ثقافة و فنونعربي مهى سلطان : رحيل الفلسطينيّة ليلى الشّوا التي جعلت من الفنّ أداةً لتسجيل الحقيقة by admin 27 أكتوبر، 2022 written by admin 27 أكتوبر، 2022 20 بيروت- النهار العربي \ مهى سلطان رحلت زهرة الليلك الفلسطينية ابنة غزّة ذات النظارتين السميكتين ليلى الشوا (1940- 2022)، بعد صراع مع المرض، في مقرها اللّندني عن عمر يناهز 82 عاماً، تاركةً بندقيتها المزينة بالكريستال والريش والزهور ماثلةً كأيقونة من زمن المعاصرة في العالم. عُرفت كرائدة طليعية من رواد البوب-آرت العربي، اقتحمت أعمالها أبرز المنصات والمعارض والمزادات الدولية، كما دخلت أعمالها في مقتنيات العديد من المتاحف العربية والعالمية، منها المتحف الوطني في الأردن ومتاحف أكسفورد وروتردام والمتحف الوطني للمرأة في الفنون (واشنطن)، ولها العديد من الأعمال في مقتنيات المتحف البريطاني. ناضلت بصمت من أجل الهوية، وظلت ترنو بحنين إلى القدس التي رسمتها رمزاً للقضية وأيقونة للمكان ومهبطَ الوحي حيث خلجات القلب الذي لا يموت. رسمتها بمادة الذهب كهوية فلسطينية، لكنّها تعوم في الفضاء، ببيوتها القديمة وتضاريسها اللاهوتية والروحية وكمدينة للخيال حيث أمكنتها التاريخية متوّجة بهالات من التقديس. عبّرت خلال تجربتها، الممتدّة لأكثر من خمسين عاماً، عن رؤية مغايرة في مقاربتها للحدث السياسي والواقع الفلسطيني، وفي توظيفها للتراث العربي والأرابسك الإسلامي بأسلوب معاصر. بين ضفّتي الشّرق والغرب بين ضفّتي الشّرق والغرب فنانة مخضرمة وسيرتها كما حياتها كانت حافلة بالألوان والحوادث ولوعة الغربة. ليلى هي ابنة رشاد الشوا رئيس بلدية غزة وصاحب مركز «إرشاد» الثقافي، الذي يعتبر أول مركز يُعنى بالثقافة والفنون في فلسطين. درست الفن في مدرسة ليوناردو دافنشي في القاهرة، ثم تابعت دراستها في كلية الفنون في الجامعة الأميركية في مصر، انتقلت إلى إيطاليا بعد فوزها بمنحة لمدة ست سنوات، حيث درست في جامعة سان جاكومو في روما، كما تابعت دروساً في سالسبورغ، وتحديداً في المدرسة التي أسسها الفنان أوسكار كوكوشكا. عادت بعدها إلى غزة لتعمل كمفتشة تربوية في مدارس وكالة الغوث الدولية «أونروا» لتعليم الأطفال الفنون والحِرَف. وفي تلك الفترة عملت مع المصور الفوتوغرافي هرانت نكاشيان الذي كان يعدّ أفلاماً وثائقية. ساهمت هذه التجربة في منحها رؤية أعمق للمعالم الأثرية والتفاصيل المعمارية، وقدرة على التحكم في معالم الصورة كعمل فني. انتقلت للعيش في بيروت حيث أقامت معرضها الأول في غاليري «وان» عام 1970، ثم أقامت معرضها الثاني في الكويت في غاليري «سلطان» عام 1972، ومع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، عادت إلى غزة، وقبل أن تسافر إلى لندن تزوجت من مهندس سوري عملت معه على تحقيق رغبة والدها ببناء صرح ثقافي في غزة أشرف عليه زوجها، واستمر العمل في المبنى 10 سنوات، نتيجة ظروف الحرب والاحتلال، لم يُفتتح حتى عام 1987، لتحقق الشوا رغبة والدها الذي توفي في العام التالي من الافتتاح. بين ضفتي الشرق والغرب، عاشت ليلى الشوا في لندن (منذ عام 1987)، من دون أن تفقد علاقتها بجذورها، ولم تغب عن مواكبة الحوادث العالمية والوقائع السياسية في بلدها والقضايا المرتبطة بالشرق الأوسط عموماً، لذا ارتكزت أعمالها على إبراز خلفيات الواقع وأهدافه غير المعلنة، والإضاءة على الظلم وغياب العدالة والإرهاب والتطرف. طرحت تساؤلات حرجة بمنظور نقدي وساخر وعبثي أحياناً، خاصّة منذ أواخر الثمانينات حين فكّكت منظومة القمع التي تتعرَّض إليه المرأة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال، وتسلّط النظام الذكوريّ، وسعيها للتمردّ على واقعها ومقاومته. فنانة البوب-آرت فنانة البوب-آرت استطاعت من خبرتها في التصوير الفوتوغرافي أن تنتقل بسهولة للعمل على الشاشة الحريرية (السيلسكرين) بتقنيات طباعية متميزة، ما ساهم بإعطائها صفة فنانة البوب-آرت على خطى آندي وارهول في عالم فن الدعاية والاستهلاك، لكنها لم تقدم صوراً أيقونية لنجوم الغناء والطرب العربي (وهي الموجة التي استُنسِخت حتى الملل بعدما اكتسحت معظم التجارب العربية المعاصرة)، بل قدمت عام 2010 واحدة من أبرز تيماتها تأثيراً، وهي عبارة عن صورة مقاتل ملثّم بالكوفية تحمل عنوان (Fashionista Terorrista)، يرتدي سترة على الموضة مزينة برقعة من كريستال شواروفسكي في نيويورك، لعلها إشارة إلى استيراد الإرهاب. لكنّ اللافت أيضاً هو الإطار التزييني للصورة الذي يتمثل بمشط من رصاصات رشاش حربيّ. تُظهر الصورة كيف أنّ الكوفية رمز المقاومة في فلسطين، تُعتبر اليوم قطعة أزياء من قبل الناس في الغرب، على اعتبار أن اللعب مع الفن الهابط والمرح والسخرية، هي أشياء يعاد تداولها وتفسيرها باستمرار في وسائل الإعلام. كما يعلق العمل على التخيل الشعبي من رجال ونساء فلسطينيين، وكيف يصنف الناس إلى جانب من يقفون. هكذا خرجت ليلى من الاستعارات التاريخية إلى تأويلات البورتريه ذي الطابع السياسي، بلا استنفاد بل بتكرار تلك الصورة الأيقونية في أكثر من نسخة وصيغة لونية. ذهبت ليلى إلى أعمق الجراح الفلسطينية، كي تعيد نسج الكتابات والشعارت السياسية وعبارات الإدانة التي كتبها أهالي غزة بالسبراي على الجدران على طريقة فن الغرافيتي، في تحدّ للرقابة الإسرائيلية، فظهرت هذه الكتابات في سلسلة جدران غزة (1994) على السلسكرين، كرسائل ووشوشات حروفية وطلاسم شعائرية أطلقت شهرتها كفنانة معاصرة، عكست عذابات الشعب الفلسطيني بأسلوب فيه الكثير من الجذب والاعتراض والاستفزاز، لتعود وتخوض في العام نفسه تجربة متميزة في المعرض المشترك الذي أقامته مع الأميرة وجدان في الأردن. يبدو أن صفة التكرار للصورة الأيقونية التي أضحت من مواصفات أعمال ليلى الشوا بالطباعة الحريرية، هي صفة ملائمة لتصعيد الصراخ والإلحاح على إيصال صرخة الوجع إلى الضمائر. إلا أن عملها المسمى “الرصاص المصبوب” الذي أنجزته عام 2011، هو من أكثر المشاهد قسوة، إذ يقدم صورة وجه امرأة منتحبة، تم اقتطاعه من كاميرات المراقبة الأمنية، وهي تعكس حقيقة امرأة تصرخ لحظة القبض عليها في محاولتها التسلل عبر حاجز إيريز الإسرائيلي. قامت الشوا بتركيب لقطة صراخ المرأة على خلفية فوضوية من الدمى المنصهرة بالركام، تعبيراً عن أجساد الأطفال المحترقة بفعل القصف، كما أن صورة الفم المفتوح مثل كهف مظلم يمثل الصمت المرعب الذي لا يوصف بالكلمات. الصّدام بين المفاهيم الصّدام بين المفاهيم مُشاكسة لا تمرّ أعمال ليلى الشوا على العين دون أن تطرح الأسئلة، أو تثير النقاش مهما تنوعت تيماتها وموحياتها ومهما تقلبت أفكارها، وكأنها في قراءتها للأمور، تسعى للتعبير عن الظاهر من الوقائع، ولكنها تخفي بين ظهرانيها المعنى الباطن. تميزت بنبرتها الساخرة وأسلوبها الانتقاديّ، الذي لم يسلم منه المجتمع العربي، بعدما أثارت موضوعات تقع في المناطق الحرجة من المحرّمات والعادات والتقاليد، وهي مثيرة للجدل على المستوى العربي قبل الغربي. في “الحلم المستحيل” رسمت بأسلوب ساذج وزخرفي مجموعة من النساء اللواتي يرتدين النقاب بألوان مختلفة، يحملن آيس كريم. عيونهن مغلقة كما لو أنهن على وشك تذوق النكهات المختلفة. بالطبع لا يستطعن ذلك لأن أفواههن مغطاة بالنقاب. هذه الصورة المرسومة هي بيان قوي ليس فقط للحديث عن تابو النساء في الشرق الأوسط، ولكن أيضاً عن الرغبة في التغريب من قبل قسم من مجتمع الشرق الأوسط. لا يزال هذا الصدام بين عوالم مختلفة يتردد صداها في تيمات عديدة من أسلوبها الفني، الذي يُعرّفه النقاد في الغرب بـ”البوب الإسلامي”، كونه انعكاساً اجتماعياً – سياسياً يتم تناوله بجرعة من السخرية والفكاهة. في هذا السياق من الأسلوب الزخرفي – الفطري، رسمت من وحي المعتقدات الشعبية الإسلامية سلسلة “أيادي فاطمة” بتقنية الشاشة الحريرية دخلت إحداها مقتنيات المتحف البريطاني. ثم أتى عملها التجهيزي عن قصف برجي التجارة العالميين مؤرخ في عام 2002، كتحفة تنقل رسالة غضب بأسلوب دلاليّ بسيط فيه إدانة للإجرام مزين بعبارات عربية مكتوبة بالخط الكوفي، وفي الأسفل قطعة من العلم الأميركي (وهو من مقتنيات متحف روتردام). الفن المضاد للموت الفن المضاد للموت طرحت ليلى الشوا موضوع الموت بشدة، في مقاربات متنوعة، وبمختلف التقنيات رسماً وطباعة ومجسمات نحتية، بأسلوب معاصر يستبعد الجوانب التعبيرية والعاطفية المباشرة، نحو الترميز وإثارة النقاش والصدام الذي يستدعيه هذا الموضوع. فمنذ عام 2007 التاريخ الذي أطلق فيه الفنان البريطاني داميان هيرست أيقونته الشهيرة الجمجمة المرصعة بالماس تحت عنوان “حباً بالله”، حتى أضحى هذا العمل بتأويلاته التي أطلقها هيرست نفسه تعبّر عن الاحتفالية بالموت، كموقف مضاد للفناء وباعث على الخلود. منذ ذلك الحين أصبحت الأعمال المعاصرة تستعير من هيرست طريقته في الترصيع والتزيين والاحتفال، في إحياء أسطورة البقاء ومقاومة الموت، وإن أتى بشيء فاضح ومفرط وباهظ. من هذه الزاوية وبدءاً من هذا التاريخ فصعوداً، يمكننا أن ننظر إلى طريقة اختلاف معالجات ليلى الشوا لموضوعات الموت، حين انتقلت من الرسم والعمل الطباعي إلى المجسمات النحتيّة Object of art التي تزينت لديها بأنواع من الأكسسوارات والقطع الباهظة الثمن، في أعمال قادرة على إثارة النظر والاهتمام والتعليقات. أعمال صنعتها لتفتن النظر ببريقها الأخّاذ، وهي تثير المتعة وتخفف من وطأة الموت وإن كانت تروي حدثاً مرعباً أو تحمل رسائل تهديد. فقد أظهر معرضها الفردي لعام 2012 “الجانب الآخر من الجنة” الذي أقامته في صالة أكتوبر في لندن، تماثيل نساء بلا رؤوس ولا أذرع ولا أقدام، مطلية بألوان جريئة ومزينة بأحجار كريمة. نظرة فاحصة تكشف عن سلاسل وأحزمة الذخيرة والديناميت المثبتة على الجذوع، وثمة جذوع مذهبة تحط عليها فراشات داميان هيرست المستعارة من زمن الموت، وبذلك نرى ما يتكون في الجانب الآخر من الجنة في غزة وفي أمكنة أخرى من الشرق الأوسط. تأتي من بعدها البندقية الفلسطينية (عام 2013) المزينة بالزهور وريش الطاووس والأحجار الكريمة، التي لم تعد رمزاً للقتال بل قطعة للزينة بلا روح إشارة إلى السلام المؤجل، هذا العمل وضعها على لائحة الفنانين الأكثر شهرة في العالم. كانت ليلى الشوا تتعاطى مع الراهن بشيء من الحكمة والتدبر والذكاء في الطرح والنقد الخفي والساخر حيناً. أعمالها تعلن عن نفسها بلا تعريف أو مقدمات بسبب قوة انتمائها إلى هويتها الفلسطينية، في كل قطعة من أعمالها، يمكننا أن نرى بوضوح هذا الإيمان القوي بقدرة الإنسانية على تصحيح مسارها. قيل إن أفضل الفنانين هم الذين يجعلونك تكتشف شيئاً عن نفسك لا تعرفه؛ مثل شخص يشير إلى تطبيق لم تكن تعرفه موجوداً على هاتفك طوال الوقت، وهو بطريقة ما يُحدث ثورة في حياتك. ليلى الشوا من بين أفضلهم. كل شيء عندها عابر ما خلا الفن الذي يسجل الحقيقة وله تلك القوة المضيئة عبر الزمن. المزيد عن : ليلى الشوا 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post Advice on how to keep your mail safe and secure next post دلال البزري من تورنتو : عندما لا يريد الشعب الحياة فلا بد أن يسكت القدر You may also like استعادة كتاب “أطياف ماركس” بعد 20 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 تحديات المخرج فرنسوا تروفو بعد 40 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 21 قصيدة تعمد نيرودا نسيانها فشغلت الناس بعد... 28 نوفمبر، 2024 الرواية التاريخية النسوية كما تمثلت لدى ثلاث كاتبات... 28 نوفمبر، 2024 بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: ماجان القديمة …أسرارٌ ورجلٌ... 27 نوفمبر، 2024 «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد 27 نوفمبر، 2024 محمد خيي ممثل مغربي يواصل تألقه عربيا 27 نوفمبر، 2024 3 جرائم سياسية حملت اسم “إعدامات” في التاريخ... 27 نوفمبر، 2024