Uncategorized حق الإنسان الذكي في الكسل بين غونتشاروف ولافارج وألبير قصيري by admin 9 نوفمبر، 2022 written by admin 9 نوفمبر، 2022 37 “شحاذون ومتكبرون” رواية مصرية بالفرنسية تبجل الحق الأسمى بين حقوق الإنسان اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب هناك في الأدب الروسي العائد إلى القرن التاسع عشر الذي فتن القراء وحتى المبدعين طوال ما يقرب من قرنين حتى الآن، أوبلوموف ومبدعه غونتشاروف الذي جعل من كسله مذهباً اجتماعياً سلوكياً سمي تحديداً “الأوبلوموفية”؛ وهناك في الفكر الإنساني الكبير الكاتب والمناضل الفرنسي المنتمي إلى القرن نفسه، بول لافارج، المعروف بكونه صهر كارل ماركس وأحد ناشري فكره. وهناك في الأدب الحديث الكاتب المصري الأصل ألبير قصيري الذي أمضى الخمسة والأربعين عاماً الأخيرة من حياته نزيل فندق متوسط الحال وسط باريس التي لم يبرحها أبداً منذ انتقل إليها وهو في ريعان شبابه ليضحي جزءاً من حياتها الأدبية وواحداً من روائييها على رغم أن كل ما كتبه من روايات وقصص يدور حول حثالة القاهرة ولكن باللغة الفرنسية. أما ما يجمع بين الثلاثة مشكلاً قاسماً مشتركاً بينهم فليس سوى الكسل الذي جعل منه غونتشاروف مذهباً طبيعياً وأعلن لافارج أنه أسمى حقوق الإنسان حقه في أن يكون كسولاً، ثم أتى قصيري ليعلنه منهج حياة وفضيلة وموضوعاً مطلقاً لأدبه. وربما يصح أن نقول إن قصيري ومن دون أن يكون بالضرورة قد قرأ رواية غونتشاروف أو كتاب لافارج، عرف كيف يستوعب أفكارهما التي لا شك راقت له إلى درجة كبيرة ليحولها ليس موضوعاً لرواية واحدة من رواياته بل إلى موضوع أساس لكل رواياته ومن ثم إلى سلوك حياتي لم يتخل عنه أبداً وجعل له مكانة أساسية في الحياة الأدبية الفرنسية وتلك المكانة هي التي جعلت رساماً وكاتب سيناريو فرنسيين يهيمان بمصر وحياتها، يحولان روايته الأساسية “شحاذون ومتكبرون” إلى ألبوم شرائط مصورة سجل أرقاماً قياسية في المبيعات والانتشار منذ صدور طبعته الأولى قبل سنوات. سيرة حياة لا تتحرك ولد ألبير قصيري عام 1913 في القاهرة، حيث أمضى طفولته ومراهقته ثم سنوات شبابه المبكر. وبدأ الكتابة مبكراً في سن العاشرة، وظل يكتب في القاهرة وعنها بصورة متقطعة حتى انتهى به الأمر في عام 1940 إلى أن ينشر مجموعة قصصية أولى عنوانها “رجال الله المنسيون” وهي طبعاً المجموعة نفسها التي سيكتشفها هنري ميلر لاحقاً وينشرها في الولايات المتحدة. وفي عام 1945 انتقل ألبير قصيري إلى باريس نهائياً حيث أقام في فندق “لويزيانا” وسط ما كان يسمى الحي اللاتيني وهو الفندق نفسه الذي جاوره فيه لزمن كل من جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار. وفي عام 1951، وبعد أعمال روائية كتبها في غرفته الضيقة في ذلك الفندق وتمكنت بسرعة من لفت أنظار الكتاب من فرنسيين وغيرهم، نشر قصيري عمله الخامس وهو روايته “شحاذون ومتكبرون” التي ستنال من الشهرة قسطاً مدهشاً وتحولها المخرجة المصرية أسماء البكري لاحقاً إلى فيلم سينمائي أتى مميزاً: “نبلاء وشحاذون” حتى وإن كانت ترجمة عنوان الرواية إلى العربية على هذا النحو لم تف تماماً بالغرض. فالعنوان الأصح للرواية هو “شحاذون ومتكبرون”. غلاف طبعة جديدة من “شحاذون ومتكبرون” في أصلها الفرنسي (مواقع التواصل) لعل ما فتن القراء أكثر من أي شيء آخر فيها هو أن قصيري، وعلى عادته في معظم ما كان قد كتب ونشر حتى ذلك الحين، جعل حبكتها تدور في عالم المهمشين والمتسولين وكل أصناف الحثالة في قاهرة أواسط القرن العشرين. أي حكاية كل ذلك العالم الفوضوي واللامبالي المتحلق من حول مفكر يدعى جوهر، وهو أستاذ جامعي متقاعد، جعله شعوره بالاشمئزاز مما اعتبره الثقافة الغربية ومن “سطحية القيم التي تنقلها”، يقرر أن يتحول إلى متسول بين المتسولين. غير أن تسوله، بالإضافة إلى إدمانه الحشيش، يدفعه إلى ارتكاب جريمة قتل ضحيتها عاهرة شابة تدعى أرنبة. وعندما تكتشف الجريمة يتم فتح تحقيق يقوم به ضابط الشرطة نور الدين، الذي سرعان ما يتبين أنه مثلي الجنس. وينتهي الأمر بنور الدين إلى اكتشاف أن جوهر هو القاتل. لكن الذي يحدث هنا في “قلبة” أبدع قصيري في نسجها هو أن مذهب جوهر في النزوع إلى الفوضوية والهامشية واللامبالاة سرعان ما يهيمن على فكر نور الدين فيقرر أن يصبح متسولاً بدوره. علاقات تتبدل وهكذا، إذ تجد جميع الشخصيات التي كنا قد تعرفنا إليها في هذا السياق نفسها في قلب تحقيق الشرطة من ناحية، وفي العلاقات التي ستلي ذلك وتتم من حيث لم نكن قد توقعنا، بين جوهر ونور الدين سيتبين لنا في نهاية الأمر أن كل هذا إنما صاغه الكاتب كمجرد ذريعة يستخدمها لتصوير العالم السفلي للقاهرة كما لترجيح كفة “الفكر” الذي يعبر عنه جوهر ويكون من القوة والقدرة على الإقناع إلى درجة أنه يجتذب رمز السلطة والشخص الأكثر تسلطاً وجبروتاً وميلاً إلى الفساد (نور الدين) إلى سلوك كان من المفروض أنه هو أعتى أعدائه والمولج بقمعه في المجتمع. بالتالي تسمح الحبكة للكاتب بأن يصور نور الدين، المفترض أنه عسكري شرطي لديه في أعماقه ميول جنسية مثلية مفترضة سيئة من الناحية المبدئية، لأنها تتعارض مع صورته كضابط محترم وقوي وعنيف، يصوره بشكل لا يحمل لاحقاً أي إدانة (وهو على أية حال الأمر الذي لم يتضح في الفيلم وربما تحت ضغط رقابة ما، أو حتى بفعل رقابة ذاتية قد لا تجد من المقبول به الوقوف موقفاً ولو محايداً فقط من تحول نور الدين!). غير أن هذا التفاوت بين منطوق الفيلم وجوهر فكر الرواية لا يبدو فائق الأهمية هنا. فالأهم من ناحية الكاتب أنه يتمكن من أن يصور لنا من خلال حبكته ما يمكّنه على هامش تصويره الأبطال الرئيسيين، من إقامة معرض لعدد لا بأس به من أفراد، كل واحد منهم غريب عن الآخر: منهم من هو مجرد ضحية رعب رجل من نوبات الغيرة على زوجته، أو حتى صاحبة بيت دعارة تبدو على استعداد لفعل أي شيء حتى يكون نشاطها التجاري غير ملاحق وبيتها مفتوحاً، مع أنه مكان الجريمة التي راحت أرنبة ضحيتها. حس فكاهة خفي مهما يكن فإن هذا العالم الذي يصوره قصيري بشكل لا يخلو من حس فكاهة كما بأسلوب متعاطف مع أجواء قد تثير اشمئزاز كثر من الكتاب الآخرين، هو عالم يقوم بذاته ويعيش أخلاقياته كما يحلو له، في نسيج يكاد يبدو فيه الكاتب وكأنه يدعو إلى انتشار هذا النمط من الحياة بديلاً عن تلك الحياة البورجوازية التي يتفنن نوع من الفكر في تصويرها والإشادة بمحاسنها، بل حتى بديلاً للكآبة المرصودة عادة في حياة الفقراء. ويبدو الأمر في النهاية بالنسبة إلى الكاتب افتتاناً بالهامش وربما على النمط الذي سنجده لاحقاً إلى حد كبير في أدب جان جينيه، الذي يبدو على أي حال أكثر تسيساً، كما يستبق أدب المصري خيري شلبي. غير أن الأهم من هذا، وفي عودة منا إلى ما بدأنا به هذا الكلام، هو ذلك الكسل الذي يبجله قصيري كفعل عيش مفضل، ما يعيدنا إلى “أوبلوموفية” غونتشاروف، وبالتأكيد إلى ما كان بول لافارج ينادي به من أن “كل الثورات والأفكار التقدمية والنزعات الإنسانية إنما تهدف أساساً إلى إعطاء الإنسان ذلك الحق الذي يبدو أسمى من أي حق آخر يسعى إليه: حقه في أن يكون كسولاً”، ويقيناً إن أجمل ما حققه ألبير قصيري في أدبه وحياته أيضاً، هو حقه في أن يكون كسولاً ويعيش كذلك ويكتب عن الكسل إلى درجة أنه حين سئل ذات يوم في استفتاء أجري بين كبار الكتاب لماذا يكتب؟ أجاب، “حتى لا يذهب الشخص الذي قرأني إلى العمل في اليوم التالي”. المزيد عن:ألبير قصيري\الكسل\غونتشاروف\لافارج\تراث الإنسان 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post 40 كتابا ينبغي للمرء أن يقرأها في حياته next post ميزة إضافيّة للقاح الأنفلونزا… استفيدوا منها! You may also like «نيويورك تايمز»: ماسك وسفير إيران لدى الأمم المتحدة... 15 نوفمبر، 2024 نتنياهو ينسف الاتفاق المرتقب لوقف حرب لبنان 2 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: صناعة أسطورة جاكسون بولوك... 29 أكتوبر، 2024 العمليات الخارجية الإيرانية في أوروبا: العلاقة الإجرامية 23 أكتوبر، 2024 الذكاء الاصطناعي يذكر بما أحدثته الثورة الصناعية قبل... 21 أكتوبر، 2024 تقرير اندبندنت عربية / ميدان لبنان مشتعل وتل... 13 أكتوبر، 2024 عام من القتال غيّر خطاب “حماس” وتفكيرها السياسي 7 أكتوبر، 2024 ماذا تعني الكتابة في زمن الاضطراب الذاتي؟ 7 أكتوبر، 2024 هكذا خططت شبكة مقرها إيران لضرب هدف يهودي... 6 أكتوبر، 2024 فيلم “المادة”… الرعب الذي لم يحتمله الجمهور 4 أكتوبر، 2024
هناك في الأدب الروسي العائد إلى القرن التاسع عشر الذي فتن القراء وحتى المبدعين طوال ما يقرب من قرنين حتى الآن، أوبلوموف ومبدعه غونتشاروف الذي جعل من كسله مذهباً اجتماعياً سلوكياً سمي تحديداً “الأوبلوموفية”؛ وهناك في الفكر الإنساني الكبير الكاتب والمناضل الفرنسي المنتمي إلى القرن نفسه، بول لافارج، المعروف بكونه صهر كارل ماركس وأحد ناشري فكره. وهناك في الأدب الحديث الكاتب المصري الأصل ألبير قصيري الذي أمضى الخمسة والأربعين عاماً الأخيرة من حياته نزيل فندق متوسط الحال وسط باريس التي لم يبرحها أبداً منذ انتقل إليها وهو في ريعان شبابه ليضحي جزءاً من حياتها الأدبية وواحداً من روائييها على رغم أن كل ما كتبه من روايات وقصص يدور حول حثالة القاهرة ولكن باللغة الفرنسية. أما ما يجمع بين الثلاثة مشكلاً قاسماً مشتركاً بينهم فليس سوى الكسل الذي جعل منه غونتشاروف مذهباً طبيعياً وأعلن لافارج أنه أسمى حقوق الإنسان حقه في أن يكون كسولاً، ثم أتى قصيري ليعلنه منهج حياة وفضيلة وموضوعاً مطلقاً لأدبه. وربما يصح أن نقول إن قصيري ومن دون أن يكون بالضرورة قد قرأ رواية غونتشاروف أو كتاب لافارج، عرف كيف يستوعب أفكارهما التي لا شك راقت له إلى درجة كبيرة ليحولها ليس موضوعاً لرواية واحدة من رواياته بل إلى موضوع أساس لكل رواياته ومن ثم إلى سلوك حياتي لم يتخل عنه أبداً وجعل له مكانة أساسية في الحياة الأدبية الفرنسية وتلك المكانة هي التي جعلت رساماً وكاتب سيناريو فرنسيين يهيمان بمصر وحياتها، يحولان روايته الأساسية “شحاذون ومتكبرون” إلى ألبوم شرائط مصورة سجل أرقاماً قياسية في المبيعات والانتشار منذ صدور طبعته الأولى قبل سنوات. سيرة حياة لا تتحرك ولد ألبير قصيري عام 1913 في القاهرة، حيث أمضى طفولته ومراهقته ثم سنوات شبابه المبكر. وبدأ الكتابة مبكراً في سن العاشرة، وظل يكتب في القاهرة وعنها بصورة متقطعة حتى انتهى به الأمر في عام 1940 إلى أن ينشر مجموعة قصصية أولى عنوانها “رجال الله المنسيون” وهي طبعاً المجموعة نفسها التي سيكتشفها هنري ميلر لاحقاً وينشرها في الولايات المتحدة. وفي عام 1945 انتقل ألبير قصيري إلى باريس نهائياً حيث أقام في فندق “لويزيانا” وسط ما كان يسمى الحي اللاتيني وهو الفندق نفسه الذي جاوره فيه لزمن كل من جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار. وفي عام 1951، وبعد أعمال روائية كتبها في غرفته الضيقة في ذلك الفندق وتمكنت بسرعة من لفت أنظار الكتاب من فرنسيين وغيرهم، نشر قصيري عمله الخامس وهو روايته “شحاذون ومتكبرون” التي ستنال من الشهرة قسطاً مدهشاً وتحولها المخرجة المصرية أسماء البكري لاحقاً إلى فيلم سينمائي أتى مميزاً: “نبلاء وشحاذون” حتى وإن كانت ترجمة عنوان الرواية إلى العربية على هذا النحو لم تف تماماً بالغرض. فالعنوان الأصح للرواية هو “شحاذون ومتكبرون”. غلاف طبعة جديدة من “شحاذون ومتكبرون” في أصلها الفرنسي (مواقع التواصل) لعل ما فتن القراء أكثر من أي شيء آخر فيها هو أن قصيري، وعلى عادته في معظم ما كان قد كتب ونشر حتى ذلك الحين، جعل حبكتها تدور في عالم المهمشين والمتسولين وكل أصناف الحثالة في قاهرة أواسط القرن العشرين. أي حكاية كل ذلك العالم الفوضوي واللامبالي المتحلق من حول مفكر يدعى جوهر، وهو أستاذ جامعي متقاعد، جعله شعوره بالاشمئزاز مما اعتبره الثقافة الغربية ومن “سطحية القيم التي تنقلها”، يقرر أن يتحول إلى متسول بين المتسولين. غير أن تسوله، بالإضافة إلى إدمانه الحشيش، يدفعه إلى ارتكاب جريمة قتل ضحيتها عاهرة شابة تدعى أرنبة. وعندما تكتشف الجريمة يتم فتح تحقيق يقوم به ضابط الشرطة نور الدين، الذي سرعان ما يتبين أنه مثلي الجنس. وينتهي الأمر بنور الدين إلى اكتشاف أن جوهر هو القاتل. لكن الذي يحدث هنا في “قلبة” أبدع قصيري في نسجها هو أن مذهب جوهر في النزوع إلى الفوضوية والهامشية واللامبالاة سرعان ما يهيمن على فكر نور الدين فيقرر أن يصبح متسولاً بدوره. علاقات تتبدل وهكذا، إذ تجد جميع الشخصيات التي كنا قد تعرفنا إليها في هذا السياق نفسها في قلب تحقيق الشرطة من ناحية، وفي العلاقات التي ستلي ذلك وتتم من حيث لم نكن قد توقعنا، بين جوهر ونور الدين سيتبين لنا في نهاية الأمر أن كل هذا إنما صاغه الكاتب كمجرد ذريعة يستخدمها لتصوير العالم السفلي للقاهرة كما لترجيح كفة “الفكر” الذي يعبر عنه جوهر ويكون من القوة والقدرة على الإقناع إلى درجة أنه يجتذب رمز السلطة والشخص الأكثر تسلطاً وجبروتاً وميلاً إلى الفساد (نور الدين) إلى سلوك كان من المفروض أنه هو أعتى أعدائه والمولج بقمعه في المجتمع. بالتالي تسمح الحبكة للكاتب بأن يصور نور الدين، المفترض أنه عسكري شرطي لديه في أعماقه ميول جنسية مثلية مفترضة سيئة من الناحية المبدئية، لأنها تتعارض مع صورته كضابط محترم وقوي وعنيف، يصوره بشكل لا يحمل لاحقاً أي إدانة (وهو على أية حال الأمر الذي لم يتضح في الفيلم وربما تحت ضغط رقابة ما، أو حتى بفعل رقابة ذاتية قد لا تجد من المقبول به الوقوف موقفاً ولو محايداً فقط من تحول نور الدين!). غير أن هذا التفاوت بين منطوق الفيلم وجوهر فكر الرواية لا يبدو فائق الأهمية هنا. فالأهم من ناحية الكاتب أنه يتمكن من أن يصور لنا من خلال حبكته ما يمكّنه على هامش تصويره الأبطال الرئيسيين، من إقامة معرض لعدد لا بأس به من أفراد، كل واحد منهم غريب عن الآخر: منهم من هو مجرد ضحية رعب رجل من نوبات الغيرة على زوجته، أو حتى صاحبة بيت دعارة تبدو على استعداد لفعل أي شيء حتى يكون نشاطها التجاري غير ملاحق وبيتها مفتوحاً، مع أنه مكان الجريمة التي راحت أرنبة ضحيتها. حس فكاهة خفي مهما يكن فإن هذا العالم الذي يصوره قصيري بشكل لا يخلو من حس فكاهة كما بأسلوب متعاطف مع أجواء قد تثير اشمئزاز كثر من الكتاب الآخرين، هو عالم يقوم بذاته ويعيش أخلاقياته كما يحلو له، في نسيج يكاد يبدو فيه الكاتب وكأنه يدعو إلى انتشار هذا النمط من الحياة بديلاً عن تلك الحياة البورجوازية التي يتفنن نوع من الفكر في تصويرها والإشادة بمحاسنها، بل حتى بديلاً للكآبة المرصودة عادة في حياة الفقراء. ويبدو الأمر في النهاية بالنسبة إلى الكاتب افتتاناً بالهامش وربما على النمط الذي سنجده لاحقاً إلى حد كبير في أدب جان جينيه، الذي يبدو على أي حال أكثر تسيساً، كما يستبق أدب المصري خيري شلبي. غير أن الأهم من هذا، وفي عودة منا إلى ما بدأنا به هذا الكلام، هو ذلك الكسل الذي يبجله قصيري كفعل عيش مفضل، ما يعيدنا إلى “أوبلوموفية” غونتشاروف، وبالتأكيد إلى ما كان بول لافارج ينادي به من أن “كل الثورات والأفكار التقدمية والنزعات الإنسانية إنما تهدف أساساً إلى إعطاء الإنسان ذلك الحق الذي يبدو أسمى من أي حق آخر يسعى إليه: حقه في أن يكون كسولاً”، ويقيناً إن أجمل ما حققه ألبير قصيري في أدبه وحياته أيضاً، هو حقه في أن يكون كسولاً ويعيش كذلك ويكتب عن الكسل إلى درجة أنه حين سئل ذات يوم في استفتاء أجري بين كبار الكتاب لماذا يكتب؟ أجاب، “حتى لا يذهب الشخص الذي قرأني إلى العمل في اليوم التالي”. المزيد عن:ألبير قصيري\الكسل\غونتشاروف\لافارج\تراث الإنسان