ثقافة و فنونعربي المغناة التي أنتجها جيش “الإقليم الشمالي” نذيرا بفرط الوحدة مع مصر by admin 26 أغسطس، 2022 written by admin 26 أغسطس، 2022 41 “الثورة السورية” جمعت كل الفنانين وصلحي الوادي على خطى الأخوين رحباني اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب كانت مغناة “الثورة السورية” التي قدمت على خشبة مسرح معرض دمشق الدولي في صيف عام 1958 واحدة من أضخم إنتاجات المسرح السوري، وربما العربي أيضاً حتى ذلك الحين. كانت عملاً فنياً استثنائياً في تاريخ الفن السوري اجتمع فيه العدد الأكبر من فناني المسرح والغناء والموسيقى في هذا البلد، ومن بينهم شيوخ فن مخضرمون ومسؤلو فرق مسرحية متنافسة مثل “المسرح الحر” برئاسة عبد اللطيف فتحي وتوفيق العطري ونزار فؤاد، و”المسرح الشعبي” بقيادة حكمت محسن وأنور البابا وتيسير السعدي، ومن كان بين هؤلاء وأولئك من أبناء الجيل الجديد من يمثل خط الوسط في طبقية الفن المسرحي السوري بين حرفية “الحر” الذي يتكون من محترفين و”أرستقراطية” المسرح الشعبي الذي يتألف من أبناء عائلات موسرة كبيرة من الهواة المخضرمين. وأسند الجهد الموسيقي في العمل الذي أُريد منه أن يسير فنياً وموسيقياً على خطى أعمال “الرحابنة” في لبنان المجاور، إلى المؤلف والمايسترو العراقي صلحي الوادي الذي لم تكن سنه تجاوزت الخامسة والعشرين حينها، فيما تولى بناء الديكور الفنان المسرحي والسينمائي اللبناني المخضرم علي العريس، الذي إلى الديكور قام بدور تمثيلي أساسي في المغناة، والذي سيكون إسهامه المزدوج في العمل إحدى مشاركاته الكبيرة الأخيرة في فن أنفق عليه حياته كلها. وفي ذلك الحين كان طبيعياً في سوريا أن يشارك عراقيون ولبنانيون وغيرهم من العرب في العمل. بين عبد الناصر وعامر لكن العمل كان سورياً قلباً وقالباً. موضوعه سوري وأغانيه سورية ونجومه سوريون معظمهم من الراسخين يوم كان فن المسرح لا يزال عملاً رسولياً يكاد يكون مقدساً، بخاصة كان إنتاجه سورياً في وقت كانت فيه كلمة سوريا قد بدأت تختفي من التعامل الرسمي اليومي ليحل محلها مسمى “الإقليم الشمالي”. ولعل هنا يكمن بيت القصيد بالنسبة إلى من قد يتساءل عن سر الحكاية وجذورها، وهو أمر لا بد من توضيحه منذ البداية ولكن بصورة مواربة، إذ سنبدأ من اجتماع حصل في الوقت الذي كانت تجري فيه التدريبات على العمل في القاهرة بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر ونائبه عبد الحكيم عامر الذي كان مكلفاً تمثيل “القيادة السياسية المشتركة” لما كان قد سمي بالجمهورية العربية المتحدة قبل ذلك بأشهر، ولقد روى لنا عسكري سياسي سوري مخضرم عاش آخر سنواته في باريس أن اللقاء كان طريفاً بين عبد الناصر ونائبه. فالأول بدا مرحاً وهو يصغي إلى شكوى الثاني من كون “الجيش السوري ينتج هذه المسرحية ويؤلب الشعب في “الإقليم الشمالي” عبرها ضد المصريين”. سأله عبد الناصر مبتسماً، “هل في المسرحية ما يقول هذا صراحة؟”. أبداً! قال عامر، مضيفاً “لكنها لا تتحدث عن القومية العربية” قال عبد الناصر، “لقد قلت لي إنها تروي أحداثاً جرت في سنوات العشرين إبان ثورة السوريين ضد الاحتلال الفرنسي، ولم يكن ثمة حينها وجود لقوميتنا العربية!”. وافق عامر على ذلك ثم راح يشرح للرئيس المعاني المضمنة وخطورة أن يكون الجيش هو من بادر إلى إنتاج العمل، فسأله الريس “هل أن الضباط المنتدبين من قيادتهم معروفون بعداء ما تجاهنا؟”. قال عامر مستسلماً إنه لا يعتقد ذلك بخاصة أن ضابطي الارتباط مع الفنانين هما مصطفى حمدون وعبد الغني قنوط المعروفان كبعثيين من الجناح الميال إلى عبد الناصر في حزب البعث، فما الحكاية إذاً؟ تساءل عبد الناصر قبل أن “ينصح” نائبه بحضور العرض الافتتاحي والتصفيق لما يحدث على المسرح حتى. صلحي الوادي يقود أوركسترا (يوتيوب) إنذار سياسي الحقيقة أن عبد الناصر كان يعرف مسبقاً كل ما كان عامر يحاول قوله، بخاصة أن المشروع كله قد صيغ في دمشق كنوع من إنذار سياسي في وجه الوحدة. لكنه كان يعرف أيضاً أن الكامن وراء ذلك كله إنما كانت تصرفات عبد الحكيم عامر نفسه الذي بات السوريون ومن بينهم الأكثر تعصباً للوحدة ودفاعاً عنها، يرون أنها تصرفات حاكم عسكري تجاه شعب محتل، فعامر كان قد بدأ يشتهر باستبداده ومعاملته للسوريين بشكل لم يسبق أن اعتادوا عليه، ومن هنا يبدو أن الجيش السوري قد قام بالتذكير بأن للسوريين تاريخاً وكرامة ويمكنه أن ينتفض، لكنه اختار يومها أن يقول ذلك من طريق الفن كخطوة أولى يمكنها إن فهمت تصحيح الأمور وإلا فالتصعيد. هو أمر كان الرئيس يعرفه ويعرف أن على عامر أن يلتقط الرسالة، لكن هذا لم يلتقطها كما نعرف وما لبث الانفصال أن وقع، لكن هذه حكاية سياسية ليست ما يهمنا هنا طبعاً. بطولات مسرحية ما يهمنا هو ذلك الاستخدام المدهش لعمل فني قام به على أية حال فنانون كانوا معروفين أصلاً بتوجهاتهم الناصرية الوحدوية، لكنهم لم يكونوا راضين عما آل إليه حال الوحدة وتصرفات عامر ورجاله سواء كانوا مصريين أو سوريين، لكن الأهم من هذا أن كبار الفنانين السوريين الذين تمكنت مغناة “الثورة السورية” من جمعهم عبر سلسلة من المشاهد الحياتية والبطولية التي راحت تدور على خشبة عريضة أحاط بها ديكور يمثل تربة سوريا وغاباتها ومناطقها الريفية، تنوعت بين مشاهد ترينا تفاصيل من الثورة السورية تختلط فيها المعارك بحكايات الغرام بالتجمعات العائلية، وبالتحديد على الطريقة الرحبانية التي يستسيغها المتفرجون السوريون عادة. ولئن كان هذا العمل قد شهد جولات على المسرح أعادت إلى الحياة أسماء كبيرة معروفة من التاريخ السوري القريب عندذاك، مذكرة بوجوه تترواح بين سلطان باشا الأطرش ومحمد مريود ويوسف العظمة وعشرات غيرهم، ناهيك بأبناء الشعب والمقاتلين البسطاء، فإن تلك الأدوار أتاحت ذلك التجمع لكبار أصحاب الأسماء في الفنون المسرحية السورية في ذلك الحين ممن ذكرنا أسماءهم أول هذا الكلام، لكن أدواراً أكثر بساطة وحضوراً أعطت يومها فرصة لظهور جيل جديد من ممثلين كان من أبرز أفراده الشقيقتين منى (التي ستصبح واحدة من أكبر الفنانات السوريات منذ ذلك الحين) وهيفاء واصف، وياسين بقوش الذي عرف كيف يفرض حضوره بسرعة ليصبح ولو إلى حين كوميدياً أولاً في سوريا، ويعد “إسماعيل ياسين الإقليم الشمالي”. وهذا دون أن نذكر أن كل شاب أو فتاة أضحى من بعد ذلك ذا حضور ما في الحياة الفنية السورية إنما كان منطلقه من عمله في تلك المغناة. بيد أن ما لا بد من ذكره هنا هو أن عدداً من أولئك الفنانين لم يكونوا بالطبع مدركين للمغزى، بل حتى للهدف، السياسي الكامن خلف تلك المغناة التي مع ذلك تبقى فريدة في تاريخ الفن السوري. المبدع الشاب يحلق ولا سيما في تاريخ الموسيقي صلحي الوادي (1934 – 2007)، الذي بعد تلك التجربة سيكون له شأن كبير في تاريخ الفن السوري، حيث أنه عرف كيف يعزز وجوده في سوريا ليسهم في مجمل النشاطات الموسيقية التي عرفها هذا البلد منذ ذلك الحين، ولقد أسس الوادي كثيراً من المبادرات الموسيقية في سوريا لا سيما المعهد العربي للموسيقى في دمشق والفرقة السيمفونية الوطنية السورية، مندمجاً تماماً في الحياة الفنية بل حتى الأكاديمية السورية إلى درجة أن كثراً يذكرونه دائماً كسوري لا كعراقي، والوادي الذي شغف منذ طفولته البغدادية بالموسيقى الكلاسيكية التي تعرف إليها من خلال أسطوانات كان يقتنيها بالمئات، واصل دراسته في “الأكاديمية الموسيقية الملكية” في لندن التي كان توجه إليها أصلاً لدراسة الهندسة الزراعية، ومن ثم انطلق ليخوض لاحقاً العمل الموسيقي ولكن في دمشق، حيث أسس من فوره أوركسترا على النمط الكلاسيكي ولكن في تمازج في أدائها بين الملامح الموسيقية الشرقية في عصرنة للتراث وملامح التوزيع الأوركسترالي العلمي، وكانت تجربته في مغناة “الثورة السورية” واحدة من تطبيقاته الأولى في هذا المجال، من خلال الموسيقى التصويرية، ولكن كذلك من خلال عديد من موسيقى الرقصات والأغنيات الجماعية والفردية التي جاء بمعظمها مما كان معهوداً في الفولكلور السوري عند بدايات القرن العشرين، ولعل أبدع الأمثلة على ذلك العمل الخلاق الذي قام به الوادي في المغناة، أغنية “أبو عيون اللويزة” التي عاشت طويلاً بعدما اختفت المغناة نفسها من الوجود بـ”اختفاء” ما اعتبر سبب وجودها، الوحدة التي تمكن عبد الحكيم عامر من تحويلها إلى ما يشبه الاحتلال! ولكن بما أن المثل يقول “رب ضارة نافعة” عرف ذلك العمل الإبداعي الكبير كيف يكون نقطة انطلاق رائعة للفنون المسرحية وغير المسرحية في سوريا. المزيد عن: معرض دمشق الدولي\سورياالوحدة السورية المصريةجمال عبد الناصرعبد الحكيم عامرالموسيقار صلحي الوادي 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post علاج جديد قد يقي مرضى السكري من العمى next post هل انتهى زمن كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد؟ You may also like بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: ماجان القديمة …أسرارٌ ورجلٌ... 27 نوفمبر، 2024 «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد 27 نوفمبر، 2024 محمد خيي ممثل مغربي يواصل تألقه عربيا 27 نوفمبر، 2024 3 جرائم سياسية حملت اسم “إعدامات” في التاريخ... 27 نوفمبر، 2024 سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024