ثقافة و فنونعربي “الغرفة الحمراء” لسترندبرغ… حين يسخر الكاتب من جهل المثقفين ونفاقهم by admin 17 يونيو، 2022 written by admin 17 يونيو، 2022 122 البحث عن مكانة عبر فضح زعماء الحركة الثقافية في ستوكهولم نهاية القرن التاسع عشر اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب لو سألنا اثنين في الأقل من كبار مبدعي النصف الثاني من القرن العشرين هما السويدي إنغمار برغمان والأميركي وودي آلن، عن زميلهما الذي كان صاحب التأثير الأكبر عليهما في إبداعهما، لجاء الجواب بسرعة: غوستاف سترندبرغ. والحقيقة أن جواب برغمان قد يبدو طبيعياً بالنظر إلى أنه وسترندبرغ ينتسبان إلى بلد واحد وثقافة واحدة فيبدو أحدثهما امتداداً طبيعياً للأقدم منهما، في المسرح ولكن بخاصة في السينما، في المقابل سيبدو الأمر أكثر غرابة بالنسبة إلى آلن الذي يبدو ظاهرياً أن كل ما كونه يتناقض مع ممارسات السويدي الكبير الفنية، ولكن من المؤكد أن ثمة ما يجمع بينه وبين سترندبرغ من دون أن يمر على برغمان: حس المرح والجنون والإحساس العالي بالذات. وهذا من دون أن ننسى القدرة المشتركة بينهما على التعامل بلؤم مع الآخرين. ولعل من المفيد هنا في هذا المجال بالذات أن نتحدث عن واحد من كتب سترندبرغ المبكرة الذي على عكس ما يمكن توقعه، لم يكن مسرحية وإن حول إلى مسرحية لاحقاً. غرفة حمراء لنظرات لئيمة وعلى عكس ما يمكن انتظاره أيضاً لم يكن كتاباً متأخراً بين نتاجات الكاتب مع أن موضوعه وعنوانه قد يوحيان بذلك بل كان كتاباً مبكراً لمؤلفه الذي لم يكن معروفاً في أوساط الحياة الأدبية في ستوكهولم، لكن الكتاب سيدفعه إلى الواجهة وهو دون الثلاثين بعد، بين ليلة وضحاها كما سنرى، ليمكنه من أن يفرض حضوراً قوياً ويفرض مسرحياته التي كان يتطلع إلى كتابتها، بل كتب بعضها بالفعل من دون أن يهتم به أحد أولاً كما سنرى، قبل صدور الكتاب الذي نتناوله هنا. والكتاب هو طبعاً “الغرفة الحمراء” الذي أتى شبه رواية وشبه كتاب نقدي وشبه مذكرات دونها قلم شاب راح ينظر “باستياء وقرف” بحسب تعبيره الخاص إلى الكيفية التي تسير بها الحركة الثقافية من منظور ذلك المقهى الذي كان يعج بكبار المثقفين، من الذين لم يتنبه أي منهم إلى ذلك الشاب الصموت الذي كان يجلس في زاوية يراقبهم ويحصي عليهم أنفاسهم، ليفجر ذلك كله في قنبلته الأدبية التي فتحت له دروباً عريضة، فيما “فضحت” شخصيات ونفسيات وممارسات لن يكف سترندبرغ الذي هو ذلك الشاب بالطبع، عن الإمعان في فضحها بعد ذلك! أسماء كبيرة أصدر سترندبرغ ذلك الكتاب إذاً، وهو في الثلاثين، وهو كان قبل ذلك، ومنذ تجاوز سنوات مراهقته وقرر أن يمتهن الكتابة، خاض كل أنواع الكتابة، من صحافة وقصة ومسرحية ونقد، ولكن دائماً من دون طائل… والأهم من هذا -طبعاً- هو أن تلك التجارب التي خاضها وضعته على تماس تام، مع الكثير من شخصيات تلك البيئة وذلك الزمن من الذين سيقول إنه لم يلمس لدى أي منهم طوال سنوات أي استعداد لدعم أية موهبة أدبية شابة تحاول أن تستعين بهم، فقرر أن يكشف عن عورات أولئك الناس… مستخدماً قلمه اللاذع لشن حرب ضدهم. وكان كتابه “الغرفة الحمراء” هو “مدفعيته” الثقيلة في المعركة. ولقد زاد من فاعلية كتابه أن كل الذين كتب عنهم فيه وصورهم، إنما كانوا ملء الأسماع والأبصار، وكان ذكر اسم أي واحد منهم على غلاف الكتاب كافياً لانتشار الكتاب. وهكذا بضربة معلم، تمكن أوغست سترندبرغ من أن يضع اسمه مع الكبار، بل في موقع الساخر من الكبار ومما جعلهم كباراً ولم يكن ذلك بالشيء القليل حينها. في “الغرفة الحمراء” إذاً، صفحات وصفحات تصور الرسامين والكتاب والمسرحيين وحتى العلماء كاشفة عن أسرار شخصياتهم، متوقفة عند نقاط ضعفهم… حتى من دون أن يلجأ الكاتب إلى أية أكاذيب وافتراءات، مفضلاً أسلوباً يدنو من السياق الروائي، ما أنقذه من أن يصل إلى القضاء. صدر “الغرفة الحمراء” في 1879 ومنذ صباح اليوم التالي صار أوغست سترندبرغ واحداً من أشهر الكتاب في ستوكهولم (غلاف الطبعة الأولى – أمازون) بحث عن اعتراف الآخرين وتفاهاتهم في الوقت الذي كان سترندبرغ منهمكاً في كتابة “الغرفة الحمراء” كان يعيش موزعاً بين رغبته في أن تعترف الأوساط الأدبية به -وهو اعتراف كان يرى أنه تأخر كثيراً!- وشعوره بأن اهتمامه الأول في حياته يجب أن يكون اهتماماً فنياً وذا مستوى. ومن هنا، حين صاغ صفحات وفصول ذلك الكتاب، حرص على أن يجعل من موضوعه وسيلة لفرض مكانة لنفسه في الحياة الثقافية، جاعلاً من أسلوبه دليلاً على تميزه في البعد الفني لعمله. وإذا كان قد حرص على شيء منذ البداية، فإنه حرص على أن يبتعد من أية نفحة عاطفية أو “ذاتية المنحى” في ما يكتب… وهو نجح في هذا أيضاً، حتى وإن كان الكتاب كله ذاتياً في نهاية الأمر. ولعله يكفينا هنا أن نقف عند بعض تعبيراته كي ندرك درجة السخرية المرة التي تملأ هذا الكتاب. فمثلاً حين يتحدث سترندبرغ عن الصحافة. يقول إنها لا تفتأ “تحطم القلوب مثلما يحطم المرء البيض”! وهو يتحدث عن المسرح بصفته قناعاً “يخفي خلف أبهة الملابس والديكورات بؤس الممثلين وجوعهم”. وإذ يذكر الأحزاب السياسية في طريقه يقول إن “الأحزاب، من أجل الائتلاف في ما بينها، تتنازل وتتنازل حتى تندمج جميعاً، في نهاية الأمر، في لون رمادي لا طعم له ولا لون”. أما حين يصل إلى الحديث عن الرسم بصفته الأول بين الفنون الجميلة، فإنه يبرهن كيف أن رسامي زمنه يزعمون، بادعاءاتهم الضحلة، أنهم يقفون فوق السلة التي يتجابه في داخلها، و”في شكل ودي للغاية” أكاديميون ومضادون للأكاديمية قطعت رؤوسهم جميعاً من قبل. مشاهد قاسية ساخرة على الرغم من أن سترندبرغ لم يكتب “الغرفة الحمراء” كمسرحية في البداية، فإنه مع ذلك حرص على أن يعطي النص عنواناً ثانوياً هو “مشاهد من حياة الأدباء والفنانين”… ومن هنا ما نلاحظه من أن هذا العمل قد قدم لاحقاً، على شكل مشاهد مسرحية… ولقد ساعد على هذا أن الكاتب، أصلاً حين كتب العمل، ملأه بالحوارات، حيث إن معظم النصوص والانتقادات جاءت في حواريات تخيل وجودها بين أصحاب العلاقة أنفسهم… حوارات إذا كان في الإمكان تشبيهها بشيء فإنما بالحوارات التي تملأ مسرحيات أوسكار وايلد ويسودها تصوير مدهش للجهل وللنفاق الاجتماعي وللتكاذب المشترك بين البشر، ذلك النوع من البشر. إنها، هنا لدى سترندبرغ، حوارات حادة قاطعة، تصور على الفور، ومن دون الحاجة للعودة إلى قراءة ثانية، نساء متحذلقات، وصحافيين لا وازع ولا ضمير لديهم، وبوهيميين كاذبين، يجعلون لأنفسهم صورة خارجية فوضوية لكنهم يعيشون حياة مترفة. ولا ينسى الكاتب في طريقه أن يتحدث عن قساوسة جشعين ليس الدين بالنسبة إليهم سوى طريق إلى المكسب والجاه… أما الناشرون فحدث عنهم ولا حرج، “إنهم مجرد تجار”، في رأي الكاتب، لا يقرأون حتى الكتب التي ينشرونها وتدر عليهم أموالاً طائلة. الكل تحت قلم سترندبرغ كاذب مدعٍ… ولأنهم كذلك لا يريد الكاتب أن يرحمهم. مهما يكن، حجة الكاتب في ذلك هي أنه، حين صاغ ذلك النص الفريد، في زمنه، كان لا يزال نكرة… مجرد موظف بسيط في المكتبة الوطنية يحاول جاهداً أن يشق لنفسه طريقاً. في انتظار الحساب العسير صدر كتاب “الغرفة الحمراء” في عام 1879، ومنذ صباح اليوم التالي صار أوغست سترندبرغ (1849 – 1912) واحداً من أشهر الكتاب في ستوكهولم. طبعاً أحس يومها بأن شهرته لم تأته من الطريق التي كان يفضل: أي من طريق مسرحياته، لذلك نراه من فوره ينصرف، إذ أحس أنه صار مقبولاً، إلى كتابة وإصدار مسرحياته الكبرى واحدة بعد الأخرى، من”سوناتا الأشباح” إلى “الطريق إلى دمشق” و”الأب” و”الآنسة جوليا”، وغيرها من أعمال كبيرة كان أهم ما فيها أنها مكنت أوغست سترندبرغ من فرض حضوره كاتباً مسرحياً كبيراً، ودفعت كثراً إلى الكف عن الحديث عن “الغرفة الحمراء” إن لم يكن إلى نسيانه تماماً. من دون أن ينسى أحد محاسبة الكاتب لاحقاً على كل هنة تصدر منه أو عن كل موقف متخاذل يؤثر عنه، ولسوف تكون المحاسبة طويلة وتوصله أحياناً إلى حافة الجنون لكن هذه حكاية أخرى طبعاً! المزيد عن: غوستاف سترندبرغ\وودي آلن\إنغمار برغمان\الغرفة الحمراء\شاهد من حياة الأدباء والفنانين 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “تحرير الخيال” مقولة تحث الابداع على تخطي الحواجز next post رحيل أول سايبورغ كامل في العالم You may also like نظرية فوكوياما عن “نهاية التاريخ” تسقط في غزة 29 نوفمبر، 2024 لماذا لا يعرف محبو فان غوخ سوى القليل... 29 نوفمبر، 2024 جائزة الكتاب النمساوي لرواية جريمة وديوان شعر ذاتي 29 نوفمبر، 2024 طفولة وبساطة مدهشة في لوحات العراقي وضاح مهدي 29 نوفمبر، 2024 استعادة كتاب “أطياف ماركس” بعد 20 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 تحديات المخرج فرنسوا تروفو بعد 40 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 21 قصيدة تعمد نيرودا نسيانها فشغلت الناس بعد... 28 نوفمبر، 2024 الرواية التاريخية النسوية كما تمثلت لدى ثلاث كاتبات... 28 نوفمبر، 2024 بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024