جون كيتس بريشة جوزيف سيفرن 1845 (الموسوعة البريطانية) ثقافة و فنون جون كيتس ابتكر رومانطيقية الشعر الإنجليزي ورحل في سن النضوج by admin 27 مارس، 2024 written by admin 27 مارس، 2024 158 “السيدة الحسناء التي لا ترحم” نهلت من أساطير الأقدمين ومخاوف العاشق في زمن حاضر اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب لم يكن الشاعر الإنجليزي جون كيتس قد تجاوز الـ26 من عمره حين رحل عن عالمنا، ليس في وطنه، ولكن في إيطاليا التي كان يفضلها على أي بلد آخر. فهو كان منذ صباه الباكر يعتبر ثقافتها وفنونها وأساطيرها وقفاً عليه، وكأنها لم توجد أصلاً إلا من أجله، فراح ينهل منها نثره وشعره ويقتات من كل ما يتعلق بها. كان كيتس (1795 – 1821) في مستهل نضوجه حين رحل، حتى وإن كان الفيلم البديع “نجم ساطع” الذي أرخت به السينمائية النيوزيلندية جين كامبيون، لعلاقة الشاعر بخطيبته فاني براون، والمعتبر على الأرجح من أفضل الأفلام السينمائية المعاصرة التي دنت مباشرة من قضية الشعر في امتزاجها بالحب، وتحديداً من وجهة نظر “نسوية”، لئن كان يصوره أكبر سناً إلى حد ما دون أن تفسر كامبيون ذلك، فإن المهم بالنسبة إليها هنا لم يكن الشاعر نفسه، بل علاقته المضطربة مع فاني التي بمقدار ما كانت هي واقعية وتحب خطيبها الشاعر كإنسان ستنتهي إلى القطع معه حين تدرك في النهاية أنه لم يعش معها قدر ما عاش مع “امرأة أخرى” اخترعها لنفسه. المهم أن ابن الـ26 حظي من الزمن الراهن وبعد رحيله بقرنين على مكافأته على المكانة التي حظي بها في تاريخ الشعر الإنجليزي من ناحية كعاشق تأرجحت حياته بين إبداعه الشعري، ومن ناحية أخرى، بين الانجذاب الذي عاشه تجاه الحب إنما – وكانت تلك شكوى فاني منه – كمادة تعطي لكتابته رومانطيقيتها ومعانيها. والحقيقة أن هذين البعدين هما ما جعلا تاريخ الشعر يُبوِّئ كيتس مكانة مميزة بوصفه مؤسس المرحلة الأولى من الرومانطيقية التي طبعت الشعر الإنجليزي فأضحى يدين بكثير لـ”موتزارت الشعر” هذا، كما لقبه بعض النقاد المتحمسين. عالم الشعر وعالم الأساطير والحقيقة أن تلك المكانة لا تنفصل عن الرجوع الدائب في مسيرة كيتس الكتابية إلى عالم الأساطير الذي بنى وجود الإنسان الإبداعي في عالمنا. ولعل خير شاهد على ذلك، مجمل الشعر الذي كتبه كيتس خلال تلك السنوات القصيرة التي عاشها. الشعر الذي جعله يوسم بالرومانطيقية المطلقة التي من ناحيتها جعلت مؤرخي الشعر يركزون في التأريخ له، على النظرة المبجلة التي نظر بها الفنانون الما قبل رافائيليين إليه هم الذين لم يتوانوا عن جعله وشعره “موضوعا” لعديد من لوحاتهم التي بدورها وعلى خطاه نهلت من تاريخ الأساطير والأدب الرومانطيقي القديم (كما فعل روزيتي ورفاقه من رسامي ذلك التيار الذي كان من أهم مساعيه الرجوع بالفنون إلى ما قبل “واقعية” النهضوي رافائيل، فرسموا كيتس بين آخرين في لوحات جعلت المواضيع الأسطورية جزءاً من مادتها المؤسسة)، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن رضا أولئك الرسامين عن كيتس كان يعتبر في ذلك الزمن – النصف الأول من القرن الـ19 – تكريساً لا يعلوه تكريس. إذا، كل ذلك حققه ذلك اليافع قبل رحيله المؤسي في إيطاليا التي كان قد قصدها لعل مناخها المتوسطي ينقذه من داء السل الذي سيقضي عليه. أما الشهادة الأهم على المكانة التي كان كيتس يستحقها فهي قصيدته الأجمل “السيدة الحسناء التي لا ترحم”، والتي تجمع عديداً من العناصر الحكائية والأسلوبية، بل حتى المعاني التي تنهل من أساطير العصور الوسطى التي تمت بصلات بديعة إلى الجذور الإغريقية لمفهوم الأسطورة نفسه. رسم مستوحى من قصيدة كيتس (غيتي) الكتابة ضد ضيق الوقت بل إن الشاعر يفيدنا منذ البداية بأنه إنما استقى تلك القصيدة التي ربما ستكون الوحيدة التي أنجزها بالفعل وسط أعمال كثيرة اشتغل عليها خلال العامين الأخيرين من حياته بالنظر إلى أن حدسه كان يقول له أن حياته باتت على وشك الانتهاء، بالتالي لا بد له من أن يعمل على الضد مما يتيحه له الزمن على بلورة كثير من الأفكار الشعرية والدرامية فراح يتنقل بين القصائد والمشاريع وشتى أنواع الكتابة عاجزاً عن إنجاز معظمها باستثناء تلك القصيدة التي نتناولها هنا. ويعرف متابعو شعر كيتس أنها على غرار عديد من قصائده تحكي قصة عن ذلك الفارس الذي لم يكن حضوره جديداً في الشعر الرومانطيقي بخاصة: الفارس الذي خلال تجواله في البراري يلتقي فتاة حسناء غامضة تتمتع بجمال فاتن وشخصية آسرة بحيث إنه سيدرك بسرعة أنها ليست في حقيقتها سوى ابنة جنية تعيش في تلك المنطقة من العالم. ومن هنا لا يتردد في الدنو منها مصطحباً إياها على حصانه دون أن يدرك إلى أين ستكون وجهة الحصان. كان يكفيه أن تنشده بصوتها الذي بدا له آتياً من أعماق الروح، نشيد حب لم يتذكر أنه استمع إلى ما يشبهه في حياته، وذلك في وقت مكنته فيه الحسناء من تذوق العسل البري المنتشر بين أزهار الغابات فيما يتوجه بهما الحصان إلى مغارة غامضة بدورها لم يشاهدها من قبل. ويتبين للفارس أن الغابة مسحورة ككل ما يحيط بها. وداخل المغارة وجد الفارس عشباً شديد الطراوة بديع الألوان يستلقي عليه مع “فتاته” ليرى فيما يرى النائم مجموعة من فرسان شاحبي السمات وأمراء صاخبين تتجول بينهم جماعات من أطياف يصرخون في أذنيه بحقيقة أنه قد وقع تحت سطوة وسيطرة السيدة الحسناء التي لا ترحم. وهنا يفيق الفارس من نومه وحلمه ليجد نفسه مستلقيا وحده على سفح تلة شديدة البرودة، ويكتشف أمام هوله وحزنه أنه بات محكوماً بالتشرد إلى الأبد على طول شاطئ بحيرة تحلق فوقها طيور صامتة وتحيق بها زهور جافة. استعارات في القصيدة كان من الواضح أن المنبع الأساس لهذه الحكاية التي استخدم كيتس للتعبير عنها كل طاقته اللغوية المعبرة عن قدر مذهل من العواطف والخيبة والشوق، يرتبط بالنصوص الكثيرة التي يعرفها الأدب الرومانطيقي المشكل لأجمل ما أنتجه التراث الشعري في العالم، وهو التراث الذي جعل من صورة المرأة الغامضة التي لا هم لها سوى تدمير الرجال، صورة كلاسيكية لا تغيب. ومن هنا يجد قارئ القصيدة نفسه من خلال فتاة كيتس هذه، في حضرة سيرسي في الأساطير الإغريقية، كما في حضرة نيميي في الحكايات البريتانية (في الغرب الفرنسي) ولوريلي على ضفاف نهر الرين في ألمانيا. وإضافة إلى هذا، لن يفوت القارئ هنا أن يجد في العنوان الفرنسي الذي استخدمه كيتس لقصيدته، اقتباساً من عنوان قصيدة معروفة للفرنسي آلان شارتييه (القرن الـ15)، دون أن يكون ثمة تماثلاً بين تفاصيل القصيدتين باستثناء رسمهما المناخ العام للحكاية، ناهيك بأن هناك اختلافاً كبيراً بين فروسية وتطلعات فارس شارتييه وبين ما تشي به حالة فارس كيتس. فالأول له كل سمات “الرجولة” التي تميز فارس الأساطير الكلاسيكية القديمة حتى ولو أضعفه الغرام، أما فارس كيتس فإنه يبدو بعيداً من تلك السمات إلى حد أن غرامه “الوهمي”، إنما يأتي نتيجة لكآبته بينما يكون كآبة الفارس القروسطي ناتجة من وقوعه في الغرام. وإلى ذلك فإن المرأة التي يلتقيها فارس كيتس على رغم انتمائها إلى عالم الغيلان الملتهمة، فإنها تكاد تكون بشرية بالنسبة إلى ما يضاهيها من نساء الأساطير السابقة، ومن هنا تكاد تكون عقاباً إلهياً للفارس يسبب غياب أي مبرر صادق لكآبته السابقة. إحساس بالذنب مهما يكن لا بد هنا من التذكير بأن تركيب كيتس للمرأة في قصيدته سينظر إليه كنوع من التأنيب الذاتي لشاعر يحس بالذنب تجاه إفراطه في سلوك درب الكآبة التي تعتصر حياته من غير دافع. ومن هنا اعتبرت قصيدة كيتس هذه شديدة الذاتية، بالتالي مفتتحاً لرومانطيقية جديدة لا تمت بصلة إلى الرومانطيقيات السابقة، وهو ما سيلقي بظله على عديد من الشعراء رومانطيقي بدايات القرن الـ19، بل حتى على كتاب بوليسيين مثل ويلكي كولنز في مزجهم المدهش بين السمات الرومانطيقية لنساء رواياتهم وبين مستلزمات روايات الجرائم والتحقيق البوليسي العقلاني ما أنتج تلك النوعية الجديدة حتى في أدب بوليسي ما كان من الممكن أن يتوقع منه أن يبدو في بعض سماته أدباً رومانطيقياً أو يمت إلى الرومانطيقية بصلة! المزيد عن: الشاعر الإنجليزي جون كيتسالرومانطيقية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post رقص النشوة هل هو علاج مثالي للاكتئاب؟ next post الصراع يزداد بين الأدباء والذكاء الاصطناعي… ولا نهاية You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024