نيقولاي غوغول (1809 – 1852) (غيتي) ثقافة و فنون روما التي أحبها نيقولاي غوغول وكرس لها قصته الأخيرة by admin 28 سبتمبر، 2024 written by admin 28 سبتمبر، 2024 39 مقارنة بين مدينتي النور الفرنسية والإيطالية أم رفع الظلم الذي أحاق بمسقط رأسه كييف؟ اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب بقدر ما أحب الكاتب الروسي إيفان تورغنييف مدينة باريس وعاش فيها آخر وأجمل سنوات حياته، عشق زميله بل أستاذه، وأستاذ مجمل كتاب القرن الـ19 الروس الذين وبحسب دوستويفسكي خرجوا جميعاً من معطفه، نيقولاي غوغول، مدينة روما وعاش فيها سنوات اعتبرها من أجمل سنوات حياته. ولعل اللافت أن واحداً من الأسباب التي جعلت صاحب “الأرواح الميتة” يفضل المدينة الإيطالية الخالدة على أية مدينة أخرى لا علاقة له بها على الإطلاق. بل لمجرد أنه التقى فيها رجل دين كاثوليكياً من أصل بولندي كان هو كما يبدو من أحدث فيه وفي أفكاره تأثيراً جعله يتوقف عن الكتابة في السنوات الأخيرة من حياته، بل حتى يحرق مخطوطاته وكتبه بما فيها جزء ثان من روايته الكبرى التي ذكرناها قبل سطور ما ضيع جهود سنوات وضيع على عالم الأدب عملاً يجمع كثر من المؤرخين أنه كان سيكون قمة في تاريخ الأدب وليس في روسيا وحدها. لكن ذلك الراهب وفي هدأة الجمال الروماني تمكن من إقناع غوغول أن الإبداع عمل من رجس الشيطان يتناقض مع القيم الدينية. وقت يتسع لقصص أخيرة ومهما يكن من أمر لا بد أن نذكر هنا أن غوغول وقبل أن يغرق في أفكار صديقه الراهب السوداء كان لديه من الوقت ما كفاه لإنجاز واحدة من مجموعاته القصصية الأخيرة التي ستنشر تحت عنوان “القصص الرومانية” في مجلد يضم كذلك قصة أخرى رومانية تحمل عنوان “ليالي الفيلا” (1839). علماً أن القصة المعنونة “روما” هي القصة التي تعنينا هنا وتحديداً باعتبارها واحدة من آخر النصوص التي كتبها غوغول قبل غرقه في تلك الردة التي أنهت حياته كأديب كبير إنما دون أن تتمكن من إلغاء تاريخه وتراثه لحسن الحظ. وقبل كتابته هذه القصة مباشرة كان غوغول قد حذا حذو بطل قصته السابقة التي كان كتبها مباشرة قبل “قصص رومانية” ليختتم بها مجموعته “حكايات سانت بطرسبورغ”، “يوميات مجنون” ومن هنا لفت نظر متابعيه كيف أنه صور فيها تلك الحياة التي عاشها في روما وغيرها من الأنحاء الإيطالية خلال فترات مكثفة ومتقطعة بين ربيع 1837 وشتاء 1848. وكانت بالطبع فترات طويلة قربته من تلك الأنحاء الإيطالية كما مكنته وبحسب رسائله التي بعث بها إلى أصدقائه في الوطن، من الهرب من دوائر الموت وملكوتها في العاصمة الروسية كما من السطحية والخواء اللذين يهيمنان على بلاد الموسكوب كلها بحسب تعبيره، وحتى من اللحم الحي والمسرح. سانت بطرسبورغ في زمن غوغول (موسوعة التاريخ الروسي) سنوات مثمرة ومن الواضح أن ما يذكره غوغول على هذه الشاكلة في رسائله لا يختلف أبداً عما كان قد دونه في قصته البطرسبورغية الأخيرة على لسان المجنون الذي نقل إلينا يومياته. صحيح أن السفر الذي قام به غوغول إلى روما وإقامته الطويلة والمتعددة المراحل فيها قد انتهى بها الأمر إلى حرمان العالم من أدبه بسبب سيطرة رجل الدين ذاك عليه، لكن ذلك كان في السنوات الأخيرة. أما قبل ذلك فإن السفر الذي قام به غوغول إلى روما وإقامته الطويلة فيها فتحا له آفاق نشاط إبداعي مدهش. فهو كتب هناك رائعته “الأرواح الميتة” في جزئها الأول في الأقل، كما أعاد كتابة “تاراس بولبا” وأعاد النظر في “المفتش العام” وكتب قصتيه الرائعتين “الأنف” و”البورتريه” ناهيك بأنه دبج تينك القصتين البديعتين اللتين جعل من روما مسرحاً لأحداثهما: “روما” التي نشرها عام 1842 كما أسلفنا و”ليلالي الفيلا” التي لم تنشر إلا بعد موته وربما يمكن اعتبارها آخر ما كتب. ونعود هنا إلى “روما” التي كانت نصه الأخير لنذكر أنه كان لها عنوان أول هو “البشارة” التي تعني الجمال المثالي الذي يبهر بطل القصة، لذا تتمحور الحكاية من حول هذا الانبهار إلى حد كبير. مسار فكري جمالي والحال أن توصيف ذلك الانبهار في حد ذاته هو الذي يجعل من “روما” – كما باتت معنونة آخر الأمر – حكاية مسار فكري جمالي يتناول تكوين البطل وهو أمير روماني شاب بعث به أهله كي يتلقى تعليمه في باريس، تكويناً ثقافياً وجمالياً وروحياً. وما تريد القصة أن تقوله لنا في هذا السياق إنما هو كيف أن ذلك الشاب المرهف الحساسية يكون أول ما يكتشفه بعد عودته إلى دياره ليس سوى بلاده نفسها، مما يدفعه إلى خلق تعارض قوي بين باريس وروما لا يبتعد كثيراً عن التعارض الضمني الذي يراه غوغول أصلاً قائماً بين كييف وسانت بطرسبورغ. الأخيرة باعتبارها قريناً لباريس، ونفهم لديه منذ زمن بعيد أن روما قرينة لكييف. والحقيقة أن الأمير كان ينظر أول الأمر بانبهار إلى باريس التي يصارحنا في البداية بأن “إيطاليا مقارنة بها لا يمكنها أن تكون أكثر من زاوية مظلمة كأداء من العالم المتحضر وقد انطفأت أنواره في طول أوروبا وعرضها”. غير أن الأمير وبعد أن تكون تلك النظرة منطلقاً له في أية مقارنة بين العالمين المشبعين أصلاً بتراث الحضارة الإنسانية، ينتهي به الأمر إلى أن يشعر بخيبة غامرة تجاه باريس تكون لمصلحة روما. سيكون ذلك بعد إعادته النظر في اكتشافه لروما. ويقيناً إنه هنا إنما يتبنى الانقلاب في المنظور الذي عايشه غوغول نفسه في نهاية المطاف. مقارنة “علمية” ومن هنا نجد صفحات بالغة الطرافة تحمل مقارنة بين المدينتين يوردها الكاتب من خلال سبره ذهن بطله وكأنه يصيغ بياناً علمياً، أو هكذا يبدو الأمر للوهلة الأولى في الأقل. ويخبرنا الكاتب وبطله بالتالي أن كل شيء يتناقض بين باريس وروما: الفوضى والنشاز بل حتى تلك الجوانب الشيطانية التي كنا رأيناها تفعل لفعلها في قصته البطرسبورغية “شارع نيفسكي” وفوضى السطوح وتراكم الهندسة العمرانية عبر مبان متراكمة فوق بعضها بعضاً. ناهيك باللافتات المتقاطعة والقبيحة وخفة النساء وهيمنة الموضة في وتيرة تبدلاتها المتسارعة بصورة جنونية. كل هذا يسم باريس كما تخبرنا قصة غوغول أو في الأقل ما يكتشفه أميره. وفي المقابل يخبرنا كيف أن ثمة تناسقاً مدهشاً يهيمن في روما وثمة عظمة ترتبط بذوق جمالي لا مثيل له. بينما يقال لنا كثير عن المسيرة المتزنة لنساء روما ودفء نطقهن. باختصار يخبرنا غوغول أن باريس هي عالم المظهر بينما لا يمكن لروما أن تكون سوى عالم يرتبط بجوهر كينونتها. وفي نهاية الأمر لا بد من الإشارة إلى أن أياً من النقاد لم ينظر إلى هذه القصة بوصفها تسجيلاً موضوعياً للفوارق بين مدينتين وذهنيتين وعالمين. بل أدركوا، وربما لاحقاً على ضوء اكتشاف أن هذه القصة إنما كانت من آخر كتابات نيقولاي غوغول (1809 – 1852)، أن الكاتب الذي كان يستعد ومن دون أن يدري أحد أو ربما حتى دون أن يدري هو نفسه، لتصفية حسابه مع عالم الإبداع كما مع تاريخه الشخصي، ها هو هنا يسعى إلى تصفية حسابه مع المدينتين بمعنى أن النظرة المقارنة بينهما ولو من منظور أمير عقلاني مرهف الفكر، ليست سوى نظرة شديدة الذاتية لا تعني باريس وروما بقدر ما تعني في حقيقة أمرها كييف وبطرسبورغ وربما في نوع من إعادة الاعتبار لمسقط رأسه، المدينة الأوكرانية التي كان يرى أنها أكثر جمالاً وإنسانية وأقل شيطانية من سانت بطرسبورغ، معتبراً أن تفضيل العاصمة الروسية الشمالية على كييف – في زمن كان ثمة فيه كما يبدو تنافس قوي على أبوية الثقافة الإبداعية المحلية والناهضة بين المدينتين – إنما هو ظلم يجب رده. ويقيناً أن الخلاصة التي يصل إليها صاحب “المعطف” و”الأنف” وغيرهما من الروائع، ولو من طريق أميره الحاذق، تتعلق بكونه ابن كييف وأوكرانيا كان أشد ما بغيظه ولو في فترات متقطعة من حياته أن الكل ينظرون إليه بوصفه أعظم الكتاب الروس من دون أن يعبأوا باحتجاجاته المؤكدة أنه أوكراني. فكانت تلك هي طريقته في قصته الأخيرة تلك في إحقاق الحق! المزيد عن: إيفان تورغنييفدوستويفسكينيقولاي غوغولروما 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post تاريخ جديد للموسيقى الغربية في مختارات “السماع” بالفرنسية next post “سنرقص مرة أخرى” وثائقي لا يروي قصة الجميع You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024