ثقافة و فنونعربي زولا يرسم صورة إتنوغرافية غير معهودة لفرنسا by admin 1 سبتمبر، 2021 written by admin 1 سبتمبر، 2021 11 “كراسات تحقيقات” مجرد عمل علمي وضعه الكاتب في خدمة إبداعاته الروائية اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب لو كان الكاتب الفرنسي إميل زولا قد عاش خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وقُيض له أن يكون طالباً جامعياً في صف رولان بارت في “كوليج دي فرانس”، مشاركاً في الاستماع إلى العالم السيميولوجي، الناقد الكبير وهو يلقي دروسه للدورتين 1978 – 1979 و1979 – 1980، لأصابه قدر كبير من الفخر والرضى عن الذات، إذ يكتشف أن مجمل تلك الدروس التي قدمها بارت تحت عنوان “تحضير الرواية” تكاد تنطبق عليه حرفياً. فالحال أن ما من كاتب آخر اشتغل بقدر ما فعل زولا على التحضير لكتابة رواياته، لا سيما منها ما ينتمي إلى سلسلته الاجتماعية “آل روغون – ماكار” المؤلفة من نحو عشرين حلقة تتابع بأسلوب طبيعي يكاد يكون فوتوغرافياً إلى حد كبير، تطور حيوات أفراد ينتمون إلى عدد قليل من الأسر الباريسية وغير الباريسية عند أواسط القرن التاسع عشر وصولاً إلى بدايات القرن العشرين. ونعرف أن طبيعة تلك الروايات، بل طبيعة اشتغال زولا على أدبه بشكل عام، كان يجبره على ذلك العمل التحضيري الدؤوب الذي سيقول بارت بعد قرن وأكثر، إن ما من كتابة حقيقية لرواية حقيقية من دونه. ولئن كان بارت يعمم خالطاً في حديثه أنواع الروايات وتياراتها مفصلاً في دروسه نماذج اختارها بعناية مما هو معروف عن أساليب وعادات كتاب معينين في تحضير عملهم، فإن لزولا حصة الأسد من الاهتمام، وتحديداً لأن نوعية رواياته نفسها تتطلب ذلك. دراسات ميدانية فروايات زولا كما هو معروف، تاريخية واجتماعية و”أنثروبولوجية” وعائلية، وتتابع ليس فقط تاريخ أبناء العائلات التي يخضعها الكاتب إلى التشريح والتحليل، بل كذلك تاريخ تطور المجتمع من خلالهم وتطور العمران والسوق التجارية والصناعة والاقتصاد وحتى الاستهلاك عموماً. فإذا كان بارت يلح في دروسه الثمينة إلى أن كل نص سردي يكون عادة في حاجة إلى تحضير، فمما لا شك فيه أن عمل زولا يبدو لنا الأكثر حاجة إلى شتى أنواع التحضير مادياً كان أو جغرافياً، ميدانياً أو أرشيفياً، سيكولوجياً وإلى آخر ما هنالك. ولعل زولا كان مدركاً لهذا الواقع حين تعمد أن يترك وراءه، إضافة إلى ألوف الصفحات التي يشغلها متنه الروائي الضخم، ألوفاً أخرى من الأوراق والوثائق والمدونات والصور والرسوم، وحتى الرسائل المتبادلة ومحاضر تلك اللقاءات التي كان يجريها مع حملة الذاكرة والأمينين على مخلفات الماضي… وإذا كانت سلسلة كتب “أرض البشر” التي أسسها جان مالوري لدى منشورات “بلون” الفرنسية قد نشرت مجموعة كبيرة من تلك الوثائق والصفحات في كتاب غني إلى حد مدهش، فإن ثمة ألوفاً أخرى لا تزال في حاجة إلى أن تنشر لتشكل كنزاً أدبياً بالغ الأهمية. غلاف الطبعة الأولى من كراسات تحقيقات (منشورات بلون الفرنسية) من الخيال ولكن… وفي انتظار نشرها جميعاً لا يتوقف القارئ عن البحث عن متعته في هذا السياق من خلال قراءة وإعادة قراءة النص الذي نشرته “أرض البشر” بعنوان “كراسات تحقيقات” في عام 1986، وأثار يومها ضجة وإعجاباً عامين، إذ ذكر الناس بأن زولا لم يأت برواياته من خياله، بل أتى بها من أرض الواقع ومن حيوات أناس حقيقيين، ربما ابتكر لهم شخصيات ومواقف وصنع علاقات، لكنه صورهم في بيئات حقيقية كان يعرفها أو هو تعرف إليها للمناسبة، حيث كان يصطحب أقلامه وأوراقه، وربما في مرحلة لاحقة كاميرات بدائية تعلم وإن بصعوبة كيف يستخدمها، ليضع كل ما ينجزه بواسطتها عبر جولاته أمام عينيه في نهاية الأمر مستخدماً كل ذلك لرسم خلفيات الأماكن وتصوير تأثير مرور الزمن وما إلى ذلك. والحقيقة أن في إمكان القارئ أن يستكشف ما كان يسم عمل زولا من نفس ستاخانوفيتشي (نسبة إلى ذلك العامل السوفياتي الذي حقق أرقاماً قياسية في تركيب أحجار البناء) ودقة بنديكتية (مأثورة عن طائفة البندكتيين التي لا تتوقف عن العمل بكل دقة ومهارة)، ولو أحياناً لتدبيج عشرة أسطر أو عشرين كان يمكن له، مثلاً، أن ينجزها من ذاكرته! جهود متضافرة في هذا السياق يمكننا أن نوافق جان مالوري حين يقول في تقديمه للكتاب، إن زولا كان أيضاً عالماً إتنوغرافياً، كان “لكي يكتب كل رواية من سلسلة روغون – ماكار، يجمع مدونات عن زيارات يقوم بها إلى مئات الأماكن وتحقيقات يشتغل عليها ميدانياً”. وهنا إذ يقول مالوري إن هذا كله قد يكون معروفاً للجميع يستطرد مضيفاً، لكن معظم هؤلاء كانوا يجهلون ضخامة العمل، وحجم الجهود التي بذلها زولا لإتمامه. ومن أجل توضيح هذا كله كان لا بد من نشر تلك النماذج التي اكتفى منها بدزينة اشتغل عليها أحد كبار المتخصصين في أدب زولا المؤرخ هنري ميتران، الذي وزع الفصول على تيمات محددة مثل “الناس الشرفاء” و”الشعب، والأرض، والحرب”… مفصلاً كيف أن زولا ينطلق من تلك التقسيمات ليصوغ فصول رواياته صياغة هندسية تكاد تكون شبيهة بعمل المؤرخ الباحث دائماً، إن لم يكن عن الحقيقة فعما يبدو له الأقرب إلى الحقيقة. ويؤكد مالوري أننا لسنا قادرين على إيجاد عمل مشابه لهذا العمل، بالمعنيين، عمل زولا ميدانياً في لعبة التحضير المذهلة التي كان يخوضها، وبعد ذلك عمل هنري ميتران الدؤوب في الكشف عن علاقة نصوص زولا التحضيرية برواياته وقد اكتملت. في أحشاء باريس ولعل المثال الأبرز الذي لفت الأنظار حقاً عند صدور الكتاب، كان اشتغال زولا على منطقة الهال التي كانت تمثل وسط مدينة باريس ومركز تجارة الخضار واللحوم فيها. وهي المنطقة التي جعلها الكاتب مكان أحداث روايته “أحشاء باريس” التي تعد من أقوى حلقات السلسلة. فهنا وعشية بدئه في كتابة هذه الرواية، أنفق زولا أسابيع وأشهراً أمضاها صبحاً ومساءً بين البائعين والزبائن، يرصد تحركاتهم والعلاقات بينهم وتطور الصراعات الصغيرة، دون أن يفوته تجميع كل ما يمكنه من أرقام تكشف عن المبيعات بحسب المواسم، وتأثير الأرباح على أوضاع التجار والباعة. غير أن الأهم هنا يبدو في مكان قد لا يتضح في البداية. فزولا بعد أن جمع من الوثائق والمدونات والأرقام ما جمع، حرص على ألا يزحم بها الرواية جاعلاً منها دراسة في علم الاجتماع أو وثيقة اقتصادية أو حتى نوعاً من تاريخ علمي لتطور أسواق الخضار في المدينة. فهو كان يعرف منذ البداية أن الأدب شيء آخر تماماً، ومن هنا كان مقتصداً إلى حد مدهش في استخدام تلك المعلومات في السياق الروائي. هو استخدامها فقط كخلفية تساعده هو على رسم الشخصيات وكنوع من التبرير الخفي غالباً لسلوكات محددة تسلكها الشخصيات. وهكذا صار الأمر يبدو بالنسبة إليه أقرب إلى أن يكون نوعاً من التآلف الحميم مع عالم كان يشعر أن لا بد له من معايشته والتعرف إليه، إن كان يريد وصف أهله وتمكين قارئه من التعرف إليهم. متعة مزدوجة ومن هنا قد يجوز القول إن القارئ ربما لا يكون في حاجة إلى الغرق في كل تلك المعلومات والوقائع كي يستمتع بالرواية، لكن الكاتب كان في حاجة إلى ذلك كي يكتبها. ومن هنا أيضاً يصبح من الممكن القول إن تلك النصوص إن قرئت بعد الانتهاء من قراءة الرواية، أو حتى سلسلة الروايات بأكملها، ستشكل متعة إضافية تماماً كتلك التي يحس بها متفرج فيلم عن مدينة ما، أو حي معين لم يكن يعرفهما من قبل، ثم يتاح له أن يزورهما لمناسبة ما، فيجد نفسه يتعرف إلى زوايا المكان وتفاصيله متسائلاً بينه وبين نفسه عما إذا كان سيقيض له أن يشاهد، ولو بعد قليل أو بعد حين، تلك الشخصيات التي كان الكاتب قد ملأ بها المكان وجعل علاقاتها وحكاياتها تعطيه حياة لم تكن حياته بالضرورة! المزيد عن: إميل زولا\رولان بارت\باريس\الأدب الفرنسي\كتاب كراسات تحقيقات 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post هل يجوز لنا التأويل بالاستناد إلى ذاتيتنا الثقافية؟ next post التونسي خاد رداوي يحتفي بالذاكرة شعريا You may also like مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.