ثقافة و فنونعربي “السفينة – المصنع” رواية يابانية استثنائية وجدت جمهورها متأخرة 80 عاما by admin 3 أبريل، 2022 written by admin 3 أبريل، 2022 55 مئات ألوف النسخ لكتاب عاش طويلاً في مهب النسيان لتفيق على مفاجأة اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب نعرف كثيراً طبعاً عن أعمال إبداعية تُرجمت حين ظهورها للمرة الأولى لكنها سرعان ما تحقق المجد الكبير مهما طال الزمن حتى بعد رحيل أصحابها، لتستعيد مكاناً كان من الظلم أنه لم يكُن لها من أول الأمر. ولكن، بشكل عام، لا تكون المسافة الزمنية التي تُرمى بها تلك الأعمال في مهب النسيان الظالم طويلة، فينعم مبدعوها بعودتها خلال حياتهم ولو بعد حين. وتبدو حكاية الرواية اليابانية “السفينة – المصنع” استثنائية هنا من ناحية طول السنوات التي احتاجت إليها قبل أن تستعيد مكانتها. فلقد احتاجت رواية تاكيجي كوباياشي هذه إلى ثمانين عاماً قبل أن تعود مظفرة. ولكن، أي عودة! فهي التي كانت قد اكتفت بأن تنتشر ببضعة آلاف من النسخ يوم صدرت للمرة الأولى عام 1929، ستبيع نحو 570 ألف نسخة حين عودتها إلى الظهور عام 2008 – 2009، تحديداً بعد 76 عاماً من وفاة مؤلفها وهو في الثلاثين من عمره، وبعد أن أسهمت السلطات الرقابية اليابانية في الغيبوبة التي كانت من نصيبها عند ظهورها للمرة الأولى، فمنعت تداولها وصادرت معظم الـ15000 نسخة التي كانت قد وزعت منها. لماذا؟ بالتحديد، لأن النقاد تحدثوا عن الرواية عند ذلك الظهور بوصفها “الرواية البروليتارية الكبرى” في تاريخ الأدب الياباني، مرحبين بكونها منذ ذلك الزمن المبكر تندد بالاقتصاد الرأسمالي! على خطى الدارعة الروسية مهما يكُن، لا بد من الإشارة المبكرة هنا إلى أن من “ذنوب” هذه الرواية كونها استوحت ولو بشكل موارب، ذلك الفيلم العظيم الذي كان السينمائي الروسي الكبير سيرغي إيزنشتاين قد حققه قبل أعوام من ظهور الرواية، “الدارعة بوتمكين” الذي حتى قبل أن يُحسب واحداً من أعظم الأفلام في تاريخ السينما، ولا يزال كذلك حتى الآن، نظر إليه دائماً على أنه الفيلم الأكثر ثورية هو الذي تحدّث عن تمرد سفينة حربية روسية أيام حكم القيصر خلال ثورة عام 1905 التي من المعروف أنها مهدت لثورة عام 1917 البلشفية. ويقيناً أن مثل هذا التقارب بين الفيلم والرواية ودلالته ما كان من شأنه أن ينطلي على الرقابة الفاشية اليابانية في ذلك الحين. وهكذا دفع الكاتب كوباياشي ثمن “وقاحته” وباتت “السفينة – المصنع” أسطورة من أساطير الأدب الياباني المليء عادة بالأساطير. ولا بد هنا من الإشارة إلى أن هذه الرواية وعنوانها باليابانية “كانيكوزن” حتى وإن كانت مستوحاة إلى حد ما من فيلم إيزنشتاين، فإنها تروي في الوقت ذاته أحداثاً حقيقية عرفتها الحياة اليابانية في تلك الأعوام الساخنة. ثورة بعد نفاد الصبر كان ذلك، كما تروي “السفينة – المصنع” على أي حال، في صفحاتها التي لا تزيد على 137 صفحة في ترجمتها الفرنسية، مقابل 61 صفحة في الأصل الياباني الموزع على جزءين، في مياه الصيد المحيطة بالمناطق البرية والأرخبيلية في بحر إركوتسك، حيث تتجول تلك السفينة التي تحمل اسم “هاكو – مارو” وتنتمي إلى نوع خاص من السفن المؤلف في الوقت ذاته من مركب صيد ومصنع لفرز السلطعون وتعليبه، تمهيداً لتوزيعه وتصديره. ومن المعروف عادة أن الأوضاع التي يعيشها الصيادون البائسون على ظهر السفينة – المصنع بالغة السوء، بل تكاد تكون أعمال سخرة تفوق قسوتها قسوة الأشغال الشاقة في السجون، وتقل مردوداتها بالنسبة إلى البحارة العمال عما يتجاوز خط الفقر والفاقة. ولقد كانت الرواية في الأصل أشبه بتحقيقين صحافيين نشرتهما في حينه صحيفة “سنكي” اليومية التي كانت تُعتبر حينها الصحيفة اليومية للطبقة العاملة اليابانية، كنوع من الفضح للاستغلال الرأسمالي ودعوة القراء إلى التنبه لمصير البروليتاريا التي لا يحميها قانون ولا سلطة. ولقد استند الكاتب يومها إلى شهادات جمعها على ألسنة عمال وبحارة تتعلق بتلك الانتفاضة على ظهر السفينة التي قام بها هؤلاء لتبدو في نهاية الأمر وكأنها مقتبسة من ثورة بحّارة الدارعة بوتمكين. مجتمع رمزي من الواضح في النهاية أن “المجتمع الذي يتحدث عنه الكاتب هنا هو مجتمع رمزي يؤشر إلى المجتمع الياباني العام” بشكل قد تمكن مقاربته من ذاك الذي عرف الكاتب الأميركي آبتون سنكلير، كيف يوصّفه بدوره في روايات له مثل “بترول” و”في شيكاغو العتيقة” في الاتجاه ذاته، إذ إن ما لدينا على متن السفينة، بحّارة وعمال يقومون بصيد السلطعون وتوضيبه تحت إشراف مندوب الشركة صاحبة المشروع كله. وهو مندوب يتعامل بكل قسوة وجبروت مع أولئك العاملين البؤساء. ولئن كان مثل هذا الوضع يسود، كما نفهم بسرعة، في مئات السفن – المصانع التي تمخر تلك البحار، فإن ما يحدث على متن سفينتنا هنا هو ذلك الوعي الذي يكتسبه العمال – البحّارة البائسون بتعرضهم لمخاطر البحر وأمراضه من دون أي عناية طبية ولو في الحدود الدنيا، وعسف رؤسائهم وسيطرة مندوب الشركة. وعلى هذا النحو، يبدأ نوع من تمرد خجول يتيح للمؤلف أن يتحدث عن “صراع طبقي” لا يسميه كذلك بالضرورة، لكن من خلاله يتوقف عند العنف الذي يمارسه “السادة” هنا، ليس مباشرة فحسب، بل حتى من خلال تأليبهم عمالاً على آخرين، ما ينتج عنفاً رهيباً تكون السفينة كلها مسرحاً له. وهو عنف يتيح للمؤلف أن يوسع من دائرة تحليله بحيث يصل إلى إدانة النظام الإمبراطوري كله إضافة الى إدانته التواطؤ الذي يجد صورة مصغرة عنه هنا، بين السلطة السياسية والمنظومة الرأسمالية الصناعية والسلطة العسكرية، وهو تواطؤ سيؤدي بالضرورة إلى اندلاع الحروب واستشراء الكولونيالية! مفاتيح فكرية ومن الجليّ أن هذا كله يجعل من رواية “السفينة – المصنع” نوعاً من رواية ذات مفاتيح فكرية وأيديولوجية واضحة، وإن كانت لغة كوباياشي الأنيقة والمفهومة في آن معاً، تمكّنت من أن تبث في النص شاعرية لا تخفى، لكنها شاعرية تستخدم لغايات غير جمالية بالتأكيد. وهذا ما أدركته السلطات الرقابية في الماضي، فمنعت الرواية من التداول باعتبارها “رواية بروليتارية خطيرة”. وهكذا ظلت حالها حتى انقضاء الحرب العالمية الثانية ورزوح اليابان تحت ربقة الهزيمة والتغيرات التي غمرت الذهنيات ما جعل الرواية تبدو أقل خطراً. بالتالي، إذ فقدت بعدها التحريضي المباشر، عرفت كيف تشغل مكانها في الكتب المدرسية مكتفية بأن تعتبر نموذجاً لأدب عاش حياته وبات الآن ذا مكانة كلاسيكية محترمة لا أكثر. ولكن عام 2008 تحديداً، ومع الأزمات المالية وأزمات فائض الإنتاج التي أدت إلى إفقار طبقات بكاملها من الشعب الياباني، تنبهت بعض الأقلام الى الفعل الذي يمكن أن يكون الآن لهذه الرواية تحديداً من خلال “فضحها” للرأسمالية المسؤولة في نظر المناضلين الراديكاليين عما يحدث في الاقتصاد الياباني، واستفاقت واحدة من أولئك الراديكاليين، وهي الكاتبة كارن آميميا، على “ضرورة نشر رواية كوباياشي هذه”، وأقدمت على ذلك من دون أن تعارضها السلطات في الأمر، خصوصاً أن هذه السلطات نظرت إلى الأمر في بعده التاريخي الكلاسيكي. ولقد أتاح هذا لكارن أن تنشر مقالاً سيكون له صدى كبير، تتحدث فيه عن قدرة رواية “السفينة – المصنع” على أن تشرح أواليات ما يحدث في العالم الرأسمالي اليوم. المفاجأة الحقيقية من هنا، سرعان ما راحت الرواية وقبل نشرها مجدداً، تُعتبر من قبل الشبيبة اليابانية “رمزاً لليابان التي تعيش اليوم قلقاً جذرياً يتسبب به تفاقم ضروب اللامساواة”، لا سيما بالنسبة إلى الأوساط الشبابية التي باتت تجد نفسها عند بداية القرن الواحد والعشرين أمام دروب مسدودة تتطابق مع ما حصل لبحارة السفينة “هاكو – مارو” قبل ثمانين عاماً، بالتالي بات من الواضح أن إعادة طباعة الرواية مسألة تقنية لا أكثر وأمر لا يمكنه أن يفاجئ أحداً. غير أن المفاجأة كانت في الرقم المذهل الذي تمثل في توزيع الرواية خلال الأشهر القليلة التي تلت البدء بإعادة طبعها. وهو رقم من المستحيل طبعاً العثور على ما يدنو منه بالنسبة إلى أي رواية كلاسيكية وليس في اليابان وحدها بل في أي مكان آخر في العالم بالتأكيد. المزيد عن: الأدب الياباني \ السفينة – المصنع \ سيرغي إيزنشتاين \ تاكيجي كوباياشي 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post أهو فجر كاذب لليبرالية؟ next post وليد الحسيني : مفاتيح إنتخابات 2022 .. السحسوح وغادة عون You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024