ثقافة و فنونعربي زيارة الفرنسي ميريميه إلى كورسيكا تنتج واحدة من أقوى قصصه by admin 16 ديسمبر، 2022 written by admin 16 ديسمبر، 2022 27 “كولومبا” بطلة قروية تحافظ على تقاليد الثأر المتوسطية انتقاماً لأبيها وتوريطاً لأخيها اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب هناك في المقام الأول “كولومبا” بروسبير ميريميه الكورسيكية التي كتب عنها الروائي الفرنسي إثر زيارة قام بها ذات مرة إلى جزيرة كورسيكا فهاله أن يكتشف أن منظومة تحقيق الناس للعدالة خارج إطار الدولة لا تزال قائمة وأن كل ثأر يرتكب هناك خارج إطار عدالة الدولة لا يزال يعتبر مصدر فخر للقائمين به، ولكن على خطى ميريميه راح الأدباء يكتبون روايات تسير على الدرب نفسها من دون أن يكونوا فرنسيين ومن دون أن يزوروا كورسيكا. كانوا ألماناً وإيطاليين ومن ألبانيا ولبنان (إسماعيل كاداري وأمين معلوف وجبور الدويهي…)، ومن مصر (بهاء طاهر في “خالتي صفية والدير”…)، عدا عن ألكسندر كامبل ماكنزي وفكتور راداغليا وهنري بول بوسيه ونيكولا فان وسترهاوت من الذين لم يكتفوا بالدنو من الموضوع ذاته بل أعطوا بطلاتهم اسم كولومبا جاعلينه بدورهم عنواناً لرواياتهم. فبات ثمة خلال النصف الثاني من القرن الـ19 نحو نصف دزينة من روايات تحمل عنوان “كولومبا” وإلى جانبها ما لا يقل عن دزينتين أخريين تحملان الموضوع نفسه مع عناوين مختلفة. بروسبير ميريميه (موقع ويكيميديا) ثارات متوسطية إذاً موضوع رواية “كولومبا” الفرنسية، هو الثأر الذي كان لفترة قريبة لا يزال يمارس في عديد من بلدان مناطق البحر الأبيض المتوسط وكان يمارس بشكل واسع في كورسيكا خلال الزمن الذي كان يزور فيه بروسبير ميريميه تلك الجزيرة التي بدت له غارقة في تقاليد عائلية تعود إلى أزمنة قديمة. وهذا النوع من الثأر كان يمارس من قبل عائلات تعجز عن الحصول على ما تعتبره حقاً لها بواسطة القانون. صحيح أن ميريميه كان يزور الجزيرة في تلك الحقبة من أواخر ثلاثينيات القرن الـ19 بوصفه مفتشاً يتعلق عمله بالمناطق الأثرية ىالصروح التاريخية، لكنه لم يستطع مقاومة تحويل ما روي له في ذلك الحين ويتعلق بحكاية ثأر أوقعت عديداً من الضحايا، إلى تلك القصة الطويلة التي ما إن نشرت حتى اعتبرت من أنجح وأقوى أعماله. وكانت القصة قصة تلك المرأة كولومبا التي إن لم يبدل اسمها الأول فإنه جعل لها اسم عائلة مختلفاً. فكولومبا الحقيقية كانت لا تزال حية في ذلك الحين تعيش على ذكريات نحو نصف دزينة من أفراد أسهمت في مقتلهم لتحقق ثأرها لمقتل أبيها. والحقيقة أنها لم تكن هي من حقق ذلك بل أخوها الذي أجبرته على قتل قاتلي أبيها، لكنها حين اجتمع بها ميريميه لم تبد أي ندم بل بدت فخورة بما فعله أخوها، مكرهاً على أي حال، آسفة فقط لأن ثأرها لم يكتمل حيث إن المحاكم وأهل البلدة الجبلية التي تعيش فيها اعتبرت قتل الأخ ابني قاتل أبيه وأبيها نوعاً من الدفاع المشروع عن النفس. وهو حكم يترتب عليه اعتبار الثأر وكأنه لم يكن. في انتظار الحصار ولعل ما لفت نظر ميريميه إلى جانب الألوان المحلية للحياة القروية في كورسيكا تزينها تلك التقاليد المتمثلة في احتواء كل بيت على بئر وكميات من المؤونة تكفي لحصار طويل الأمد في ملجأ من الداعين إلى ثأر ما أو المنتظرين لحظة تحقيقه، هو أن حكاية كولومبا الحقيقية التي رويت له بكونها حدثت قبل وصوله بست سنين، تجعل من كولومبا بطلتها مع أنها لم تقتل بنفسها ولم تقتل. كل ما في الأمر أنها بدت للكاتب بطلة تراجيدية على نمط يمكن العثور عليه في المسرح الإغريقي القديم، هي التي جعلت من أخيها الذي انتظرت عودته من الحروب النابليونية مكلفاً من قبلها بالقيام بالمهمة المقدسة، مهمة الثأر لوالدهما الذي قتله محام ينتمي إلى عائلة منافسة ولا بد اليوم من الانتقام له من المحامي القاتل بل من عدة أفراد ينتمون إلى عائلة هذا الأخير. والحال أن العقدة تقوم هنا في تردد الأخ ثم رفضه القيام بذلك الواجب العائلي الذي نتج عن تبرئة المحكمة للمحامي القاتل الأمر الذي كان قد أفرح الأخت أول الأمر، لأن ذلك يتيح لها أن تثأر بنفسه، لكنها لن تفعل لأن عبء ذلك مناط بالأخ العائد. وهذا الأخ كان قد عاد وفي ركابه خطيبة إنجليزية تحاول شده إلى حكم القانون ومنطق الدولة والقضاء بعيداً من “تلك الممارسات الهمجية” على الرغم من تعبيرها عن افتتانها بالتقاليد المحلية التي نكاد في القصة لا نراها إلا بعينيها! غلاف إحدى الطبعات الأولى من رواية “كولومبا” (أمازون) غايتان ومن الواضح في هذا السياق أن ميريميه كانت له من كتابته هذه الحكاية غايتان، كان يريد في المقام الأول أن يتعمق في الحديث عما فتنه بدوره وكذلك عما لم يستسغه من الحياة في تلك المنطقة من العالم، في الوقت نفسه الذي جعل من الأخ في تردده والصراع الذي يعتمل لديه بين استجابته لمطالبة أخته التي وصلت إلى ذروتها في إخطاره بأنه إن لم يقم هو بالمهمة ستقوم بها هي ما سيترتب عليه مقتلها وقد صانت شرف العائلة، وعار سيلحق به إلى أبد الآبدين إن ترك أخته تفعل ذلك، وبين محاولات خطيبته مس نيفيل صرفه عن ذلك كله والاحتكام إلى القضاء. وهذا ما يجعل الصراع يشتد لدى الأخ الذي لأنه عرف “العالم الخارجي” عن كثب بات ميالاً لرأي خطيبته وعلى الأقل حتى اللحظة التي سيجد نفسه وحيداً ذات يوم في منطقة جبلية معزولة في مواجهة ابنين للمحامي، فلا يكون منه وهو الجندي النظامي المسلح إلا أن يقتلهما، لكن المشكلة تكمن هنا في أنه إذ يقبض عليه، وبرضاه تحديداً، تقرر المحكمة أن جريمته المزدوجة كانت من نوع الدفاع عن النفس وتطلق سراحه، ما تعتبره أخته هزيمة شخصية لها وتمريغاً لشرف العائلة في الوحل. على هامش الحقيقة مهما يكن من أمر، من الواضح هنا أن بروسبير ميريميه (1803 – 1870) في كتابته لهذه الحكاية محولاً “بطلتها” إلى شخصية تراجيدية على النمط المسرحي الإغريقي كما أشرنا، لم يتمسك تماماً بالحكاية الحقيقية التي رويت له واختتمها بما روته له شخصيتها الرئيسة بنفسها التي طالت تغييراته عمرها. فهو، حين وقعت الأحداث الحقيقية التي حولها إلى قصة بناها على طريقته الخاصة، كانت تقترب من الـ60 فجعلها في القصة صبية حسناء ترفض الاقتران بأي شخص قبل أن تحقق ثأرها الذي عولت على أخيها للقيام به. وفي الحكاية الحقيقية التي وقعت في عام 1830 وخلال مشادة عنيفة وقعت بين عائلتين كبيرتين ونافذتين من عائلات المنطقة، بسبب رفض شاب من أولى العائلتين وهي عائلة دوراتسو الزواج من واحدة من بنات العائلة الثانية كارابيللي كان قد أفسدها، يقع ثلاثة قتلى اثنان من آل كابيللي وواحد من آل دوراتسو. وعلى الفور تتحرك كولومبا كارابيللي المعتبرة روح هذه العائلة والمحافظة على سمعتها ومكانتها للثأر للوصول إلى الثأر رافضة الاعتراف بحكم المحكمة التي حاولت تهدئة الأمور وعلى ذلك النحو تتولى كولومبا تنظيم مواجهتين أخريين بين العائلتين تسفر عن أربع ضحايا جدد من بينهم ابن كولومبا الحقيقية المدعو فرانسوا. وهكذا تعتبر كولومبا نفسها فاشلة مرات عديدة متتابعة يحرقها لهيب الانتقام في انتظار عودة أخيها… وبقي أن نذكر هنا أن البيت الذي كانت تقيم فيه كولومبا الحقيقية بات يعتبر منذ ذلك الزمن السحيق معلماً من معالم المنطقة يزوره السياح ويستعيدون فيه بمساعدة أدلائهم من أبناء البلدة ذكريات تلك المرأة التي تحولت إلى شخصية تاريخية وقد أعاد بروسبير ميريميه في روايته الأجمل هذه تصويرها بعنفها وإحساسها بمفهوم الشرف، امرأة من خارج العالم تعيش في منطقها الخاص وتموت وقد غمرها إحساس بالفشل والعار يغلب على أي حزن كان يمكن أن تستشعره رأفة بأخيها لو أنه قضى في تلك الصراعات الانتقامية. المزيد عن: جزيرة كورسيكا\بروسبير ميريميه\إسماعيل كاداري\أمين معلوف\بهاء طاهر\رواية كولومبا 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post ماذا يعني الحظر السياسي المفروض على إمام أوغلو؟ next post هل يعاني لاعبو كرة القدم من أمراض عقلية؟ You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024