“خط الجثث”… شهادات غزيين مرعبة للممر الوهمي

يطلق الجنود النار على أي فرد يقترب منه حتى لو كان مدنياً ويتركون الجثامين تنهشها الكلاب

اندبندنت عربية / عز الدين أبو عيشة مراسل @press_azz

كان طلعت يسير ببطء شديد والخوف يسيطر على مشاعره عندما اقترب من محور نتساريم في وسط غزة، وقبل أن يصل ثكنة الجنود العسكرية المتمركزة هناك، رأى مجموعة كبيرة من الجثث ملقاة على الأرض بانتظام وكأنها تشكل صورة خط أو شارع في حد ذاتها، حينها انتابه الرعب وخفق قلبه كثيراً.

خلسة أخذ طلعت ينظر إلى الجثث المنتشرة في المكان، زاد الرعب في قلبه عندما رأى كلباً ضالاً يقترب منه، لكن هذا الحيوان انحنى على جثة فلسطيني وأخذ يأكل منها، فأقشعر بدن الرجل وأسرع خطواته وفي عقله تدور سيناريوهات خطرة حول مصيره في الدقائق القليلة المقبلة.

رحلة النزوح بين الجثث

يسكن طلعت في النصف الشمالي لغزة، ويعيش هناك حالة جوع شديدة، وعلى رغم أنه صبر على ذلك أكثر من 14 شهراً لم يستطع تحمل نفاد الطعام، وقرر التوجه إلى المنطقة الإنسانية في جنوب القطاع.

عندما هم طلعت لتجربة النزوح اتخذ قراره بمفرده أي من دون تعليمات الجيش الإسرائيلي الذي عادة ما يأمر سكان الشمال التوجه للجنوب في مواعيد محددة ووفق مسارات معينة.

وللانتقال إلى المنطقة الإنسانية يتوجب على طلعت المرور من محور نتساريم الذي أقامه الجيش الإسرائيلي قبل 15 شهراً وسيطر عليه بغرض منع النازحين من شمال غزة إلى جنوبه من العودة إلى ديارهم.

عندما اقترب طلعت من محور نتساريم من جهة الشمال، بدأ رحلة المشي على الأقدام، ويتوجب عليه السير مسافة سبعة كيلومترات ليصل إلى جنوب غزة، وحينها يمكنه الركوب في أي وسيلة مواصلات.

جثث متناثرة

في رحلة طلعت المحفوفة بالخوف والأخطار كان على يقين أنه سوف يرى جثامين منتشرة في المكان، لكنه أخذ يلاحظ انتشار الجثث بصورة منتظمة، يقول “على بعد كيلومتر واحد من محور نتساريم، شاهدت خطاً منتظماً، ظننته شارعاً، ولكن عندما اقتربت منه صدمت مما رأيت، لقد كان مساراً وهمياً من بعيد”.

رأى طلعت جثثاً كثيرة، ملقاة على الأرض بانتظام، ومكدسة بطريقة تجعل من يشاهدها من بعيد كأنها مسار أو شارع. ويضيف “يقتل الجنود في الجيش الإسرائيلي أي شخص يقترب منهم، وبعد ذلك يتم تجميع الجثامين في مسار وهمي”.

أصيب طلعت بالرعب، وظن أن مصيره الموت ثم سحل جثمانه إلى جانب الجثث، وببطء وخوف ودقات قلب سريعة كان يسير وهو يجهل مصيره بعد دقائق. يوضح “مئات الجثامين في المكان، وتشكل خطاً عمودياً. الرائحة نتنة والكلاب تقترب من الجثث وتنهشها، المنظر صعب وينم على حدث بلا إنسانية”.

شعر طلعت أن الموت يحيط به، وأخذ يخاطب نفسه متسائلاً “لماذا كل هذه الجثث، لمن تعود، ولماذا هي منتشرة هكذا، وهل سيكون مصيري كذلك”، وكان يواصل سيره من فوق الجثامين حتى وصل فعلياً محور نتساريم وثكنة الجنود.

مر طلعت بهدوء ولم يعترضه أي جندي، وما إن تجاوز السبع كيلومترات، هوى على الأرض ثم صاح “لقد نجوت”. ويؤكد في شهادته لـ”اندبندنت عربية” أن كل من يمر في محور نتساريم معرض للموت ويكون مصيره في خط الجثث.

خط ثانٍ من جهة الجنوب

في شهادة أخرى للنازحة ليلى حداد، تقول “خط الجثث موجود مثله في محور نتساريم من جهة الجنوب أيضاً، أي أن هناك خطين الأول من ناحية الشمال، وكل من يقترب من محور نتساريم يتم قتله وسحل جثمانه إلى هذا الممر”.

وتضيف، “وصل ابني قبل أسابيع بواسطة دراجة نارية إلى مكان قريب من محور نتساريم، وعندما علمت بالأمر ذهبت بسرعة إلى المكان، وجدته مقتولاً برصاصة في رأسه، خفت من سحبه لأن الجنود أطلقوا صوبي النار”.

عادت ليلى قبل أيام إلى مكان مقتل ابنها، لكنها لم تجد جثته، وتشجعت كثيراً حتى اقتربت من مسافة قريبة من محور نتساريم، وهنا توضح “رأيت خط الجثث بأم عيني، وحينها أيقنت أن الجيش صنع ممراً يكدس فيه الجثامين”.

كلاب تنهش

ويقول أسامة إنه تمكن من رؤية الجنود وهم يسحبون جثة مراهق ويضعونه وسط ممر من جثث، مضيفاً “أصابني الرعب لم أنم لأيام طويلة، خط الجثث موجود فعلياً بالقرب من نتساريم”.

رصدت صحيفة “هآرتس” العبرية في تقرير لها معلومات وشهادات عن خط الجثث، واستمعت هي الأخرى لشهادات من جنود عن قتلهم لأشخاص مدنيين في غزة ووضعهم في ممر وتركهم لأيام طويلة من دون تسليمهم إلى وزارة الصحة الفلسطينية أو دفنهم.

وجاء في تقرير الصحيفة أن عدداً من الجنود اعترفوا لها بأنهم قتلوا أشخاصاً في غزة يعرفون أنهم مدنيون وليسوا عناصر أو مقاتلين في “حماس”، وإنهم كانوا يطلقون الرصاص بغرض القتل، ويسمحوا للكلاب الضالة بنهش أجساد الجثامين.

غير موجود على الخريطة

الصحافي الإسرائيلي ينيف كوفوفيتش يؤكد بدوره “جنودنا في محور نتساريم رسموا خطاً واهياً، وقرروا حكم الموت على كل من يجتازه، بغض النظر إن كان ذلك شخصاً ممن يضلون طريقهم ويكونون غير مسلحين، أو كانوا يركبون على دراجات هوائية”.

ونقلت “هآرتس” عن قائد في الفرقة “252” قوله “هناك شيء يسمى لدى القوات بمنطقة خط الجثث، يمنع على أي شخص من غزة الاقتراب منه ومن يتجاوز يقتل، وبعد إطلاق النار، يجري جمع الجثث على الفور، والكلاب تأتي لنهشها. في غزة يعرفون أنه أينما توجد الكلاب فإن هذا هو المكان الذي يجب أن يهربوا منه”.

محور نتساريم من بين مواقع عسكرية يرفض نتنياهو الانسحاب منها في غزة (رويترز)

وتابع، “خط الجثث بمحور نتساريم غير موجود على الخريطة لكن كل من يتحرك فيه معرض للقتل، نحن من صنعنا هذا لأجل حماية أرواحنا. الضباط والجنود يتنافسون في قتل من يقترب من هذا المسار الوهمي ونحتسبهم عناصر مسلحين حتى لو لم يحملوا السلاح”.

“حماس” تدعو للمحاكمة

رصدت المنظمات الدولية ما يجري بالقرب من محور نتساريم، وانتقدت منظمة “أطباء بلا حدود” ذلك بشدة، إذ يقول الأمين العام للمنظمة كريستوفر لوكيير “الاقتراب من نتساريم يعني الوقوع في مصيدة للموت، يجب على إسرائيل وقف هجماتها العشوائية ضد المدنيين”.

ونبه إلى أن “ما يجري هناك مثال صارخ على الحرب الوحشية التي تشنها القوات الإسرائيلية على غزة، ونحن نرى علامات واضحة على التطهير العرقي بعد الحديث عن خط الجثث، إن القوات الإسرائيلية تقزم بسحق سكان غزة جميعاً هناك”.

من حركة “حماس” يقول متحدثها سامي أبو زهري “ممارسات الجيش في محور نتساريم وإنشاء خط الجثث دليل جديد على جرائم حرب غير مسبوقة، هذه ممارسات وحشية وقتل متعمد للمدنيين والأطفال والشيوخ من دون تمييز، وبأوامر عليا وإشراف من الضباط”. ويضيف، “على محكمة الجنايات الدولية التسريع في إجراءات القبض على مجرمي الحرب”.

أما المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري فيقول “قواتنا هي الجيش الأكثر أخلاقية في العالم… ادعاء غير ذلك غير صحيح، ولا أساس من الصحة حول خط الجثث، أعتقد أن ذلك وهم أو تهيؤات لدى البعض، نحن نلتزم في القانون الدولي وقواعد الحرب”.

المزيد عن: غزةإسرائيلمحور نتساريمالكلابالجيش الإسرائيليخط الجثث