ثقافة و فنونعربي رشاد أبو شاور يكتب عن “الصعود إلى الناصرة”: كتاب الحنين والأمل والسخرية by admin 9 أكتوبر، 2022 written by admin 9 أكتوبر، 2022 74 خالد عيسى، الصحافي الفلسطيني المُشرَّد بعيداً، يكتب الحنين الفلسطيني، والغضب الفلسطيني، والسخريّة الفلسطينيّة التي تُفجّر الضحك وتستنزف الدموع المُرّة. الميادين نت \ رشاد أبو شاور – روائي فلسطيني عاد خالد عيسى من رحلته الألمانية قبل 43 عاماً. دخل وترتسم على فمه ابتسامته الساخرة ونظرته المائلة. من دون أن يقول شيئاً وضع على الطاولة كيساً ورقياً كبيراً، وأشار إليّ أن أفتحه ففعلت. ماذا وجدت؟ وجدت صوراً لعواجيز ألمانيات يحتضن فتياناً سمراً معافين يبدون مرحين. هل هم سعداء بهذا الفوز غير الممتع وغير العادل؟ نساء ألمانيات فقدن أزواجهن في الحرب العالمية الثانية، وكنّ قبلها وفي أثنائها يجأرن بصراخهن محيّيات الفوهر، هاتفات: “ألمانيا فوق الجميع”، فإذا بالفوهرر ينتهي منتحراً مع عشيقته، النموذج عن المرأة الألمانية، إيفا براون. وإذا بهن يخسرن الأزواج الذين اندفعوا في حرب أرادوها انتصاراً على كل شعوب العالم، وإذا بهن أرامل في بلاد محطَّمة، ويكتفين بما تبقى من أعمارهن الآفلة في أحضان أبناء شعوب صنفتها النازية في قاع قائمة شعوب العالم وأممها! تنبّهت إلى ملامح خالد وهو يتابع ردّ فعلي على صور العجائز والفتيان السمر الذين يتدلّعون عليهن، ويسخرون من الأوضاع الكوميدية المزرية التي تجمعهم اضطراراً بنساء في أرذل العمر، هنّ من مخلفات الحرب العالمية الثانية. يأخذن منهم متعة شبابهم ويعطينهم بطاقات إقامة وجوازات سفر، تمكّنهم من التحرر من ترصد “جهات” كثيرة شديدة اللؤم والقسوة في “بلاد العُرب أوطاني”، فاضطروا إلى هذا الهرب علّهم ينجون من ملاحقة دائمة عند الحدود، وداخل بلاد تناصبهم العداء. *** بعد أعوام عاد “الشيخ” خالد عيسى، ابن بلدة الشجرة الفلسطينية العريقة الجليلية إلى أوروبا، إلى السويد، لا إلى الشجرة، بعد بيروت وتونس. وبعد أن تخطّى الستين، انتقل من الكتابة في الصحافة الفلسطينية إلى الكتابة عبر الفيسبوك. يبعث برسائل حزنه وألمه وغربته وغضبه ونفوره من برد السويد ووحشة العيش فيها، والتي يبلغ نهارها أحياناً 20 ساعة وليلها 4 ساعات، الأمر الذي يُضطر الناس هناك إلى أن يُسدلوا الستائر على النوافذ ليصطنعوا عتمة ليلية تجلب النوم إلى عيون أطفالهم وإلى أنفسهم أيضاً، بدلاً من شمس الشرق الصريحة والمشعّة في كبد السماء، والنهار والليل المحدَّدين بعتمة لا شك فيها، وبنهار شمسه أحياناً تشوي شوياً وتملأ كل شيء بضوئها المبهر أحيانا، والحنون أحياناً، ولاسيما في ربيع الشرق القصير والخاطف أحياناً، والذي يلتهمه صيف كصيف أيامنا الحالية، والذي شوانا شوياً كرّهنا به ودفعنا إلى الحقد عليه. وقفة: بذلت جهداً في محاولة إقناع خالد عيسى، صديقي ورفيق الأيام البيروتية والتونسيّة وصحافة الثورة والسخرية المرّة من أشياء كثيرة كانت تغيظنا ولا نرى لها حلاً غير السخرية التي بها نخفف قهرنا، وننتقم قدر الإمكان من منفوخين بعنجهية نراها زائلة حتماً، لا مُحرّرة لبلاد. نعم، بذلت جهداً عن بُعد معه، هو في السويد وأنا في عمّان، من أجل جمع ما يُكتب في فيسبوك من كتابات مثيرة، منعشة، طريفة، مقهورة، غاضبة، تجعلك “تسخسخ” من الضحك حتى تسيل دموع عينيك، فلا تدري أمن الضحك، أم من القهر والغيظ والحنق والاشمئزاز ممن أوصلونا إلى ما بتنا نعيشه مجبَرين حيثما وُجدنا. .. وأخيراً، فعلهاخالد. وافق على جمع بعض ما كتبه في فيسبوك، وهو كثير، ووجد دار نشر حيفاوية، هي “كل شيء”، ترحب بنشر كتاب له تنشره بحماسة، فتنفّسنا بارتياح بسبب صدور كتاب لا يريح ما يضمّه من لا تريحهم سيرة التشرّد الفلسطيني، والسخرية المرّة من أوهام تدّعي ما لا يجدر أن يُدّعى. كتاب سخرية ونقد، وفضح ما لا يجوز أن يستمر السكوت عنه أكثر بعد أن طال واستشرى. ماذا يكتب “عجوز” ساخر، بدأ شاباً ساخراً في بيروت ولم يكن يعجبه الصراخ والضجيج، سوى أن تتفاقم سخريته مرارةً قلما يتقنها أحد مثله، وهو يتأمل، في ذلك المكان النائي من السويد، أحوالنا حيثما انتشرنا وتبعثرنا؟ يكتب خالد، في مقالته التي يضمها كتابه الأوّل في الغربة المُكررة والأكثر نأياً، وتحت عنوان ساخر: الله يغضب عليك يا “بلفور”، يا غُراب نكبتنا الذي نعق من قصره اللندني فشرّدنا من بلاد لنا في بلاد ليست بلادنا. صرنا الشعب الوحيد في الدنيا الذي تجمّع وطنه في الذاكرة. صار وطناً شفوياً ينقل تفاصيله الأجداد إلى الأحفاد، فيستحيل إلى أحلام يقظة. أستيقظ في الصباح، أنا الفلسطيني المقيم بمدينة في آخر الأرض، في جنوب السويد، لأكتب لعظامك وهي رميم، ما قد يرمم في الذاكرة من مرمرة أنت المتسبب الأول بها. يسألني حفيدي: إذا أنا فلسطيني، طيّب ليش أنا سويدي يا جدّو؟ (ص 29). حمل خالد عيسى الجنسية السويدية منذ أعوام، وكتب عن تلك الجنسيّة السويديّة الأوروبيّة: لكنها لم تخلصني من فوبيا المطارات إلى اليوم، فلم يسبق لي أن سافرت إلى بلد ما إلّا وتملّكني الخوف، ليس من ركوب الطائرة، كما هي حال عدد من الناس، بل من شرطي الجوازات. وعلى الرغم من جواز سفري السويدي الذي أحمله، فإنني ما زلت أرتعب وترتجف ركبتاي كلما قدّمت جواز سفري إلى رجل أمن في مطار من مطارات العالم، ولا تزال ذاكرتي “تنكح علي” وتذكّرني بوثيقة سفري الفسطينية (ص 34). ولأن ذاكرته تنكح عليه، يعني تنبض باستمرار، ولا تتركه يرتاح، فإنه ما إن يسمع مفردة عامية تدهم ذاكرته من فضاء بعيد، وزمن بعيد، وبيئة بعيدة عنه، وهو بعيد عنها، حتى تستنفر. ففي مطار كوبنهاغن، وهو يودع ابنته المتجهة إلى دبي، يسمع مترجماً من دولة الاحتلال فيستيقظ على مفردة “إسّا”، وهي مختصرة لــ “هذه الساعة”، وهي جليلية، فتجذبه إلى صاحبتها. وفي لحظة فلسطينية مختزلة مغناطيسيّة تتحول “إسّا” إلى بلاد وزمن واحتلال ورفض وتمازج وتجاوز. وإذ يبتعد المترجم تبتعد فتاة فلسطينيّة في “الغروب” في حافلة تقلهم، ويتابعها بنظرة تقول ما لا يوصف ويلخّص، فهي فلسطينية من أراضي الـ48 المحتلة وهو من الشتات، والنظرة هي زمن وأمل وحسرة. لقاء ووداع فلسطينيان. والحق أن خالد عيسى بات الكاتب “الرسمي” لغربة الفلسطينيين في بلاد الغربة الأوروبيّة، والمعبّر بلسان من تعوزهم القدرة على التعبير عن حسرتهم وتفجعهم وحنينهم. وخالد عيسى يلوذ بالجليل كلما اشتدت عليه متاعب الغربة الباردة، فيعود إليه مسلحاً بجواز سفر سويدي عبر طائرة سويدية أوكوبنهاغنية، ويكتب وهو يتجوّل في شوارع الناصرة الفلسطينية، التي يصعد إليها من عكا وحيفا – وأنت من تلكما المدينتين تصعد، وإن زرتها برّاً عبر مرج ابن عامر فستصعد ويرتفع رأسك ونظرك لتملّي الناصرة -. وهكذا، فرفع الرأس حتمي، وأنت ستشعر بالزهو لأن وطنك ومدنه وجغرافيته تلقن حواسك دروس الانتماء: سنهزمهم بالحنين إذاً، وسنقتلهم بالشوق إلى بلادنا، وسننتصر عليهم بالضحيّة التي تخرج كلّ لحظة لقاتلها. ويضيف: سنقتلكم بالحنين الذي خيّب ظن جدتكم مائير، وبالفلسطينيين الصغار الذين حلمت عجوزكم مائير بأن تصحو ذات صباح ولا تجد طفلاً فلسطينيّاً في قيد الحياة (ص43 من مقالة نهزمهم بالحنين). جمعت خالد عيسى صداقة متميّزة بكل شيء في الوطن، ولاسيّما الشجرة قريته وقرية الفنان الشهيد ناجي العلي، حيث استُشهد الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود وهو يقود مواجهة الصهاينة الغزاة. وقاتل خالد بالحنين، ولقنه لفلسطينيين لم يزوروا الوطن، ولم يروه، ولم يأكلوا من عنبه وتينه وسمك بحره، ولا تنفّسوا هواء جليله، لكنهم مثل خالد أجهشوا بالبكاء قهراً وهم يرددون: “يا ليل ما أطولك”. مع الفنانة ريم حنا، التي عرفها خالد عن قرب، بعد أن تزوّد بجواز سفر سويدي أدخله وطنه، فزار الفنانة الفلسطينية، التي سرق عمرها ذلك المرض الخبيث كما الاحتلال الخبيث – هكذا وصفه خالد ويصفه الفلسطينيون والعرب الشرفاء – ويكتب: وريم هي حكايتنا الفلسطينية، وصراعها مع السرطان هو صراعُنا آخرَ أكثر بشاعة وفتكاً،ينمو في بلادنا منذ (عام) 67 – الزمن الممتد منذ النكبة حتى وقت زيارة خالد الأولى لفلسطين ولبيت ريم – وريم وحدها تمنحنا الأمل بالشفاء منه (ص 56، مقالة يا ليل ما أطولك، وهذا مطلع أغنية حزينة لشهداء سجن عكا الثلاثة الذين أعدمهم المحتلون الإنكليز). والدة خالد ماتت في الغربة، في سوريا، ولم تلتقِ أختها التي بقيت في فلسطين بعد الاحتلال، ورحلت وهي تتمنى أن تسمع صوت شقيقتها في برنامج “وسلامي لكم”. وماتت شقيقتها. وعندما زار خالد للمرة الأولى وطنه، كان يصطحب حفيدته الصغيرة وأمها، فغرقت الصغيرة في الضحك عندما رأت يهودية ترسم شارباً على وجهها فيما يسميه اليهود “عيد المساخر”، بينما يقف خالد قرب قبر الخالة باكياً: أضحك ذلك حفيدتي سارة، لعلها أدركت أن كل شيء في هذه “الدولة” تزوير ومسخرة. وبين عيد المساخر، وضحك حفيدتي ودموع جدها، تقيم “إسرائيل” “دولة” بشاربين على وجه مستوطنة روسية في الناصرة (ص 54). توقّعت أن يضم كتاب خالد عيسى الأوّل، بعد “مواطنته” السويديّة، مقالاته الساخرة جداً، والتي تنقل يوميات حياته الموحشة في الغربة، لكنه اختار مقالاته الحميمية مع الجليل، مع الناصرة، مع بحر حيفا وعكّا، مع الفنانين والمثقفين وبعض رموز أهلنا الصامدين، ومع بحر حيفا. في كتابه فصل بعنوان “مقدسيات”، وفصلان عنواناهما “رام الله” و”تجوال”. ويكتب تحت عنوان “أحفاد الهولوكوست يستجمّون فوق عظام ضحايانا”: أوقف المحامي جهاد أبو ريّا سيارته وقال لي: أنت تقف الآن فوق القبر الجماعي لشهداء مجزرة الطنطورة. ويضيف: ركعت باكياً في موقف سيارات تابع لدولة تقيم دولتها فوق قبر جماعي، وتبكي على الهولوكوست فوق عظامنا (ص 73). خالد عيسى، الصحافي الفلسطيني المُشرّد بعيداً، يكتب الحنين الفلسطيني، والغضب الفلسطيني، والسخريّة الفلسطينيّة، التي تُفجّر الضحك وتستنزف الدموع المرّة. وفي كل أحواله، يعمّق الأمل بزوال “دولة” الاحتلال، لأنها “دولة” مسخرة، وبحتمية التقاء الفلسطينيين جميعاً في أرض وطنهم فلسطين. * من جديد زار خالد وإحدى بناته وحفيداته رام الله، ووقّع كتابه في معرض الكتاب. وكعادته غادر مسرعاً إلى الناصرة. ويوم الجمعة، 30 أيلول/سبتمبر، غادر عائداً إلى برد السويد، ليكتب بحرارة عن لقائه المتجدّد وطنَه ووطنَ حفيدته، فلسطين. المزيد عن : خالد عيسى\فضاءات\الميادين الثقافية\إسرائيل\فلسطين 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post 100 عام على رحلة 3 رسامين أوروبيين إلى تونس لاستيعاب ألوانها next post محمد أبي سمرا يكتب عن إيران ونساؤها في صورتين (1) : مرشدُ القتل الحنون والبهجة السوداء You may also like بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: ماجان القديمة …أسرارٌ ورجلٌ... 27 نوفمبر، 2024 «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد 27 نوفمبر، 2024 محمد خيي ممثل مغربي يواصل تألقه عربيا 27 نوفمبر، 2024 3 جرائم سياسية حملت اسم “إعدامات” في التاريخ... 27 نوفمبر، 2024 سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024