ثقافة و فنونعربي بوتشيني يصوّر في “مدام باترفلاي” استحالة اللقاء الوجداني بين عالمين by admin 12 مايو، 2022 written by admin 12 مايو، 2022 168 التوتر الأبدي بين الشرق العاطفي وبرودة العقل الغربي في أوبرا لا تنسى اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب عندما قدم الموسيقي الإيطالي جياكومو بوتشيني أوبراه الكبرى “مدام باترفلاي” في عروضها الأولى بـ”سكالا ميلانو”، عند بدايات العام 1904 كان في السادسة والأربعين من عمره وفي مرحلة وسطى بين أعماله الكبيرة الأولى وتحف السنوات الأخيرة من حياته… كانت موسيقاه قد باتت ناضجة إلى حد كبير، غير أنه لم يكن في المقابل مهتما بأية تفسيرات فكرية قد يعزوها النقاد والباحثون لعمله “الاستشراقي” هذا. وفي الواقع لم يكن من شأن بوتشيني أن يهتم بتفسيرات من هذا النوع هو الذي لم يكن ليدور في خلده أن لفنه الأوبرالي الكبير أبعادا أيديولوجية فأعمال سابقة له مثل “مانون لاسكو” و”البوهيمية” و”توسكا” كانت أعمالا تضج بجمال الموسيقى وروعة الأغاني وصدقية الملابس والديكورات لا أكثر ولا أقل. أما التفسيرات فأتت لاحقا وربما بعد رحيل هذا الموسيقي الكبير في العام 1924 مكللا بمجد غامر كان من نصيبه في إيطاليا ولكن كذلك في فرنسا وفي أوروبا كلها بالطبع. وكان من سمات ذلك المجد أنه توزع دائما على أكثر من نصف دزينة من أوبرات كبيرة لا تزال تقدم بصخب ونجاح حتى أيامنا هذه، ولكن كان من نصيب “مدام باترفلاي” أن حظيت باهتمام استثنائي تضافر فيه الاهتمام الجمالي مع الاهتمام الفكري انطلاقا مما طرأ على هذا الجانب طوال القرن العشرين ولاسيما حين انتفض الشرق على ما جوبه به استشراقيا، فيما تعامل الغرب مع ذلك الاستشراق منطلقا من عقد ذنب راح يستشعرها. بين الروحانية والمادية ويقينا أن “مدام باترفلاي” في حد ذاتها تتيح نوعا من غرق كبير في عقدة الذنب تلك، هي التي يمكن القول أن فجائعيتها قابلة للتفسير من منطلق روحانية الشرق و”مادية” الغرب بالتماشي مع قول شهير لكبلنغ “الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا”. ولا شك أن “مدام باترفلاي” تبدو في جانب منها على الأقل وكأنها تطبيق لتلك المقولة حتى ولو بدت لنا اليوم مضحكة بائسة. وكانت تبدو مبكية فجائعية على أية حال في ذلك الزمن الذي كان يشهد، زمن بوتشيني (1858 – 1924) جنون عالم بدأ يدخل الحداثة ومعها كل ضروب اللؤم والسخرية و”الكابوس السعيد”. ومن هنا يمكننا أن نفهم بالتأكيد الفشل الذي كان من نصيب العروض الأولى لـ”مدام باترفلاي”، وكان في الحقيقة فشلا صاعقا سيقول بوتشيني لاحقا أنه لم يعرف مثله في حياته ولن يعرف في ما تبقى من سنوات عمره ما يشبهه. لكنه كان فشلا عابرا إذ ما لبثت هذه الأوبرا أن نالها قدر لا بأس به من التعديل فتحولت من أوبرا في فصلين طويلين إلى عمل ذي ثلاثة فصول متوسطة الطول دون أي تعديل في موسيقاها ولا في أغنياتها التي لن تلبث أن تصبح على كل شفة ولسان بعد حين، بل تضحي “مدام باترفلاي” كما هو حالها الآن أوبرا بوتشيني التي تعرض أكثر من اية أوبرا أخرى له وتُقتبس بوفرة في أفلام متنوعة إلى آخر ما هنالك. ولنقل منذ الآن أن ما ساعد على كل هذا الانتشار اللاحق إنما كان بالتحديد الظرف السياسي التاريخي الذي دفع اليابان نفسها إلى الواجهة. ولا ننسين هنا أن “مدام باترفلاي” تكاد تكون في نهاية الأمر أوبرا يابانية حتى وإن كان “البطل الذكر” فيها أميركيا. وهي على أية حال حكاية حب من طرف – ياباني – واحد وتدور أحداثها في اليابان كما نعرف. وبالتالي فإن أجواءها يابانية وديكوراتها وملابسها يابانية ناهيك بأن بطلتها يابانية هي الحسناء تشيو تشيو سان الملقبة بـ”باترفلاي” صاحبة عنوان الأوبرا وبطلتها وضحيتها وربما ممثلة العاطفة الشرقية فيها. فالحكاية تدور في نهاية المطاف من حول ذلك الحب الذي سيكون قاتلا لتلك الحسناء اليابانية ولاسيما حين تجد نفسها مجبرة، تبعا لموقف جيوستراتيجي معين، على التخلي عن طفلها بعد انتظار طويل لـ”حبيبها” الأميركي بنكرتون والد الطفل الذي سيبدو لنا في الفصل الأخير وكأنه لا يعرف شيئا عن مأساة تلك المرأة الشرقية التي وقعت ضحية هيامه العابر بها. جياكومو بوتشيني (1858 – 1924) (غيتي) ضحية مزاح كئيب وهنا كي لا تبدو الأمور كالكلمات المتقاطعة لا بد من العودة إلى الحكاية نفسها. فالحكاية المقتبسة أصلا عن قصة قصيرة للكاتب جون لوثر لونغ، تدور من حول الضابط البحار الأميركي بنكرتون الذي يعرّفه سمسار زيجات مؤقتة في مدينة ناغازاكي اليابانية بالصبية الحلوة تشيو تشيو صن الملقبة بالفراشة. وتبعا للتقاليد المعمول بها في مثل هذه الحالات يعقد بنكرتون زواجه من الفراشة بين الجد والمزاح في وقت لا يتوقف فيه عن تلمس كل ما في الموقف من هزل محبب خاصة أن الفراشة تعطيه حنانا وحبا بلا حدود وتعيش معه ثلاث سنوات كان لا بد له بعدها من الرحيل فيفعل غير دار أن علاقته بـ”حبيبته” سوف تثمر وليدا تنجبه لاحقا في غيابه وقد استسلمت له. والحقيقة أن بنكرتون يكون قد كتب قبل ذلك رسالة للفراشة صارحها فيها بكل شيء معلنا فيها حقيقة الموقف وأنه أبدا لم يكن ناويا العودة ولا تكوين عائلة ويشكرها على كل ما بذلته نحوه من عاطفة. لكن الرسالة لم تصل إلى الفراشة لأن ناقلها الموظف في القنصلية الأميركية حين أراد إيصالها واجتمع بالفراشة، تلمس لديها من هيامه بحبيبها وانتظارها له ما جعله يشفق عن إخبارها بالحقيقة وهكذا تركها مجروح القلب وكلها أمل في عودة بنكرتون ليجتمع شمل تلك العائلة الصغيرة، وتنال هي كل تلك السعادة التي كانت قد وعدت نفسها بها. بوستر لأوبرا “مدام باترفلاي” (موقع الأوبرا) عودة الحبيب والحقيقة أن بنكرتون سيعود بالفعل على سفينته التي وصلت إلى ناغازاكي، لكنه سيعود مصطحبا زوجته الأميركية ليريها هذا البلد الذي عاش فيه سنوات مزاح وتسلية، وتلك المرأة التي زُوّج بها. بالنسبة إلى بنكرتون لا تزال الحكاية مزحة جديرة بأن تروى. لكن المزحة تتوقف حين يعلم أن له إبنا من تلك الفراشة. وهو لكي يكمل الحكاية على طريقته التبسيطية الأميركية لن يجد مفرا من الاعتراف بأبوته للطفل بل إن زوجته ستقع في حب الطفل وبالتالي سيطلب بنكرتون، ودائما بين المازح والجاد وكرجل عملي لا يمكنه أن يدرك أبدا معنى الحب وعواطف تلك المرأة التي سيدهشه كثيرا أن تعتبر نفسها زوجة حقيقية له، سيطلب من الفراشة أن تبقي الطفل في حماية زوجته التي ستأخذه إلى أميركا وتربيه وكأنه ابنها، فوالده وتبعا للقوانين كما تبعا لعلاقات القوى هو الأحق به. وتنتهي الحكاية بالفعل على اليأس المدمر الذي سيكون من نصيب الفراشة إذ تسلم الطفل لـ”أمه” الجديدة لتكتشف أنها إنما عاشت حيتها كلها تخدع نفسها. وهكذا ينتهي الفصل الأخير بالفراشة تقتل نفسها وقد خسرت كل شيء حتى الأمل. مهارات موسيقية وميتتان قاسيتان من تحصيل الحاصل هنا أن بوتشيني قد جعل من موسقته لهذا العمل الفجائعي قمة في التعبير عن مهارته الموسيقية، حتى وإن كان بعض استخدامه لإيقاعات يابانية في بعض اللحظات التي تنطلق فيها البطلة للتعبير عن همومها وانتظارها الطويل مع يأس يتصاعد مرحلة بعض مرحلة، قد أتى مملا وهجينا. غير أن هذا لم يمنع “مدام باترفلاي” من أن تكون في نهاية الأمر واحدة من الأعمال الأوبرالية الكبرى في تاريخ بوتشيني، كما لم تمنع تشيو تشيو صن (الفراشة) من أن تكون إلى جانب “ميمي” الشخصية المحورية في أوبراه “البوهيمية” (1896) من أكثر الشخصيات النسائية الأوبرالية إنسانية وامتلاء بالعاطفة هما اللتان نراهما تنتهيان بالموت واحدتهما ضحية للأقدار التي قضت عليها، والثانية ضحية لحب توهمته في زمن كان الحب قد بات فيه ذكرى أكل الدهر عليها وشرب. المزيد عن: جياكومو بوتشيني \الأوبرا الإيطالية \ مدام باترفلاي \ الاستشراق 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post 65 ألف بريطاني ضحية البطء في تشخيص إصابتهم بالسرطان شهرياً next post لماذا نعت نيتشه أفلاطون بالعدمي الذي يكره الحياة؟ You may also like عندما يتحول التأويل الثقافي حافزا على عدم الفهم 12 يناير، 2025 مهى سلطان تكتب عن : الرسام الهولندي موندريان... 12 يناير، 2025 ليلى رستم تسافر إلى “الغرفة المضيئة” في الوجدان 12 يناير، 2025 زنوبيا ملكة تدمر… هل يسقطها المنهج التربوي السوري... 11 يناير، 2025 (15 عرضا) في مهرجان المسرح العربي في مسقط 11 يناير، 2025 أبطال غراهام غرين يبحثون عن اليقين عند الديكتاتور 10 يناير، 2025 رحيل “صائدة المشاهير”…ليلى رستم إعلامية الجيل الذهبي 10 يناير، 2025 سامر أبوهواش يكتب عن: حسام أبو صفية… الرجل... 10 يناير، 2025 كتب يناير الإنجليزية: سيرة هوليوودي واعترافات 3 نساء 9 يناير، 2025 عبده وازن يكتب عن: بثينة العيسى تروي خراب... 9 يناير، 2025