بأقلامهمعربي جهاد الزين يكتب من بيروت : “دولة لقيطة” by admin 26 مارس، 2023 written by admin 26 مارس، 2023 28 منطقتنا، منطقة الشرق الأوسط تنتظر من لبنان ما هو أكثر من مجرد ممارسة دوره المفقود في التميّز الحداثي. النهار اللبنانية \ جهاد الزين “المرء يستطيع هجر بيته لا قبره” شارل قرم قرأت هذا التعبير “دولة لقيطة” للمرة الأولى في استخدامه الصيني. ورد ذلك كما أشرت في مقالي الأسبق “الشرق الأقصى”يأتي” إلى الشرق الأوسط” (النهار 16- 3- 2023) نقلا عن توصيف كاتب صيني هو وانغ إيوي يمتدح تحوّل إحدى دول أوروبا الوسطى من “دولة لقيطة” إلى دولة مركز في التواصلات البرية والجوية بفضل “مبادرة الحزام والطريق الصينية” التي يخصِّص لها إيوي كتابه المترجم إلى اللغة العربية على يد مترجمين صينيين.. وقرأت هذا التعبير مرة ثانية لو متأخرا في وصف أحد الكتاب الإيرلنديين في مجلة بريطانية ونقله موقع إلكتروني عربي ل ِ”إيرلندا الشمالية” على أنها “دولة لقيطة” والاستخدامان الصيني والإيرلندي يعنيان ب”اللقيطة”: الدولة التي لا يرغب بها أحد أو التي لم يكن يرغب بها أحد. عندما فكّرت في هذه الإحالة لمعنى “الدولة اللقيطة” على الحالة اللبنانية كان من الطبيعي أن أجد الحالة الإيرلندية الشمالية أقرب بطبيعة الحال إلى الوضع اللبناني حيث في الدولتين يختلف اللبنانيون كما الإيرلنديون على أسس طائفية، في لبنان المسلمون والمسيحيون، ثم الموارنة والسنّة و الشيعة و الدروز على موقع دولتهم مع المحيط وعلى صيغة الحكم، وفي إيرلندا الكاثوليك والبروتستانت على الولاء الوطني وتاليا صيغة الحكم. للبنان أُمٌ هي فرنسا و أب هو النظام الدولي بعد الحرب العالمية الأولى مدعوما من البطريركية المارونية. إذن ليس كيان “لبنان الكبير” وليد “زنى” (جيوسياسي) كما يفترض المعنى الحرفي لكلمة اللقيط أو اللقيطة. غير أن ما آلت إليه أحوال الدولة اللبنانية يكاد يحوِّل الكيان والدولة إلى حالة لقيطة. لبنان لا يشكو من عدم التصارع عليه ولكن من الاستهانة به. أصبحنا دولة لقيطة بسبب الضعف الاستضعاف والاستهانة الداخلية والخارجية. حتى كوننا بلدا لقيطا صار له معنى، ليس عدم وجود الاهتمام بنا، بل سهولة بناء موقع لكل “عابر سبيل” عندنا. الانهيار المالي والاقتصادي مترافقاً مع انهيار مؤسسات الدولة الإدارية جعل من النفوذ السياسي في لبنان قوة رخيصة الكلفة في صراعات المنطقة. من دون دولة وحتى من دون وحدة كيان لا زالت “جزيرة” مدارس التعليم النخبوي وبعض الجامعات الكبيرة والعريقة ونسبيا الجزيرة الاستشفائية قوية وفاعلة كما لو أنهما جزيرتان تَبقيان من الأرخبيل اللبناني صالحتين بل مطلوبتين لإعادة “تربية” لبنان الشرعي في جيل مقبل. بعض أذكى الكتابات اللبنانية المعاصرة يحار القارئ – المراقب السياسي اليوم في تصنيفها: هل هي كتابات الخوف المبكر (والمستشرِف) على الكيان اللبناني كمشروع دولة قومية فاشلة أم هي تجليات خيبة الحلم اللبناني، الخيبة التي تنتقل من جيل إلى آخر، وها هو جيلنا، وقد ساهم في حصولها (الخيبة)، يعلنها في الذروة هذه الأيام، ذروة الانهيار وقاع القاع السياسي. شارل قرم عام 1934 يهدي “نشيد الاحتضار”، وهو الفصل الثاني من كتابه الشعري بالفرنسية “الجبل الملهَم” المؤلف من ثلاثة فصول (تعريب جميل جبر).. يهديه إلى “ذكرى البطريرك الياس الحويك الذي لم ييأس أبدًا لا من الله ولا من لبنان”. يكتب وهو يتكلّم بصوت جبل لبنان: ” الآن وفي غمرة الحشرات وتباريح التمزّق، الجبل قال لي، بصوتٍ كهفي: حين أنعم الإصغاء إلى نفسي، حين أصغي إلى هذا المجهول الذي في أحشائي يضطرب، حين أنسى لحظة السياسيين الأوغاد الخصيان الساخرين، وجمهور المستثمرين، الذين يحيون زحفاً، ….. ….. هذه التوراة الصامدة في الشوارع والأوحال وهذا الإنجيل، عفوك يسوع، إنجيل الثعالب والذئاب في جلود حملان الضباع وهي تلعب دور الرعاة الوديعة العيون ورؤيا نهايةالعالم في جشع المال الحرام وتواريخ الترددات وقاموس مفترسي الناس ….. ….. ترى من أين جاؤوا، من أي خواء،. من أية هزائم لاتُمحى” (منشورات المجلة الفينيقية) ————————————————————————————————————— كيف يكون ترتيب الأسئلة السياسية في “الدولة اللقيطة”؟، وهل يناسب هذا التعبير دولا كُتب عليها أن “تنافس” الشرعية التاريخية لدول كبيرة كالصين أو فرنسا أوألمانيا وليس دولا كتايوان ولبنان وقبرص وإيرلندا الشمالية، تجد أنظمتها السياسية نفسها تحت رحمة خيارات قومية أكبر لا تزال تنظر إليها على أنها غير قادرة على الاستقلال بل غير جديرة به؟ وأين تبدأ شرعية النجاح والفشل في عالم اليوم إذا كانت دولة مثل سينغافورة ذات المساحة التي لا تتخطى 724,2 كيلومتر مربع بكل جُزُرِها، قادرة أن تكون أحد المراكز المالية الأبرز في عالم اليوم؟ ولماذا لا نذكر البحرين المملكة التي تحظى بأفضل علاقات مع الدولة الكبرى الحامية على ضفة الخليج العربية وهي السعودية، وربما أتاح لها الاتفاق السعودي الإيراني أخيرا تهدئة تحرشات الدولة الكبيرة الأخرى على الضفة الفارسية وهي إيران إلى حين الوصول إلى صيغة نهائية لإيران مكتفية بالتطلع إلى داخلها بعيدا عن مشاريعها الثورية الفئوية في الخارج. غير أن التجربة التاريخية اللبنانية تفيدنا أن الدولة التي لا تستطيع أن تهدأ مع نفسها لا يمكنها الخروج من حالة “اللقاطة”. لذلك البحرين قوية ومزدهرة ولبنان ضعيف ومنهار،وسينغافورة ناجحة جدا ولبنان صار فاشلاً. وإيرلندا الشمالية قلقة ولبنان أكثر قلقاً، وقبرص مقسّمة إلى دولتين ولبنان تحت سيف التفتّت والانقسام ولو بدا في الظاهر موحدا. صغر مساحة الدولة ليس عنوان “لقيطيّتها”، ولهذا يقف القانون الدولي ضد الاستضعاف رغم مشاكل الحدود والخرائط الموروثة عن العهد الاستعماري. المهم في عالم اليوم أن تنجو دول كلبنان والبحرين و”مشروع – دولة” كفلسطين وغيرها من براثن الأيديولوجيات التوسعية مثلما نجت دولة الكويت سابقا من ديكتاتورية صدام حسين. باستطاعة الدول الصغيرة في عالم بلا وحوش توحيدية أن تكون اللآلئ اللامعة على خرائط أطلس العالم، كما كان لبنان في الستينات وكما هي مونت كارلو وهونغ كونغ الواقعة حاليا تحت خطر انكماش دورها الديموقراطي (ومعه الدور الاقتصادي لأنهما توأمان). صحيح أن المجتمع الضخم على البر الصيني الذي ينعم منذ عقدين بمكاسب النهضة العلمية والاقتصادية الصينية غير مهتمة طبقته الوسطى الواسعة والمتسعة بالديموقراطية قدر اهتمامها بالرخاء الاقتصادي والمعيشي كما يفيد بشكل شبه متواصل العديد من الدراسات في أبرز مراكز البحث الغربية رغم وجود نخب فاعلة لا تتخلّى عن الحلم الديموقراطي. فها هو الرئيس الصيني شي بينغ يتعهّد في خطاب القسم لولايته الثالثة أمام مجلس الدولة وأمام الشعب الصيني المنقول على التلفزيون “بناء وطن مزدهر، قوي، ديموقراطي، حضاري، منسجم، بلد حديث جدا واشتراكي”. أما كلمة “ديموقراطي” فيجب أن تُفهَم بالمعنى المختلف والعنيد الذي يصر عليه الحزب الشيوعي الصيني للديموقراطية! لكن منطقتنا، منطقة الشرق الأوسط تنتظر من لبنان ما هو أكثر من مجرد ممارسة دوره المفقود في التميّز الحداثي. إنها الثقافة التي قد تنقذ المعنى اللبناني حتى على المستوى السياسي. لكن حتى الثقافة تحتاج إلى تحرير دائم من الأوهام والخرافات السياسية التي اعتادت الجماعات اللبنانية أن تتبارى في المبالغة حولها، وعلى اللبنانيين في قعر انحطاط دولتهم أن يتباروا في منع تحويلها إلى مشاريع سياسية انتحارية. هل يجب أن نعيد تأسيس الاقتصاد اللبناني إنطلاقا من قطاع التعليم النخبوي المدرسي والجامعي، بعد أن نجد طريقة للتخلص من نفايات قطاع المصارف الذي أصبح قطاعا مفلسا إضافة إلى سرقته لمال المودعين فهو مفلس أخلاقيا أمام العرب والمنطقة والعالم. ولذلك فإن إعادة التأسيس، تأسيس الدولة اللبنانية، هي بالضرورة عملية ضد مصارف لقيطة ومنظومة سياسية لقيطة، ومن إيجابيات الانهيار أن الوقع الفضائحي اللامتناهي لكل القطاعات المفضوحة في السياسة والمصارف تختزن انكشافات دولية وإقليمية ومحلية لن تقف عند حد، مثل الفيروس الوبائي الذي يتوالد في اللحظة التي نظن فيها أنه اختفى. jihad.elzein@annahar.com.lb Twitter: @ j_elzein 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post ترودو يتوصل مع بايدن إلى اتفاق حول الهجرة next post “تغريبة القافر” تروي أسطورة الفرد “العُماني” العادي You may also like مايكل آيزنشتات يكتب عن: مع تراجع قدرتها على... 21 نوفمبر، 2024 ما يكشفه مجلس بلدية نينوى عن الصراع الإيراني... 21 نوفمبر، 2024 غسان شربل يكتب عن: عودة هوكستين… وعودة الدولة 19 نوفمبر، 2024 حازم صاغية يكتب عن: حين ينهار كلّ شيء... 19 نوفمبر، 2024 رضوان السيد يكتب عن: ماذا جرى في «المدينة... 15 نوفمبر، 2024 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: ترمب ومشروع تغيير... 15 نوفمبر، 2024 منير الربيع يكتب عن..لبنان: معركة الـ1701 أم حرب... 15 نوفمبر، 2024 حميد رضا عزيزي يكتب عن: هل يتماشى شرق... 15 نوفمبر، 2024 سايمون هندرسون يكتب عن.. زعماء الخليج: “مرحبًا بعودتك... 15 نوفمبر، 2024 الانتخابات الأمريكية 2024: وجهات نظر من الشرق الأوسط 15 نوفمبر، 2024