(عبدالجبار الغضبان) بأقلامهم دلال البزري تكتب عن: عالم البطء الذي أكتشفه الآن… متأخرة by admin 23 أبريل، 2025 written by admin 23 أبريل، 2025 25 تدثّري بالبطء “العضوي” لا يعود في هذه الحالة يقتصر على الوقاية من الوقعات أثناء المشي، إنما تمرين يومي على اكتساب الصبر العربي الجديد / دلال البزري – باحثة وكاتبة لبنانية هل تعرفون تلك الضمادات اللاصقة التي توضع على الجروح الصغيرة في الجسم، وخصوصًا أطرافه من يدين ورجلين؟ هذه الضمادات كانت تغطيني وأنا صغيرة. كانت شقاوتي من سرعة ركضي ولعبي ومشيتي وكل تصرفاتي. أَقَع حيث لا يقع الطفل؛ كيف وقعتِ؟ بماذا اصطدمتِ؟ أين الحفرة التي وقعتِ فيها؟ أين الصخرة؟ أين العامود؟ كلما وقعت، تنهال عليّ أسئلة من هذا القبيل وينفجر الضحك… وأنا لا أكترث لما يضحكهم. لا أنتبه. أعود إلى اللعب والركض، بعدما تُلصق الضمادة، وكأنني لم أَقَع، لم أُجْرَح، لم يحرقني جرحي بالمطهّر. شقاوتي، وسرعتي، أساس كل هذه الوقعات؟ هذه قناعة أهلي. “البنت شقيّة”، يقول أبي، هو خائف عليّ. خائف من أن شقاوتي يمكن أن تؤذيني أكثر من مجرد جرح بسيط وضمادة. وبعدما تخف آثار المفاجأة من الوقوع، يسخر من منظري ويقول إنني أشبه “الحمار المعقور” (أي المُصاب). ما يثير المزيد من الضحك بين إخوتي، بعد ضحكهم على وقعاتي نفسها. أما أمي، فترى الموضوع من زاوية درامية؛ من أن شقاوتي هذه، التي لا تحتملها، هي علامة على أنني ضحية عين زرقاء حسودة؛ فتقرّر عند بلوغي الرابعة عشرة من عمري، أن تقوم بالنذر إلى ضريح السيدة زينب في دمشق. لعلّي بذلك أهدأ، أخفف من سرعة خطواتي، وأتوقف عن الوقوع يمينًا شمالًا. نذهب إلى دمشق، أمي وخالتي وأنا. عند الدخول يعطونني قماشة طويلة عريضة، أُغطي بها رأسي وكل جسمي، تشبه التشادور، لها رائحة الغبار والرطوبة. وتبدأ مراسم النذر: عليّ أن أطوف حول ضريح السيدة زينب سبع مرات، أنا حاملة المكنسة، أكنس بها الأرض. إنه تمرين على الصبر، والتحمل. بالقماشة الهلامية ذات الرائحة الكريهة، وبالمكنسة التي صُنعت خصيصًا لتعذيب من تستخدمها. وبأمي وخالتي اللتين “تدعمانني” بحمل المكنسة أيضًا، “كرمى لك”، تقول أمي وهي تنظر برجاء إلى ما نقوم به. ننتهي من النذر، وأمي يملؤها الأمل، بأن “أهدأ”، بأن لا أصطدم بحائط أو بعامود، بأن لا ألعب مع الصبيان، وأنا “أركض بدل أن أمشي”، كما تقول في أوقات الرواق، ساخرة مني ومما تسميه “ورشنتي”. “أوقات الرواق”، أقول، لأن تلك “الورشنة” تتسبّب بشجارات عنيفة، بيني وبين من حولي، من إخوتي وأقاربي وجيراننا. ذلك ربما لأنها كانت توقظ عدوانية، لا أعرف من أين تأتي. المهم أننا نعود من دمشق، ولا “أهدأ” سوى يومين أو ثلاثة. هكذا حتى “أنضج”، وأدخل إلى منظمة العمل الشيوعي، قبل أن أتزوج وأنجب. فكانت حياة أسرع، أي احتمالات أكبر أن أقع على الأرض. لماذا “أسرع”؟ المنظمة الشيوعية منسجمة مع “روح” عصرها، أي سبعينيات القرن الماضي. وأنا ضمن أطرها، أؤمن بأن المستقبل لا يمكن إلا أن ينطوي على ما هو أفضل. لأننا تقدميون. ولكن ما يزيد من فضلنا على التقدميين الآخرين أننا نتصور أنفسنا أوعى منهم، أسرع؛ بما نقوم به لإسقاط الطبقة البرجوازية وإقامة الحكم البلشفي. وأننا كلما أسرعنا الخطى، كلما ناضلنا أكثر، اقتربنا من هدفنا. إذن، عليّ أن “أسرع”؛ وهذا واجب نضالي. وبما أنني أم، “ربة منزل”، طالبة وعاملة، عليّ أن أكون ما يوصف بـ”السوبر وُومن”؛ أن أقوم بأشغال متعددة، في الوقت نفسه، في الثانية الواحدة نفسها. أن أناضل وأدرس وأطبخ وأحفّظ وأجيء وأذهب من إلى… كلها “مهام” تحتاج لـ”سرعة” الإنجاز. أي تلك الخطوات التي تتيح لي الوقوع، كيفما اتفق. رواية ميلان كونديرا عنوانها _البطء_، قرأتها من زمان بمتعة الاستعجال، وها أنا اليوم أعود وأقرأها كمن يبحث عن نصيحة، ولو مبطّنة ثم تكون الحرب الأهلية، وتُضاف مهام أخرى ليست واردة في دفتر الوقعات. في مركز الشياح التابع للشيوعيين، على مدخله أكياس رمال مرتفعة، تحميه من القذائف وشظاياها. أسرع في تسلق هذه الأكياس التي يبلغ ارتفاعها الثلاثة أمتار. ولا أكاد أصل إلى قمتها حتى أتدحرج منها، وأفقد وعيي. وأصاب بأول “ديسك” في حياتي، يلزمني الفراش لمدة شهر. ومع نهاية الحرب وعودتنا إلى الحياة شبه الطبيعية، أستمر بالوقوع على الأرض. وحتى تركي لبنان منذ خمسة أعوام، وقعت بما يكفي لإصابتي بأعداد أخرى من “الديسكات”، ولطحن كوعي ومفاصل حوضي، بما يوجب عليّ تركيب كوع اصطناعي ووركين اصطناعيين. فضلًا عن عمليات “بسيطة” لتحييد آثار وقعات أخرى؛ منها واحدة في الركبة، كانت نتيجة وقعة رهيبة، ليس في البراري، إنما في مكتب استقبال المشاركين في ندوة في الجامعة الأميركية ببيروت. وفي كندا حيث أعيش الآن، أكتشف البطء الجماعي؛ في كل شيء تقريبًا ما عدا التكنولوجيا، وسرعة استخدام الذكاء الصناعي في المعاملات كلها، والتطبيقات الجديدة، وطرق الدفع أو الوصول إلى العنوان المطلوب… كل يوم أكثر مما سبقه. عليك تعلمه بسرعة وإلا فاتك المشوار أو المعاملة، أو الموعد، أو المحادثة التلفونية. عدا ذلك، فالمزاج الكندي شديد البطء لأسباب بيروقراطية مشهودة. وبسبب الطبيعة أيضًا؛ وهي جبارة مخيفة تُلزمك العيش في الداخل، وتمتحن صبري كل يوم. ومن معالم التكيّف معها التأني في الخروج. وإذا اضطررتُ له، ولو إلى الدكان المجاور، فعليّ المشي بروية فوق الثلج أو الجليد، لكي لا أنزلق، وتكون الكارثة… حيث لا شاهد عليها ولا منقذ. عندما أحضر إلى كندا، بعد شهرين من عملية وضع وركين اصطناعيين، أقول لنفسي إنني أمام حظي؛ تركت لبنان الذي لا يسمح بالتريّث، ولا يُلهم به. وها أنا هنا في كندا، بوسعي أن أهدأ، ثمة رصيف يحميني من فوضى الطرقات. أمشي بانتباه شديد، أتمرّن على البطء في المشي، أنظر إلى خطواتي… أقول لنفسي إن العسكر لا يقعون عندما يسيرون: قبل أية خطوة يخطونها على الأرض، يرفعون ساقهم، ما يعطيهم الوقت الكافي للتمهّل. فأحاول المشي وكأنني عسكري. أنظر إلى الأرض بدل السماء، أَطوي ساقي وأرفعها إلى الأمام قبل أن أخطو خطوة جديدة. وفي هذه الأثناء أقاوم رغبتي في النظر إلى المارة، إلى الأشجار الربيعية، أن أحلم بأن أفكر في شيء آخر، أن أتأمل حركة غيوم السماء وألوانها… كل هذا أبذله وأنا أسير على الرصيف، أو داخل المول، أو في أية مساحة مغلقة. وقعتُ مرتين في الشارع خلال تلك “الفترة”، في الخارج. وقعتان بسيطتان؛ لم تتسبّبا بأضرار جسيمة، وضاعفتا من تصميمي على البطء. لذلك، أمارس رياضة المشي داخل البيت، ظنًا مني أنني سأكون بذلك بمأمن من السقوط، ولا شيء يُلهيني عن التمهّل في المشي. فتكون الوقعة الأخيرة، منذ بضعة أشهر، وأخلع بها كتفي اليمين. وأين؟ داخل البيت. أثناء هذا المشي “البطيء”. أدخل الطوارئ، وأتعالج، وأربط كتفي بتلك الحمّالة المثبّتة له، وأسهر الليالي تحت وطأة هذه الربطة… وما أزال حتى الآن أتمرّن لأُعيد كتفي اليمين إلى طبيعته. “ماذا حصل؟” يسألني أخي. “طيب تقولين إنك صرتِ متمهّلة بمشيتك… ماذا حصل…؟”. أحاول فعلاً أن أسترجع “ماذا حصل”. هل كنت مستعجلة؟ لا، أبدًا لم أكن كذلك. كنت واعية تمامًا لخطواتي، متذكرة وجوب البطء، ولو في البيت. أحاول أن أتذكر كل خطوة، فالتقطتها: متى وقعتُ فعلاً؟ في لحظة خرجتُ فيها عن وعيي كبطيئة، كمتمرنة على البطء؛ في ثانية واحدة، وتتغلب طبيعتي، استعجالي… وبدل أن أمشي حيث يجب، أي على الأرض، أتسلّق السجادة الملفوفة على جنب، تسهيلًا لذاك المشي بالذات، فأطير في الهواء، وأهبط على كتفي. إجابتي لأخي على سؤاله تأخذني إلى التفكير بنوعية البطء الذي اعتمدته حتى الآن. وما يقاومه هو نقطة ضعف عندي، أي قلّة الصبر. وما اعتمدته حتى الآن من بطء أثناء حركتي بالمشي، أي من مكافحة قلّة صبري، كان سطحيًا ومتقطّعًا. أي إنني أعتمده للمشي فقط، ولكنني أعود إلى سرعتي العادية بعدما أنتهي منه، لأقوم بمهامي الأخرى. وأقول لنفسي إنني، منعًا لوقوعي مرة أخرى… عليّ اعتماد البطء في كل حركاتي، من الصبح وحتى المساء، من الكتابة وحتى الطبخ. أي البطء الداخل في سياق يومياتي. ولكي لا أنسى ذلك، أقرأ عن البطء، وأكتشف أن رجالًا كبارًا كانوا بطيئي الحركة. عكس ما كنت أتصور، من أنهم “دائمًا مشغولون”. وحكايات أينشتاين الغريبة حول بطئه الأسطوري، ورواية ميلان كونديرا عنوانها “البطء”، قرأتها من زمان بمتعة الاستعجال، وها أنا اليوم أعود وأقرأها كمن يبحث عن نصيحة، ولو مبطّنة… وأغنية كنت أسمعها طوال النهار أيام مراهقتي، لجورج موستاكي: “يا حبيبتي، سنأخذ الوقت الكافي لنعيش، لنكون أحرارًا، بلا مشاريع ولا عادات، سنكون قادرين على أن نحلم حياتنا (…) كل شيء مسموح، كل شيء ممكن”. وتدثّري بالبطء “العضوي” لا يعود في هذه الحالة يقتصر على الوقاية من الوقعات أثناء المشي، إنما تمرين يومي على اكتساب الصبر؛ تلك الملَكة التي أحتاج إلى قليل من الخيال لكي أملكها، إذ إنها تُمكّنني من التّصور كيف سيكون حالي لو لم أصبر، لو لم أتباطأ في خطواتي. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post الشرطة الإيرانية تحصل على ترخيص لاقتحام المدارس لفرض الحجاب next post “قوة هجومية دولية” تتجه إلى المحيطين الهندي والهادئ You may also like غسان شربل يكتب عن: رجل لا يتعب من... 22 أبريل، 2025 حازم صاغية يكتب عن: أيّ تسريع لتاريخ المنطقة... 22 أبريل، 2025 كومفورت إيرو تكتب عن : مبررات استراتيجية ترمب... 22 أبريل، 2025 الحرب الأخرى على الفلسطينيين 22 أبريل، 2025 رضوان السيد يكتب عن: ذكريات الحرب وبطولات الأحياء! 19 أبريل، 2025 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: تريليونات ترمب وفلسطين 19 أبريل، 2025 دلال البزري تكتب عن: الحرب الأهلية اللبنانية التي... 18 أبريل، 2025 حازم صاغية يكتب: مرّة أخرى عن الذكرى الخمسين... 17 أبريل، 2025 كاميليا انتخابي فرد تكتب عن: الفرق بين المفاوضات... 15 أبريل، 2025 غسان شربل يكتب عن: حطب الخرائط ووليمة التفاوض 14 أبريل، 2025