ثقافة و فنونعربي بروغل يلاحق فصول السنة وتقلباتها في لوحاته المدهشة by admin 31 ديسمبر، 2020 written by admin 31 ديسمبر، 2020 43 الطبيعة وألوانها من خلال النشاطات الإنسانية التي تحركها اندبندنت عربية/إبراهيم العريس باحث وكاتب منذ فجر الكتابة والإبداع، وبدء علاقة الإنسان المفكّر بالطبيعة، كان ثمة شغف بالفصول وتقلباتها تمثّل في متابعة لها ولانعكاسها على مزاج الإنسان. فمن هسيود والأيام والأعمال إلى فيفالدي وهايدن وصولاً إلى الفن التشكيلي وأخيراً إلى السينما حيث تكاثرت في العقود الأخيرة الأفلام التي تتابع حركة الفصول، عرفت الفنون والكتابات كيف تجعل من تلك الفصول والمواسم موضوعاً أثيراً لها. ولئن كان فيفالدي بـ”فصوله الأربعة” يعتبر الموسيقي الذي أوصل التعبير عن فصول السنة إلى ذروته الإبداعية، فإن بيتر بروغل يعتبر الرسام الذي يبقى الأكثر براعة في رسم الفصول في عدد من لوحات من المدهش أنها ستة بينما يُفترض أن تكون أربعة تبعاً طبعاً لعدد الفصول. مشروع غير مكتمل؟؟ ولا بد من أن نذكر منذ البداية هنا أن المشروع كان في الأصل يتعلق بإثنتي عشر لوحة لم ينفذ منها الفنان سوى ست لوحات لا تزال واحدة منها مفقودة بحيث أن المتبقي منها إلى اليوم خمسة تمثل… الفصول الأربعة. لكنها تتميز عن كل الأعمال المشابهة في كونها من خلال احتفالها بالطبيعة وتقلباتها، تحرص على ربط هذا كله بالإنسان، بحياة الإنسان وعمله وتحديداً بتفاعل هذين مع التجديد الذي تحمله الطبيعة بين فصل وآخر. من لوحات الفصول لبروغل: “الصيادون في الثلج” (غيتي) مهما يكن من أمر لا بد أن نتذكر هنا أن بروغل، الكبير تمييزاً له عن أبنائه وأقاربه الذين دخلوا ميدان الرسم من بعده وغالباً على خطاه من دون أن يساويه أيّ منهم في فنه، بروغل هذا سار في اللوحات التي نحن في صددها على منوال اهتمامه في مجمل وأعظم لوحاته بالطبيعة نفسها. فهو كان رسام الطبيعة بلا منازع ناهيك بكونه رسام الحياة الشعبية، لا سيما الريفية في ذلك الجزء الشمالي مما يعرف اليوم ببلجيكا، وهو ما سوف نعود إليه بعد سطور. والحقيقة أن لوحات “الفصول” لبروغل تجمع بين اهتماماته الثلاثة معاً: اهتمامه بالطبيعة، بالريف وبالإنسان، أي بالتحديد بحياة بسطاء الناس. وذلك على العكس من معظم مجايليه رسامي المرحلة المتأخرة من النهضة الأوروبية من الذين إذ تخلوا مع بزوغ الفكر الإنساني، عن تكريس كل أعمالهم للمعابد، تحولوا إلى سادة القوم وصولاً إلى الملوك والأمراء يرسمونهم ويعتاشون من تلك الرسوم. بروغل كان أقل احتفالاً بهؤلاء، إذ ندرت لديه اللوحات الدينية وكذلك بورتريهات الناس المرموقين ليرسم الشعب في أفراحه وأتراحه مطارداً مناسباته وأعياده وألعاب أطفاله ودينامية أمثاله الشعبية. ويُروى عادة أن بداية ذلك بالنسبة إليه كانت حين سئم العمل في المدينة والمناطق العمرانية وتاق إلى رسم ما لم يُرسم كثيراً من قبل، فتنكر مع مساعد، وربما مع صديق له ساعده إذ لم يكن قادراً مالياً على استخدام مساعد كما يبدو، تنكرا في أزياء فلاحيْن وقصدا المناطق الريفية حيث انكب بروغل على رسم أعياد القرى وأعراس أبنائها وولائمهم وصولاً إلى تلك اللوحات المدهشة والمفرطة غالباً في واقعيتها متحدثًة عن ألعاب الأطفال وضروب لهوهم، وأحياناً عن تصوّر بصريّ للأمثال الشعبية، وقد تحولت إلى مشاهد متجاورة تبدو كأنها بانوراما مشاهد سينمائية ممتعة. ومثل هذه المشاهد لا تخلو لديه من إشارات وتلميحات دينية كان مشاهدو اللوحات يطربون لها. الفصول وأشكالها وألوانها وفي هذا السياق بالتحديد تأتي لوحات “الفصول” الخمس التي نتحدث عنها هنا، ولا شك في أن حديثنا يشمل اللوحة السادسة الغائبة التي بقي لدينا اسمها وموضوعها على أية حال. والحال أن بروغل الذي كان يعيش من رسومه ويعمل غالباً لصالح تاجر لوحات من آنفر يدعى نيكولاس جونغلنك، لم يرسم “الفصول” للمتعة الفنية فقط، بل رسمها بناء على توصية من هذا التاجر الذي اشترى منه عدداً من اللوحات من بينها لوحات تمثل أشهر السنة. وتعتبر “الفصول” جزءاً من هذه السلسلة الأخيرة التي ورد في جردة لأعمال بروغل أُجريت عام 1559 أنها تتألف من ست لوحات تمثل أشهر العام. صحيح أن هذا كله يبدو مربكاً إلى حد ما، لكن المهم في الأمر أن لدينا اليوم خمس لوحات تمثل فصول السنة موزعة على متاحف في فيينا ونيويورك وبراغ، وقد يحدث أن يجمعها عرض واحد لمناسبة أو لأخرى، علماً بأن الرسام قد وضع لها منذ البداية عناوين لا تتعلق بموقع كل واحدة منها في مجرى فصول السنة إلا من حيث المناخ العام للوحة ووظيفة المشهد الذي تعبر عنه، ومن هذه العناوين التي صارت لها شهرتها على مر العصور: “صيادون في الثلج” و”النهار المعتم” و”عودة القطعان” (في متحف فيينا)، “الحصاد” (متروبوليتان نيويورك)، وأخيراً “جمع التبن” (المعلقة في إحدى قاعات متحف براغ). من الواضح هنا إذاً، أن اللوحات، بدلاً من أن تحمل أسماء الفصول تحمل تصوراً جليّاً عن المهام الموكلة لكل فصل من هذه الفصول وذلك بالتماشي مع اهتمام بروغل، كما قلنا، بهذا الإنسان وعلاقته بالطبيعة من ناحية، وبالزمن من الناحية الثانية. أما التقسيم إلى فصول ومناخات تلك الفصول، حتى خارج مفهوم الأيام والأعمال الهسيودي – نسبة إلى الكاتب هسيود – فمتضمّن في المواضيع انطلاقاً من مفهوم يقول إن “اللحظة المميزة لكل فصل إنما هي موضوع اللوحة”، بل أكثر من هذا: شكل اللوحة وألوانها أيضاً، إنطلاقاً هنا من كون تلك المنطقة من أوروبا التي رسم الفنان فصولها، الشمال الغربي، معروفة بحدة تمايز الفصول فيها، حياةً وألواناً ونشاطات إنسانية وعملية، تقطعها حقب من الأعياد والاحتفالات والاهتمام بالحياة العامة والعائلية. وفي مجال التلوين الذي انتقل به بروغل من لوحة إلى أخرى تبدو لنا الأمور واضحة تماماً، من خلال التركيز على ألوان معينة لكل فصل مرتبط بنشاط إنساني يتلاءم معه في سياق الحياة الفلاحية: فلدينا البني المائل إلى السواد في لوحة “النهار المعتم” التي تختص بما بين فصلي الشتاء والربيع؛ وهناك اللون الأزرق الباهت الذي يبدو أنه يطغى على اللوحة الضائعة (“السادسة” التي ترمز إلى الربيع) ثم الأخضر المضيء للوحة بداية فصل الصيف “جمع التبن”، ومن هذه ننتقل إلى لوحة فصل الصيف “الحصاد” التي يطغى عليها لون القمح الذهبي المصفرّ، قبل أن تأتي لوحة الخريف “عودة القطعان” بلونها المذهّب، ثم لوحة الشتاء “صيادون في الثلج” بطغيان اللون الأبيض عليها. لا مكان لكآبة الفصول هنا لعل الملاحظة التي تفرض نفسها على المتفرج الذي يقيّض له أن يستعرض اللوحات معاً، هي أن ما من مجال للكآبة بفعل طغيان موسم معتم أو ألوان غير ربيعية. وذلك لأن الرسام حرص على أن يجعل لكل لوحة ما يمكننا أن نسميه مع دارسي أعماله “حكاية داخل الحكاية”. بالتالي لن يفوت المتفرج أن يتوقف عند التفاصيل وعند الحكايات التي غالباً ما عالجها بروغل بقدر لا بأس به من المرح. ومن ذلك مثلاً ما يروى من أن العديد من تفاصيل لوحة “الحصاد” كانت في الزمن الذي رسمت فيه اللوحة تثير ضحكاً صاخباً من قبل مشاهدي اللوحة، وهو نفس ما يمكن ملاحظته في أعمال أخرى لبروغل غير لوحات الفصول، حيث في قلب البؤس الذي قد يبدو واضحاً على ملامح الفلاحين في عرس أو في احتفال لا يفوت بروغل أن يرسم تفصيلاً ضاحكاً، وفي المقابل يمكننا أن نلاحظ حتى في لوحات الأمثال الشعبية أو ولائم الأعراس تفصيلاً يحتار المرء أيضحك أمامه أم يبكي. وهذه السمة التي تطغى أيضاً على لوحات “الفصول” تعتبر من ميزات فن بيتر بروغل الذي ولد بين 1525 و1530 غير بعيد عن مدينة بريدا جنوب البلاد الواطئة ليعيش معظم حياته في آنفر ويموت عام 1569 ويدفن في العاصمة البلجيكية، مخلفاً سلالة بأكملها من رسامين محترفين وعشرات اللوحات التي تحتل إلى اليوم مكانتها بين أعظم ما رسمه إنسان منذ فجر التاريخ. المزيد عن: فيفالدي/بيتر بروغل/نيويورك/فيينا/بلجيكا/الفصول/ميتروبوليتان 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post طبيب فلسطيني يعيد أطراف الأصابع المبتورة من دون جراحة next post توثيق آثار مدينة حبان جنوب اليمن You may also like مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.