تورنر كما رسم نفسه (غيتي) ثقافة و فنون تورنر – راسكين صداقة المكتهل واليافع التي انفصمت باكرا by admin 17 أغسطس، 2024 written by admin 17 أغسطس، 2024 60 سيد النقاد في إنجلترا الفكتورية حلم بالتعرف على “مؤسس الانطباعية” فتحطم الحلم سريعاً اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب “باكراً منذ كنت في الـ13 من عمري ولم أكن قد سمعت باسم الرسام الكبير ويليام تورنر على رغم أن شهرته كانت تعم بلادنا وأوروبا كلها، حدث أن أراد شريك والدي في أعماله السيد تيلفورد أن يقدم لي هدية مميزة كما قال، في عيد ميلادي، فاشترى لي كتاباً كان شهيراً ومرجعياً في أدب الرحلات عنوانه “إيطاليا” من تأليف الرحالة الشهير رودجرز. والحقيقة أن ذلك الكتاب سيكون عاملاً حاسماً في توجيه دفة حياتي منذ تلك السن المبكرة ليس لأنه كتاب رحلات وليس لأنه من تأليف روجرز، بل بفضل عنصر آخر فيه من المؤكد أنه لم يكن هو العامل الحاسم في اختيار السيد تيلفورد. كان ذلك العنصر اللوحات المائية الملونة التي تزينه ناقلة إلى قارئه مشاهد من الطبيعة والمجتمع الإيطاليين تحمل توقيع تورنر. فلقد فتنت تلك اللوحات الفتى طوال ساعات يومه ونهاره إلى درجة أن أباه وأمه لم يتوقفا عن لوم شريك الأب على هديته، لاعنين الساعة التي أخبراه فيها عن عيد ميلاد ابنهما والساعة التي احتفلا فيها بالعيد. شغل شاغل لقد بات تصفح الكتاب في كل ساعة ودقيقة شغل الفتى الشاغل وقد جعل من اللوحات وراسمها على حد ما سيقول بنفسه في مذكراته التي دونها في آخر أيامه “مدرستي الوحيدة والرسام معلمي الأكبر من دون أن ألتقيه في ذلك الحين أبداً”. لكن اللقاء بينهما سيتم لاحقاً أي بعد سنوات حين صار الفتى وهو في ريعان شبابه واحداً من كبار النقاد والمؤرخين المؤثرين في الحياة الفنية في لندن ولكن أيضاً واحداً من كبار العمرانيين والمصلحين الاجتماعيين. ونحن نتحدث هنا بالطبع عن جون راسكين الذي سيرتبط ولو لسنوات قليلة بواحدة من أجمل الصداقات التي قامت بين فنانين في بريطانيا على رغم أن فارق العمر بينهما كان يربو على الـ40 عاماً. ولكن لماذا “لسنوات قليلة” كما نقول؟ لأن الشقاق سرعان ما وقع بينهما أو لنقل بالأحرى، بين أنانيتيهما، لأسباب بقيت مجهولة إلى الأبد حتى وإن تتابعت الفرضية بأن الخلاف قد نشأ بينهما بعد سنوات قليلة من ارتباطهما من جراء تسعيرهما المتفاوت المتعلق بعدد من لوحات مائية ورسوم أراد راسكي في ذلك الحين أن يشتريها من صديقه الرسام فاستهول المبلغ الذي طلبه تورنر، معتبراً إياها “وقاحة لا تنم عن صداقة من جانبه” فيما كان تورنر يسعى إلى وضع حد لاستغلال راسكين له، لكننا سنسارع هنا إلى القول إن هذه الدوافع غير مؤكدة. … وكما رسم صديقه جون راسكين (غيتي) ليطمئن القارئ وفي سبيل طمأنة القارئ ربما يجدر بنا هنا أن نقول إن تورنر، وعلى رغم ذلك الشقاق الذي سيدوم طويلاً، وربما حتى رحيل تورنر أواخر عام 1851 سيختار راسكين منفذاً لوصيته بعد موته وسيقوم هذا بالمهمة بكل دأب واحترام. فهو وعلى رغم مشاكساته وصعوبة مراسه كان يشعر بضعف شديد تجاه الرسام الذي لن يتوقف عن القول إنه علمه أشياء كثيرة في حياته. ناهيك بأن راسكين الذي كان، على عكس تورنر، رجلاً شديد الاستقامة والعقلانية كان كثيراً ما يواجه تورنر أيام صداقتهما وحتى بعد القطيعة مدافعاً ضده عن تنكره لزوجته وبناته غائصاً في مغامرات نسائية تبعده عنهن وتحرمهن من وجوده بينهن حين يحتجن إليه. ومن هنا، لا شك أن الواجب الأخير الذي آلاه راسكين على نفسه بالاهتمام بالإرث الفني وغير الفني لتورنر كان نوعاً من الخدمة للأرملة وبناتها. وهذا في الأقل ما يخبرنا به ذلك الفيلم البديع الذي حققه المخرج مايك لي بعنوان “مستر تورنر” عن حياة الرسام قبل سنوات وسبق أن تحدثنا عنه في هذه الزاوية باستفاضة قبل حين. علاقة قصيرة وفاعلة المهم أن لا بد هنا من الكف عن هذه الشؤون العائلية لنعود إلى العلاقة الرائعة على قصرها الفعلي التي قامت بين الرسام المكتهل والناقد الباحث الشاب الذي وجد في رسوم كتاب “إيطاليا” ذلك الخيط الحريري المتماسك الذي قاد طريقه الفني رغم أبويه اللذين لم يرضيا أبداً ومنذ البداية عن ذلك “الجنون التورنري” الذي أصاب ابنهما، ولا سيما حين تحول الجنون إلى إقدام الابن على إنفاق كل ما يملكه وكل ما يمكن أن يسحبه من ذينك الوالدين على شراء رسوم ومخططات بل حتى لوحات من توقيع الرسام الكبير، بحيث إن سنوات قليلة حتى أواسط سنوات شبابه كانت كافية له كي يقتني ما لا يقل عن نصف الـ300 أو الـ400 لوحة التي بات يملكها من نتاج تورنر، وهو الذي كان في كل المعارض التي يعرض فيها تورنر أعماله يكون أول المشترين للوحاته ورسومه ناهيك بكونه دائماً أشرس المدافعين عن فنه. ونعرف طبعاً أن ذلك لم يكن كل شيء. فلئن كان راسكين قد بدأ باكراً – أي وهو في بدايات عشرينياته – يحول علاقته بالفن من الشراء والمتابعة إلى الكتابة عن الرسم والهندسة داعماً تورنر بالطبع، ولكن كذلك مسهباً في الترويج للتيارات الفنية الجديدة مستخدماً ثقافته العريضة وذوقه الفني المرهف واطلاعه على كل جديد يعلن عن نفسه في أوروبا بحيث سيصبح لاحقاً كما نعرف واحداً من كبار المدافعين عن “الانطباعية” الفرنسية عند ظهورها خلال النصف الثاني من القرن الـ19 غير ساهٍ عن أن تورنر، “ومن دون أن يدري على أية حال” كان في خلفية تأسيس ذلك التيار في بريطانيا بل “حتى في فرنسا نفسها” من خلال ما يمكن “أن نلمحه من تأثر كلود مونيه في لوحته المؤسسة ’انطباع شمس مشرقة‘ بلوحات تورنر البحرية العظيمة”، بحسب تعبيره نفسه! ما قبل الرافائيلية وبالنسبة إلى راسكين على أية حال، من المؤكد أنه كان يتمنى من تورنر أن يغوص أكثر، بدلاً من الدور الذي لعبه في “تأسيس” الانطباعية، في تعزيز التيار الإنجليزي الخالص المسمى “ما قبل الرافائيليين” الذي كان إلى حد ما تياره الأثير في بلاده. لكنه تجاوز ذلك بالتأكيد إذ بالنسبة إليه يبقى تورنر فوق “مثل تلك الصغائر” وهو على أية حال ما تشهد عليه المساحة التي كرسها لتورنر حتى قبل أن يلتقيه حقاً ويرتبط معه بالصداقة التي بتنا نعرف، وذلك منذ الجزء الأول من سفره الضخم “الرسامون المحدثون” الذي سيبدأ في إصدار مجلده الأول في عام 1843 أي بعد ثلاث سنوات من لقائه الأول بتورنر، وهو لقاء تم في الـ22 من يونيو (حزيران) 1940 تحديداً في محترف تورنر الذي كان حينها في الـ75 من عمره فيما لم يكن راسكين يتجاوز الـ22، لكن الكيمياء سرت بينهما بصورة جيدة بخاصة أن راسكين اشترى رسوماً للفنان منذ اللقاء الأول بل كان كثيراً ما كتب عنه قبل ذلك لمناسبة مشاركة تورنر في معارض الأكاديمية البريطانية. ولقد تلت ذلك اللقاء الأول لقاءات عديدة تبادل المبدعان خلالها الزيارات التي كانت تتم إما في محترف الرسام وإما في دارة الناقد. وتواصلت العلاقات بينهما حتى تلك القطيعة التي أشرنا إليها وتبقى غامضة حتى الآن. غير أن سوء العلاقات لم يؤثر في نظرة راسكين إلى تورنر، الذي ظل ينظر إليه ويكتب عنه بوصفه ليس فقط أعظم فنان إنجليزي في ذلك الحين، بل “الفنان الذي أسهم المساهمة الكبرى في تنقية وتعميق الذائقة الفنية في المجتمع الإنجليزي بأسره”. عناد حتى النهاية والحقيقة أن تورنر ظل خلال ذلك كله على عناده تجاه راسكين وحتى حين يخبره تجار لوحاته أن راسكين لا يتوقف عن شراء لوحاته من دون أن يساوم في السعر. إزاء ذلك بدا للجميع أن تورنر قد نسي راسكين تماماً، ولكن المفاجأة الكبرى ظهرت فور تسليم الفنان الروح، إذ تبين أنه قد أصر في آخر نسخ تعديلاته وصيته على أن يبقى جون راسكين المنفذ الوحيد لوصيته. وهكذا انصرف راسكين إلى ذلك العمل الذي سيتبدى جباراً: فمن خلال بحثه في ملفات الفنان وأوراقه في محترفه وفي كل الزوايا كان مجموع الرسوم والتخطيطات والوثائق التي يتعين على راسكين أن يشتغل عليها ليكون أميناً لذكرى صديقه، لا يقل عن 19 ألف قطعة معظمها لم يكن معروفاً. يومها رأى كثر أن تورنر إنما انتقم من صديقه القديم بترك تلك المهمة له. أما راسكين فاعتبر الأمر مكافأة عظيمة له على إخلاصه وحبه وتفانيه! المزيد عن: الرسام ويليام تورنرجون راسكينالمدرسة الانطباعيةإنجلترا الفكتورية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post هل أكمل الفارون من سجن ألكتراز حياتهم أحرارا في البرازيل؟ next post بدء تجميد أرصدة المسحوبة جنسياتهم بالكويت You may also like يونس البستي لـ”المجلة”: شكري فتح السرد العربي على... 15 نوفمبر، 2024 مرصد كتب “المجلة”… جولة على أحدث إصدارات دور... 15 نوفمبر، 2024 بغداد: قصة مدينة عربية بُنيت لتكون عاصمة إمبراطورية... 15 نوفمبر، 2024 أهم إصدارات الكتب في بريطانيا لنوفمبر 2024 15 نوفمبر، 2024 “بناء العقل الثاني” يواجه أخطار التكنولوجيا وإدمان الإنترنت 15 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: التشخيص والتجريد يتآلفان في... 15 نوفمبر، 2024 عندما لاعب التلفزيون الذكي كاسباروف على رقعة الشطرنج 15 نوفمبر، 2024 غريملينز يحول فوضى فيلم “درجة ثانية” إلى نجاح... 15 نوفمبر، 2024 فلسطين حاضرة في انطلاق مهرجان القاهرة السينمائي 14 نوفمبر، 2024 أنجلينا جولي تواجه شخصية ماريا كالاس في فيلم جديد 14 نوفمبر، 2024