ثقافة و فنونعربي باولو أوتشيلو: 3 لوحات في غرفة الحاكم المتنور لتمجيد شاعرية الحرب by admin 16 مارس، 2023 written by admin 16 مارس، 2023 21 الفنان النهضوي الذي أمضى حياته وضحى بمواهبه بحثاً عن منظور لم يعثر عليه تقريباً اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب عندما قارب الرسام النهضوي الإيطالي باولو أوتشيلو الثمانين من عمره وشارف على الرحيل عن هذا العالم، دهش معاصروه كثيراً، لأنه – على عكس معظم الفنانين من أبناء جيله – لم يرسم طوال حياته المديدة سوى نحو ستين لوحة كان من المؤكد أن في الإمكان نسبتها إليه. أما جورجيو فازاري الذي عرف بكتابته سير فناني عصر النهضة، فقد فسّر قلة أعمال أوتشيلو بقوله: “لقد بذل جهوداً كبيرة، وأضاع وقتاً ثميناً من حياته منهمكاً في شؤون المنظور، وذلك ليتمكن من أن يربط نفسه، دائماً بأمور الفن الأكثر صعوبة. وهو، لذلك، أحال إلى العقم عبقريته التي كانت، في طبيعتها، مبهرة وعابقة بالخيال”، وإذ قال فازاري هذا، تجده يضيف مستطرداً: “ولكن إذا كان أوتشيلو اهتم بالمنظور وأبدع فيه، فإن المنظور كان أيضاً عزيزاً ومحبباً إلى كل الذين مارسوا مهنة الرسم من بعد هذا الفنان…”. جدل وإعجاب والحال أن باولو أوتشيلو، كان دائماً في زمنه كما في الأزمان التي تلته مثيراً للجدل والإعجاب المندهش في الوقت نفسه. وإذا كانت قواعد المنظور في الرسم تعتبر اليوم، من البديهيات، فإن اختراعها في زمن أوتشيلو أتى جزءاً من محمول الشاعرية الطاغية وقوة الخيال لديه. أما الألوان الآتية من قدر كبير من التعارض والتناسق الطردي، فإنها تخلق في لوحاته نوعاً من الخيال الروائي الذي تتجاور فيه العبثية مع الواقع، الحلم مع المعرفة، الجمال مع الفظاعة، في شكل يرهص بالكثير من الأبعاد التي سيكون عليها فن الرسم في القرنين التاسع عشر والعشرين. والحقيقة أن الكثير من اللوحات التي رسمها أوتشيلو خلال حياته يقول لنا هذا الواقع. ولكن تقوله أكثر تلك اللوحات العديدة التي رسم فيها المعارك الطاحنة وفظاعات الحروب. ومن بين هذه اللوحات تبرز عادة لوحته “معركة سان رومانو” التي تكاد، في أسلوبها وموضعة الشخصيات والأحداث، وعلاقة مقدمة اللوحة بخلفيتها، وصولاً إلى الألوان وخطوط الرماح والتمازج بين الطبيعة والبشر الذين يدنسونها بحروبهم ودمائهم، تكاد أن تلخص عالم أوتشيلو خير تلخيص، حتى وإن كان فازاري نفسه قال، وتحديداً في معرض تعليقه على هذه اللوحة المعروضة الآن في ناشنال غاليري في لندن “كان في وسع أوتشيلو أن يكون الموهبة الأكبر والأكثر سحراً وابتكاراً في فن الرسم منه جوتو، لو أنه أولى الوجوه والحيوانات تلك العناية نفسها، وكرس لها ذلك الوقت نفسه، اللذين أولاهما لدراسة المنظور…”. باولو أوتشيلو (غيتي) تضحية بالجودة والحقيقة أن في الإمكان أن نستشف من كلام فازاري هذا وكأن أوتشيلو ضحى بالشاعرية والجودة الفنية لمصلحة علم منظور كان يريد فرضه، غير أن تأملاً حديثاً لهذه اللوحة، وللوحتين أخريين “شقيقتين” لها تمثل كل منهما أيضاً فصلاً من معركة سان رومانو توجد إحداهما في متحف “أوفيتزي” في فلورنسا، والثانية في متحف “اللوفر” الباريسي، يقترح علينا – هذا التأمل – أن فازاري كان ظالماً في حكمه. فاللوحات الثلاث معاً، تظهر لنا أوتشيلو، وكأنه راوي حكايات ماهر، عرف خصوصاً كيف يحيط لوحاته بسواد قاتم ليكرس المساحة كلها للتركيز على الشخصيات وحركتهم في مشاهد “سينمائية” مبكرة. وتقول لنا سيرة أوتشيلو إنه حقق اللوحات الثلاث التي نشير إليها، وفي مقدمها لوحة “ناشنال غاليري”، في حوالى عام 1440، وكان في حوالى الخمسين من عمره حتى وإن كانت نشرة المتحف اللندني تشير، خطأ، إلى أنه كان يقترب حثيثاً من الستين. وهو رسمها بناء على توصية من كوزيمو دي مديتشي الذي كان راغباً في أن يمتلك سلسلة من اللوحات التي تمجد تلك المأثرة الحربية، في غرفته الخاصة في قصره الفلورنسي. وهذه اللوحات الثلات تعتبر معاً الأعمال الوحيدة الكبيرة من بين كل ما رسمه أوتشيلو التي ظلت في حال جيدة. تمجيد معركة ساحقة وقبل عام 1492، على أي حال، لم يكن من السهل على الباحثين تحديد الموضوع الذي تتحدث عنه اللوحات، لكن جردة تعود إلى ذلك العام أكدت، بما لا يقبل الريب، أن المعركة المصوّرة، إنما هي تلك التي تعرف باسم “معركة رومانو” والتي اعتبر الفلورنسيون أنهم سحقوا فيها قوات سيينا المنافسة لهم سحقاً تاماً. ورجح الباحثون في ذلك الحين أن الفارس الممتطي الحصان الأبيض في اللوحة التي نحن في صددها هنا، إنما هو بطل تلك المعركة وفارس ذلك اليوم الفلورنسي المجيد نيكولا دي تولانتينو. وعلى رغم أن تولانتينو هذا، لم يكن من أقارب آل مديتشي فإن هؤلاء مالوا دائماً إلى اعتبار انتصاره انتصاراً لهم، وهذا ما يفسر – بالطبع – اهتمام كوزيمو بأن تُعلق رسوم المعركة في غرفته الخاصة. ولعل من الأمور اللافتة أكثر من أي شيء آخر في هذه اللوحات الثلاث وفي لوحتنا هنا في شكل خاص أن أوتشيلو ركز كثيراً على الطابع الفروسي للوحة، من خلال كثافة الأسلحة وتلاحم الجنود والشجاعة البادية في حركاتهم وحتى في تعابير وجوههم التي بالكاد تظهر واضحة. كأننا في زمن غير حقيقي غير أن الأهم في هذه اللوحة، هو ذلك الفارق في الأحجام – الذي كان جديداً في ذلك الحين – بين الجزءين المكونين أفقياً للوحة: مقدمها حيث تدور المعركة الحقيقية بقيادة “تولانتينو”، والخلفية، حيث يبدو كما لو أن المعركة حسمت أو في طريقها النهائي إلى الحسم. أما الجديد في اللوحة بالنسبة إلى الزمن الذي رسمت فيه، فهو بنيانها، حيث نلاحظ كيف أن أوتشيلو قسمها نصفين، عمودياً: النصف الأيمن جعله تحت هيمنة الرماح، التي تبدو كقضبان آسرة تغلف المقدم والخلفية والشخصيات معاً، فيما النصف الأيسر تحرر تماماً من تلك القضبان مفسحاً المكان لما يمكن اعتباره معركة الحسم الحقيقية. والحال أن هذا التقسيم يجعلنا نشعر وكأننا “في زمن غير حقيقي” – بحسب تعبير روجيه غارودي الذي كتب يوماً عن هذه اللوحة دراسة لافتة – حيث نجد، ودائماً بحسب تعبير غارودي أن “الرجال وبقية العناصر تبزغ آتية من قلب الليل. إن الكل يبدو هنا وكأنه يحمل معه نوره الخاص، يبرق وكأنه معدن، مع تتابع إيقاعي بين الأبيض والأسود، بين البرونز والحديد، مع مسحات صفر، حمر، بيض، تطلع في مجملها زهوراً شديدة الغرابة”… وكل هذا على خلفية سماء كانت سوداء أصلاً ويبدو أنها قد أضيئت بفعل النيران أو ضروب النور الآتية من المعركة نفسها. أما الأشكال فيبدو واضحاً أن أوتشيلو لا يهتم بها، بصفتها أشكالاً واقعية، بل انطلاقاً من جمالها السحري، “ما يخلق في النهاية عالماً شاعرياً يتبع قوانين أخرى غير قوانين الطبيعة والتاريخ”. خيال رومانسي ولقد عُرف باولو أوتشيلو دائماً بكونه رسام الخيال الرومانسي، المستند إلى سرد روائي محيّر. وهو فلورنسي الأصل. ولد في عام 1396 أو 1397. وبدأ يتدرب على فن الرسم منذ سن العاشرة، لدى الفنان الرسام والنحات غيبرتي الذي كان يشتغل في ذلك الحين على تنفيذ الأبواب الشمالية لدار المعمدانية في فلورنسا ولكن من الواضح أيضاً أن أوتشيلو تأثر منذ صباه بفن الرسام لورنزو موناكو، الذي كان ذا أسلوب غوطي. وفي عام 1425 توجه أوتشيلو إلى البندقية حيث اشتغل على فسيفساء كاتدرائية القديس مرقص. حين عاد إلى فلورنسا بعد خمس سنوات، بدأ يمارس الرسم في الكاتدرائية بصورة احترافية هذه المرة، وصولاً إلى عام 1436 حين بدأت شهرته تذيع في شكل جدي وكلف ببعض جدرانيات كاتدرائية المدينة، وفي تلك المرحلة من حياته يبدو أن أوتشيلو بهر بنظريات دوناتيلو حول المنظور وراح يطبقها، معطياً في الوقت نفسه أهمية فائقة لإطار الشخصيات والأشياء اللوني والخطي. ولاحقاً، طبق ذلك كله في لوحات “سان رومانو” الثلاث. أما اللوحات الأخيرة المعروفة من بين أعماله ومن أبرزها “الصيد في غابة” و”خرافة هوسيتا” فتظهر أنه ظل حتى النهاية متمسكاً بأسلوبه اللاواقعي الشاعري. وهذا ما جعل بعض معاصريه يعتبره رساماً على حدة وتجاوزه الزمن. في عام 1475 مات أوتشيلو فقيراً في فلورنسا. المزيد عن: الرسام الإيطالي باولو أوتشيلو\عصر النهضة\لوحة معركة سان رومانو\متحف أوفيتزي في فلورنسا\متحف اللوفر 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “الوقت ينفد”… رسالة من مجموعة أميركية إلى لبنان next post فتنة اليابان كما صوّرها الرسام أوتاغاوا هيروشيجي You may also like ثقافة “الهاليو”… قوة كوريا الجنوبية الناعمة التي اجتاحت... 30 نوفمبر، 2024 عودة غودار من منفاه النهائي احتجاجا على كارثة... 30 نوفمبر، 2024 مقولة النصر والهزيمة في ضوء الفلسفة والنقد التاريخي 30 نوفمبر، 2024 كتّاب المرحلة الروسية الفضّية في “زهرة تحتَ القدَم” 30 نوفمبر، 2024 مستقبل مقاومة هوليوود الليبرالية بوجه ترمب 29 نوفمبر، 2024 نظرية فوكوياما عن “نهاية التاريخ” تسقط في غزة 29 نوفمبر، 2024 لماذا لا يعرف محبو فان غوخ سوى القليل... 29 نوفمبر، 2024 جائزة الكتاب النمساوي لرواية جريمة وديوان شعر ذاتي 29 نوفمبر، 2024 طفولة وبساطة مدهشة في لوحات العراقي وضاح مهدي 29 نوفمبر، 2024 استعادة كتاب “أطياف ماركس” بعد 20 عاما على... 28 نوفمبر، 2024