف جوي ضخم في 23 أغسطس (آب) 1942، مما ألحق بها دماراً هائلاً وسوَّى القسم الأكبر منها بالتراب، فقد هاجم الأسطول الجوي النازي المدينة بكل قوته ودمَّر في نصف يوم أكثر من نصف المباني.
بدا المشهد وكأنه ينحو نحو الإبادة لكل كائن حي يتحرك أو جماد ثابت على الأرض، فبعد القنابل الثقيلة شديدة الانفجار التي حوَّلت المباني إلى ركام، استخدمت الذخيرة الحارقة مما تسبب في اندلاع عديد من الحرائق.
دمَّرت ألسنة اللهب المناطق المركزية في المدينة، وانتشرت إلى الضواحي، وبدت ستالينغراد أطلالاً مغطاة بأدخنة الحرائق، وتوهم الألمان أنها في طريقها إلى السقوط.
خلال يوم واحد فقط، نفذت القوات النازية ما يصل إلى ألفي طلعة جوية، وشاركت نحو ألف طائرة من مختلف الأنواع في الهجوم بطريقة عشوائية، واستخدم في القصف أسلوب الأرض المحروقة، وهي استراتيجية عسكرية أو طريقة عمليات يتم فيها “إحراق” أي شيء قد يستفيد منه العدو عند التقدم أو التراجع في منطقة ما.
كتب عديد من المؤرخين أنه في نهار 23 أغسطس وحده، قتل ما بين 40 و90 ألف شخص، ودمرت البنية التحتية للمدينة بشكل شبه تام، وعلى رغم ذلك فإن ستالينغراد لم تركع.
أحد أفضل من كتبوا وصفاً تفصيلياً لما ظهر في ذاك النهار، المارشال السوفياتي “أندريه إيفانوفيتش إريمينكو”، الذي قال “إن ما ظهر أمامنا في ذلك النهار في ستالينغراد صدمنا وبدا كما لو أنه كابوس مرعب. ارتفعت في كل مكان أعمدة ناجمة من انفجارات القنابل الحارقة. تعالت أعمدة ضخمة من اللهب إلى السماء في منطقة مرافق تخزين النفط، وتمددت ألسنة اللهب الناجمة عن احتراق النفط والبنزين إلى نهر الفولغا. كان النهر يحترق، وكانت القوارب البخارية تحترق على طريق ستالينغراد. الأسفلت كان يغلي من الحرائق في الشوارع والساحات. كان هناك ضجيج لا يمكن تصوره يمزق الآذان بموسيقاه الجهنمية. دوي القنابل المتطايرة في الأجواء ممزوج بهدير الانفجارات، أصوات تهشم المباني المنهارة، طقطقة النيران المستعرة”.
هل كانت هذه حرباً جهنمية؟ ربما السؤال الأكثر أهمية، كيف استطاع الروس على رغم فداحة الخسائر التي حلت بهم أن يصدوا ويردوا مثل تلك المعركة وأن يحققوا في نهاية الأمر النصر المؤزر؟
عملية أورانوس والنصر السوفياتي
بدا واضحاً أن الجيش السادس الألماني يستخدم القوة الضاربة، ولم تكن الفرق العسكرية الروسية أقل رغبة في القتال، فقد تصدت الفرقتان 72 و74 في الجيش الأحمر، للقوات الألمانية المتقدمة.
كان ميزان القوة مختلاً بشدة لصالح الألمان، لكن المواجهة بدأت تأخذ شكل حرب شوارع مع تحصن السوفيات في المجمع الصناعي المطل على نهر الفولغا شرقي المدينة.
لكن على رغم ذلك، بدا الاختلاف بين موقف الجيشين واضحاً، السوفيات في دفاع والألمان في هجوم، غير أن السوفيات كانوا وبحسب بعض الرواة، يدافعون عن أرضهم شأنهم شأن القطة المحشورة في زاوية، التي سرعان ما “تستأسد” حالما وجدت نفسها في موقف غير قابل للتراجع، ولا تملك شيئاً لتخسره، كي تظهر كل القوة التي لديها.
بدت المدينة وكأنها أطلال من الخرائب، حيث احتدم القتال من شارع إلى شارع، ومن حارة إلى حارة، غير أنه على رغم تمكن الألمان من السيطرة على المدينة بأكملها، فإن المقاومة الروسية الشديدة، أفشلت كافة خطط الجيش الألماني الذي تمسكت قواته بالضفة الغربية لنهر الفولغا؟
هل كانت عملية “أورانوس” مفتاح النصر للسوفيات، وبداية الهزيمة المذلة للألمان؟
أدت هذه العملية إلى تطويق الجيش السادس الألماني والجيشين الثالث والرابع الرومانيين (وهما تشكيلان ضمن الجيش الألماني)، وقطاعات من جيش الدبابات الرابع.
بدأ التخطيط للعملية في سبتمبر (أيلول) 1942، وطوَّرت الخطة بالتوازي مع خطط لحصار وتدمير مجموعة جيش الوسط الألمانية والقوات الألمانية في القوقاز.
استغل الجيش الأحمر الاستعداد السيئ للقوات الألمانية لفصل الشتاء، وكذلك حقيقة أن قوات الجيش الألماني كانت متمددة فوق قدرتها قرب ستالينغراد، مستخدمة جنوداً رومانيين لحراسة أجنابها.
جهزت نقاط الانطلاق للعملية على طول القطاع من الجبهة الذي يواجه القوات الرومانية. ولم تكن قوات المحور مجهزة بالمعدات القادرة على التعامل مع المدرعات السوفياتية.
نتيجة لطول الجبهة التي تشكلت بعد الهجوم الألماني في الصيف، وفي محاولة للاستيلاء على مدينة ستالينغراد وحقول النفط في القوقاز، كانت القوات الألمانية والقوات الأخرى من دول المحور المشاركة على هذه الجبهة مضطرة إلى حراسة قطاعات تتجاوز ما كان مخططاً لها.
في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 1942، شن السوفيات هجومين متزامنيين ضد مواقع القوات النازية الموجودة داخل المدينة، تلك التي انهارت بسرعة بعد معارك عنيفة مع السوفيات الذين تمكنوا من محاصرة وتطويق نحو 300 ألف من قوات الجيش السادس والجيش الرابع الألمانيين.
نجحت عملية أورانوس بسب معرفة السوفيات موقع “أكل كتف” الجيش السادس الألماني، حيث قاموا بمهاجمة الجيش الروماني التابع له المعرف بضعف قواته ببقية عناصر الجيوش الألمانية.
الجنرال الأبيض من نابليون لهتلر
من بين أهم الأسباب التي يعزى إليها انكسار الجيوش الألمانية في ستالينغراد، الدور الذي لعبه الجنرال الأبيض، “الثلج”، وهو نفس الدور الذي لعبه مع قوات الإمبراطورية الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت.
بحلول الشتاء ومع تواصل الحصار، بدأت المقاومة الألمانية تشعر بالوهن تارة والعجز تارة أخرى، فقد تسبب البرد والجوع في إنهاك الجنود، كما تعطلت الآليات والمدرعات لقلة الوقود، إضافة إلى نقص الذخيرة، وفي وقت اشتدت فيه الهجمات السوفياتية التي كانت تعمل على إنهاء وجود الألمان في المدينة.
بدا هتلر وكأنه هو من تسبب في هزيمة قواته في هذه المعركة، فقد رفض قيام الجيش السادس بكسر الحصار والخروج من ستالينغراد حيث أمرهم بالبقاء مهما كلفهم الثمن، مع ضمان وصول مزيد من المؤن والإمدادات، وذلك من طريق جسر جوي، وقيام القوات الأخرى بهجوم مضاد لكسر الحصار وتوحيد القوات.
فشلت مخططات هتلر التي عرفت باسم عملية “عاصفة الشتاء”، إذ عجزت عمليات التموين عبر الجو من نقل كميات كافية من المؤن والذخائر لتغطية حاجات الجيش، ثم توقفت كلياً بعد احتلال الجيش الأحمر للمطارات التي كانت تستعملها القوات الألمانية سواء داخل المدينة أو القريبة منها.
قاد كل ذلك للانهيار التام للجيش الألماني السادس الذي اضطر قائده فريدريك باولوس للاستسلام في الثاني من فبراير 1943، ومعه معظم قوات جيشه رغم مواصلة البعض الآخر القتال إلى أن تمت تصفية الجيش بأكمله.
استمرت المعركة قرابة 200 يوم، وخسر فيها الألمان ما يعادل ربع قواتهم العاملة على الجبهة الروسية.
كتبت الصحافة العالمية في تلك الأيام عن المعركة تقول “ستالينغراد قلعة محاطة بطوق من الفولاذ”، فيما أشار جندي ألماني في مذكراته إلى أن “الروس وقفوا في مواجهة الألمان مثل كتل من الحجارة”.
المزيد عن: معارك فاصلةمعركة ستالينغرادعملية بربروساجوزف ستالينأدولف هتلرألمانيا النازيةالاتحاد السوفياتينهر الفولغاالحرب العالمية الثانية