X FILEعربي السعودية وإيران… صراع لا بد منه! by admin 21 فبراير، 2021 written by admin 21 فبراير، 2021 136 هل يكفي التنافس والأيديولوجيا لتبرير الحرب المستعرة بين الطرفين منذ أيام الشاه حتى عهد “النووي”؟ … “اندبندنت عربية” تتقصى خيوط الحكاية اندبندنت عربية / مصطفى الأنصاري كاتب وصحافي @mustfaalansari على الرغم من طول الخلاف بين السعودية وإيران، فإن قلة بين المهتمين يتفقون على الأسباب الحقيقية لذلك البون الذي وصل إلى الصدام مرات عدة، وكان على شفا مواجهة مفتوحة في مراحل تاريخية مختلفة. فبالنسبة للسعوديين، لا يرون دولة طبيعية يمكن التفاهم معها بعد أن استنفدوا كل المحاولات. بينما ترى إيران أن ما تسميه “التبعية السعودية” للغرب تجعل التلاقي معها عصياً. أما العرب بتياراتهم المختلفة وكذلك الإيرانيون، فلا يكاد عدد كبير منهم يتفق على سبب واحد من أسباب قيام ما يمكن تسميته الصراع المستمر في المجمل بين البلدين. القوميون يرون السجال بين العرب والفرس كان وسيبقى إلى الأبد لا محالة. والإسلاميون يؤمنون بأن الشقاق والتدافع بين دول المسلمين السنية والشيعية، قدر لا مفر منه. وبالتالي صارت عوامل الصراع على النفوذ بينهما قابلة للتوالد جيلاً بعد آخر. إلى غير ذلك من الثنائيات التي تصاغ أحياناً على شكل تساؤلات. لكن بتلمس خيوط العلاقة الأولى، والخلاف ومحطاته ومبرراته الرئيسة، نجد أن الحكاية أكثر تعقيداً. فالسعودية الحديثة وقعت معاهدة مبكرة مع إيران الشاه في 1929م، لكن تلك المعاهدة ما لبثت أن تكدرت بتصريحات الشاه ضد الأراضي العربية القريبة منه، إن كان نحو دولة البحرين، التي طالب بها آنذاك، أو الجزر الإماراتية التي يحتلها منذ أن خرج البريطانيون منها في 1971م مما استدعى موقفاً سعودياً رافضاً، تطور عندما بادرت الرياض لرسم حدودها مع البحرين 1958م، تأكيداً للاعتراف بها كدولة مستقلة، عززتها بجنود من حرسها الوطني تحسباً لأي عدوان إيراني، قبل أن يعيد التاريخ نفسه في 2011 وتقوم قوات “درع الجزيرة” بقيادة السعودية بمهمة مماثلة، أحبطت حراكا كان يعتقد أنه يستهدف الإطاحة بالنظام الحاكم، بدعم إعلامي إيراني، على غرار ما وقع في كل من “تونس، وليبيا، ومصر”. عيسى بن خليفة أول أمير لدولة البحرين بعد الاستقلال (غيتي) وهكذا وجدت السعودية نفسها منذ بواكير نشأتها، في خلاف لا بد منه مع طهران، كان في الغالب من أجل أمتها العربية، وأحياناً الإسلامية (السنة)، فما كاد الخليجيون يلتفتون لملف الجزر الإماراتية الاستراتيجية نظير السيطرة التي تسهلها على مضيق “هرمز”، حتى أطاحت الثورة الإسلامية بقيادة روح الله الخميني نظام الشاه الملكي، وسط توجس خليجي لم يمنع الرياض من الترحيب بالحكام الجدد، فليست العلاقة بالنظام في أحسن حالاته على الرغم من إمكان التفاهم معه، بفضل القواسم المشتركة بين الجانبين في شكل الكيان السياسي (ملكي) والحلفاء ومنطق الدولة الذي يحتكمان إليه، وإن لم تخلُ طهران قط من ما يصفه خصومها بالنفس الاستعلائي والشرطي نحو الخليج. وتصف دراسة إيرانية عن جامعة أصفهان أعدها ثلاثة باحثين هم “صادق شافعي، وأصغر منتظر، ومحمد علي جلونكر” تلك العلاقة على توترها، بأنها أحد عوامل الشك المتجذرة في نظرة حكام طهران الجدد إلى جيرانهم في الضفة الأخرى من الخليج، إذ تقول “إن انتصار الثورة الإسلامية لم يقلل فقط من أهمية العلاقات بين البلدين (التي كانت سائدة)، بل أضفى على العلاقة بينهما حساسية خاصة وتعقيداً غير عادي. بخاصة في العقد الأول من الثورة، عندما خرجت العلاقات بين البلدين عن طبيعتها وأصبحت قاتمة”. إلا أن تلك النظرة لم تمنع الخليجيين من الترحيب بنظام الخميني، لاعتبارات عدة مثل، العلاقة المتوترة المشار إليها مع نظام الشاه، وأيضاً انشغال الإقليم حينها بالحرب الباردة ومواجهة الشيوعية التي يعتقد الخليجيون أن المحافظين سيكونون أقل تسامحاً معها، إلى جانب أن الدول الخليجية في ذلك الوقت تتجه إلى المحافظة الاجتماعية والدينية. مما أعطى بصيص أمل بأن تلك نقاط يمكن البناء عليها لحسن الجوار مع إيران ولو بعد حين، فمن يرفع شعار الإسلام والثورة على الظلم ينبغي أن يكف عن أذى الجار ويتسم ببعض التواضع. أقنعة تصدير الثورة ولهذا في سنوات الحوار مع الإيرانيين، كان البناء على هذه الجزئية كافياً لإحداث بعض التقارب، الذي قوبل بحسن نية سعودية قبل أن يتبين أنه مرحلة لا أكثر من مراحل “الصبر الاستراتيجي” الإيرانية، أو “المكر الفارسي” كما يحلو لبعض العرب وصفه، وفقاً للباحث أشرف كشك الذي كشف في دراسة له حول قضايا الصراع والمواجهة بين دول الخليج وإيران، كيف أن الإيرانيين تعاطوا مع الخليج بمستويات مختلفة، وفق ما يتطلبه الظرف في طهران، فمنشأ الصراع الأول بين الجانبين الذي هو “تصدير الثورة”، لم يتوقف قط. وقال، إنما الذي اختلف الأساليب باختلاف المراحل التاريخية، ففي مرحلة كانت “محاولة اغتيال أمير الكويت في الثمانينيات من جانب أحد أعضاء حزب الدعوة العراقي المدعوم من إيران أحد مظاهر تصدير تلك الثورة، بينما في مرحلة تالية رأى الرئيس الإيراني هاشمي رفسنجاني أن تصدير الثورة لن يكون بغير القوة”. منذ وصول الخميني إلى السلطة تفاقم التوتر بين إيران وجيرانها العرب (غيتي) أما في عهد الرئيس محمد خاتمي، فرأى كشك أن هدف تصدير الثورة قد “غلف بمفاهيم مثل الحوار وحسن الجوار، وفي عهد الرئيس السابق أحمدي نجاد بدت إيران حامية للمستضعفين في الأرض، وفي أعقاب تولي روحاني السلطة أضحى التدخل الإيراني في شؤون دول الجوار (العراق، اليمن، سوريا، لبنان، البحرين) معلناً، كما قبض على العديد من خلايا التجسس التابعة لحزب الله وإيران في بعض دول الخليج”. مع هذا ترفض إيران اتهامها في التدخل في البلدان العربية المختلفة ففي سوريا تقول إن حضور عناصرها لتقديم استشارات عسكرية لنظام الأسد وفي اليمن تنفي تزويد ميليشيات الحوثيين بالسلاح والعتاد الحربي. ومع ارتفاع الأصوات المعارضة للميليشيات المدعومة من إيران في العراق تؤكد طهران أن هذه المجموعات عراقية وتعمل باستقلالية لكنها تقدم لها الدعم كلما طُلب منها. وعوداً إلى تسلسل الأحداث؛ فإن نظام الخميني لم يترك الخليجيين في حيرة طويلة، فما هي إلا أشهر، حتى قطعت جهيزة حرب العراق قول كل خطيب، ووجد الخليجيون، وخصوصاً السعودية، أنفسهم في موقف لا يسعهم تجاهله، فمهما يكن من الخلاف مع صدام لا يمكن أن يدفع إلى تركه من دون مساندة أمام عدو تاريخي، يناصب العرب العداوة سراً وجهراً، فكان موقف الرياض والعرب المشهود في إلحاق خسائر فادحة بالنظام الإيراني، سيؤتي أكله ويحدث التوازن الضروري بين القوميتين، لولا أن صدام لم يمهلهم كثيراً ليصادق على أنه ليس أهلاً للثقة التي وضعوها فيه كـ”حارس لبوابة العرب الشرقية”، بحسب ما قدم نفسه، ورأى العرب العراق منذ قرون. انقلب حاكم بغداد على من كانوا بالأمس قوته، وصار يغزوهم ببعض العتاد الذي دفعوا ثمنه، بحسب ما يوثق الفاعلون السياسيون في ذلك الحين، أمثال الأمير بندر بن سلطان، في حواره مع الزميل عضوان الأحمري، في هذه الصحيفة، ومن قبله الوزير السعودي الراحل غازي القصيبي، الذي كشف كثيراً مما كان مسكوتاً عنه في حقبة دعم صدام، عندما استغل ذلك في احتلال الكويت 1990م، وبعدها تقدم نحو السعودية التي وقفت له بالمرصاد، كما وقفت معه في حرب إيران من دون مواربة. نزعة الانتقام بعد حرب صدام كانت تلك الحرب (العراقية الإيرانية) التي صنفت بين أطول النزاعات العسكرية في التاريخ الحديث، “القشة” التي لم يستطع الإيرانيون نسيانها، حتى بعد أن أصبح صدام عدواً مشتركاً لها وللخليج، لدرجة جعلت من السياسة الخارجية الإيرانية فيما بعد تبنى على موقف جيرانها من تلك الحرب، وفقاً للدراسات السياسية وتصريحات مسؤوليها، فعلى تلك القاعدة على سبيل المثال بُني الحلف الوثيق بين سورية وإيران الذي نراه اليوم؛ لأن دمشق لم تسند موقف بغداد في تلك الحرب، ليس بالضرورة حباً في إيران ولكن للعلاقة المشهورة بين البعثيين في العراق وسورية، ناهيك عن بقية العوامل الغارقة في القدم بين بغداد ودمشق أيام الخلافة العباسية والأموية. كذلك الأمر بالنسبة إلى سلطنة عمان التي تؤكد الباحثة فيها مريم البلوشي أن العلاقات بين بلادها وطهران “استمرت حتى في أوج الحرب الإيرانية – العراقية، التي كانت الأنظمة الخليجية طرفاً فيها عبر التسليح المباشر للجيش العراقي، ليس هذا فحسب، إنما احتضنت مسقط في تلك الحرب محادثات سرية بين الطرفين المتنازعين لوقف إطلاق النار، ورفضت الدعوة إلى مقاطعة إيران وعزلها دبلوماسياً واقتصادياً”. وفي هذا الصدد يؤكد الكاتب المخضرم في “اندبندنت” باتريك كوبيرن، “أن النفور من فظائع حرب الخليج الأولى ليس المبرر الوحيد لفقدان العالم ذاكرته في شأن مآل تلك الحرب، بل يكمن السبب في أن قلة من المشاركين في الحرب نالوا مبتغاهم منها، وإن فعلوا، فبفضل صدفة تاريخية لا يد لهم فيها”، مؤكداً أن الأهم من ذلك هو أن قلة تدرك أن حرب إيران والعراق “كانت فاتحة سلسلة من النزاعات مدارها العراق والخليج، ورسمت معالم السياسة في عالمنا الحديث”. بل إن مخلفات تلك الحرب والموقف العربي منها الصارخ في دعم صدام؛ أبقيا عند الإيرانيين نزعة “الانتقام” ليس فقط من العراقيين ولكن أيضاً من مؤيديهم الذين يفاخرون بأنهم أذلوا العنجهية الفارسية في أشخاص حكومة الخميني. ولذلك “ترى أكثرية العرب والمسلمين إعدام الرئيس العراقي السابق على أنه استفزاز طائفي موجه ضد السنة”، بحسب السياسي الأردني أيمن الصفدي في مقالة كتبها في صحيفة “الغد” الأردنية قبل بضع سنين، وهو الذي أصبح الآن وزير الخارجية في عمان. وكان خلص ذلك الحين إلى أن مشهد الإعدام “كان لحظة انتقام لا لحظة عدالة. العدالة تبني الأوطان. الانتقامية تدمرها”. الحرب العراقية – الإيرانية شكلت تحولاً أثر فيما بعدها في أحداث المنطقة (غيتي) وفي حوار أجراه كاتب هذه السطور مع كبير مساعدي وزير الخارجية الإيراني علي أصغر خاجي يوم كان سفيراً لبلاده في الرياض 2001 دار النقاش حول مدى صدقية طهران في رغبتها إنهاء الخلاف مع جيرانها الخليجيين بالكلية، وهي ترفض التفاوض بشأن الجزر الإماراتية التي تحتلها، وكانت القضية في ذلك الوقت ذات حساسية، فما إن سمع كلمة “الاحتلال”، حتى استشاط غضباً وخرج عن وقاره الدبلوماسي، وقال في صراحة نادرة “الجزر في الخليج الفارسي جزر إيرانية والدعاوى بأنها إماراتية من صنع الغرب، ثم ماذا علينا أن نقول نحن في إيران الذين وجدنا أنفسنا في غفلة نواجه حرباً من كل دول الخليج، لأننا واجهنا استكبار صدام الذي يعرف الجميع صلفه وغطرسته، إننا لن ننسى أبداً ذلك الموقف”. ومع أن قول خاجي السابق كان منسجماً مع ماضي إيران في عهديها الملكي والجمهوري حتى اليوم، لدرجة ينظرون فيها للبحرين وأجزاء من الكويت النظرة نفسها، إلا أن القوانين الدولية لا تزال تقر بأن “جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى إماراتية”، غير أن إيران كانت صريحة حتى مع المستعمر البريطاني برفضها أي تفاوض بشأنها مع ملاكها الأصليين. الجزر القابلة للاشتعال وتقول وثائق بريطانية حول الجزر أفرج عنها حديثاً، وفقاً لـ”بي بي سي”، إن ما حدث، فعلياً، هو أن “الجيش الإيراني سيطر بالقوة على جزيرتي طنب الكبرى وطنب الصغرى، التابعتين لإمارة رأس الخيمة، في 30 نوفمبر(تشرين ثاني) عام 1971، قبل يوم واحد من إعلان بريطانيا رسمياً انتهاء حمايتها للإمارات الخليجية، وبعد خمسة أيام من إعلان قيام اتحاد الإمارات العربية”، أما إمارة الشارقة، فوقعت مع نظام الشاه اتفاقية لتقاسم السيطرة على جزيرة أبو موسى التي عادت إيران، في ظل نظام الثورة الإسلامية التي أطاحت بالشاه عام 1979، وسيطرت عليها بالكامل، بل وأقامت عليها منشآت عسكرية عام 1992م. ومع تصاعد الخلاف مع طهران في ملفات أخرى أدت إلى تراجع الجدل حول الجزر، إلا أن تأكيد مجلس التعاون في بياناته على موقفه الموحد من احتلالها حتى في “بيان العلا”، أخيراً، يدل على أن هذا الشق من أسباب التوتر لا يزال قابلاً للاشتعال في أي وقت، خصوصاً بعد استخدام إيران لها في تهديد الملاحة الدولية وإحكام قبضتها على إمدادات الطاقة العالمية، في وقت لم تعد فيه دول الخليج والإمارات مالكة الجزر كما كانت قوة وحلفاء، يوم أن تمت مصادرة الجزر. تنظر إيران لاتحاد دول الخليج العربية بقلق (غيتي) وهذا يقودنا إلى المحور التالي في أسباب التوتر بين إيران والسعودية؛ هو “الأمن العربي الإقليمي”، ففي دراسة الباحثين الإيرانيين من جامعة أصفهان يقرون بأن إطلاق دول الخليج تكتلاً جامعاً، حمل اسم “مجلس التعاون لدول الخليج العربية” في 1981م استقبلته إيران بقلق بالغ، فمن منظور إيراني أن السعودية شكلت المجلس “بتشجيع من الولايات المتحدة، في وقت كان فيه خصماها الرئيسيان، إيران والعراق، في حالة حرب، بحيث يزيد أعضاء المجلس تدريجياً من وزنهم الجيوسياسي في مواجهة القوة الإقليمية لإيران. بخاصة وأن الولايات المتحدة دعمتهم أيضاً سياسياً وعسكرياً”. لماذا “مجلس التعاون” مستفز؟ ووفق هذا التصور الإيراني، فإن “تشكيل مجلس التعاون الخليجي بمثابة سياسة اقترحها الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة، بناءً على السياقات القائمة في المنطقة وتزايد القلق على حكام المنطقة فيما يتعلق بالثورة الإسلامية والعدوان السوفياتي. غيرت الولايات المتحدة سياستها الودية إلى استراتيجية دعم دول الخليج الفارسي (العربي)، وانتهت هذه العملية لصالح السعودية؛ لأن انتصارات إيران في الحرب وما ترتب عليها من زيادة في ثقتها بنفسها وانتقاد دول الخليج العربي لمساعدتها للعراق قد جعل المشيخات العربية تخشى إيران (…) في وقت أدرك قادة الخليج أن إيران يمكن أن تستخدم الحرب كأداة لتقوية الثورة”. لكن الباحث كشك، لفت في دراسته التي سبقت الإشارة إليها إلى المبعث الحقيقي لتوجس إيران من أي وحدة خليجية، فهي على صعيد القوة العسكرية، تخشى أن يصل المجلس مع الوقت إلى إنهاء الخلل القائم في توازن القوى بين دول الخليج وإيران، وفقاً للأدبيات العسكرية، “فطبقاً للتقرير السنوي للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية 2015، فإن القوات العسكرية العاملة لدول الخليج مجتمعة بلغت 368.100 جندي، في مقابل 475 ألفاً، هي إجمالي عدد القوات المسلحة الإيرانية العاملة”، مع الإشارة إلى تفوق بعض دول الخليج على إيران في بعض أنواع الأسلحة. وعلى الرغم من الفجوة الراهنة في عدد الجنود، فإن تغطية ذلك بالتحالفات والتقنيات العسكرية الحديثة يجعل مجلس التعاون محل قلق طهراني دائم، وهذا ما يفسر حماسة الإيرانيين للتعامل مع الخليجيين كدول متفرقة وليس ككتلة واحدة متجانسة، واستثمارها في أي خلاف داخلي ينشأ كما نشأ منذ القدم مع مسقط، وأخيراً، مع الدوحة. ومع أن دراسة مجلة البحوث التاريخية الصادرة عن جامعة أصفهان أشارت إلى أسباب أخرى اعتبرتها تفسر التوتر المتجدد بين الرياض وطهران مثل “دعم الليبراليين الإيرانيين، وخلافات أوبك، واحتواء الثورة، ومواجهات الحج، وفلسطين”، إلا أن جميع تلك الأسباب عند درس أبعادها القومية والاستراتيجية؛ نجد أن مراميها في نهاية المطاف بالنسبة لطهران هي محاولة فرض هيمنتها ونفوذها بالقوة على المنطقة العربية والإسلامية من العراق حتى المغرب، بينما تحاول الرياض إعاقة تلك المحاولات بما أمكنها من أدوات دبلوماسية وسياسية، وأحياناً مواجهة عسكرية، كما حدث في حرب “الناقلات”، واستهداف الحجاج في مكة المكرمة 1987، ومواجهة من يوصفون بوكلاء إيران في اليمن منذ 2014م. وفي تقدير رئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية محمد السلمي، أن التحرك الإيراني في هذا الصدد، يؤكد حاجة “منظومة دول الخليج العربي التي تقود حالياً الدول العربية عسكرياً واقتصادياً وسياسياً إلى صياغة مشروع عربي تلتف حوله الأمة العربية لمواجهة التحديات الجيوسياسية، وتتصدى لمشاريع طهران، التي تسعى إلى ابتلاع المنطقة العربية، وإن كان بدرجات متفاوتة ومتباينة”. الأيديولوجيا التصادمية يأتي ذلك في وقت يرى الباحثون الإيرانيون أنفسهم أن الرياض “بشكل عام، كانت سياستها تجاه الثورة الإسلامية هي احتواء هذه الثورة وآثارها الإقليمية من جهة، واعتماد استراتيجية المصالحة مع إيران من جهة أخرى. بعبارة أخرى، شكل مزيجاً من ضبط النفس واستراتيجيات التسوية نمط سلوك السياسة الخارجية السعودية تجاه إيران الثورية. بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وقع حدثان مهمان في المملكة العربية السعودية جعلا السعوديين أكثر خوفاً من الثورة الإسلامية. وهذان الحدثان هما: انتفاضة العتيبي، وانتفاضة الشيعة في السعودية، وبداية العلاقات المتوترة”. وأقروا بأن “الأيديولوجية الإسلامية الشيعية هي التي وفرت أرضية لسياسة خارجية تصادمية، سرعان ما دخلت في صراع مع الأيديولوجية السنية التي تقودها المملكة العربية السعودية. بطريقة ما، شككت الأيديولوجيتان في شرعية بعضهما البعض”. لكن طموح فرض الأيديولوجيا الجديدة على دول عربية في الأصل ذات أغلبية سنية، اتخذ أساليب مختلفة هي الأخرى، تجاوزت تصدير الثورة هذه المرة إلى الترسانة الصاروخية، والسباق النووي. وجد هذا المنحى مجدداً مقاومة من تيار الاعتدال العربي الذي تقوده الرياض، فمع أن الاتفاق النووي “دبر بليل” كما يقول المثل العربي، وشكل تناقضاً غربياً صارخاً وطعنة في الظهر في نظر العديد من المحللين الغربيين، فإن الرياض استطاعت أن تقوم بعرقلته، وقادت حملة ضغط دولية ضده، حتى اقتنع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بالخروج من الاتفاق، كما تعرضت طهران لعقوبات أميركية هي الأشد في تاريخها، مما جعل عام 2020 وفقاً لتقرير المعهد الدولي للدراسات الإيرانية “عام ذروة الصراع بين استراتيجية “الضغوط القصوى” الأميركية وسياسة “الصبر الاستراتيجي” الإيرانية”. وحتى بعد مجيء الرئيس الديمقراطي جو بايدن، فإن المعادلة في نظر العديد من المحللين ليست في صالح إيران بالكلية على الرغم من إعلان بايدن رغبته في العودة إلى الاتفاق النووي، إنما ليس بأي ثمن، وأعلنت إدارته أن البيت الأبيض سيشرك حلفاءه في أي اتفاق جديد. البرنامج النووي والصاروخي في إيران أثارا قلقاً دولياً (غيتي) وفي هذا السياق تضغط دول عدة مؤثرة في القرار الأميركي مثل بريطانيا وألمانيا وإسرائيل، وفرنسا التي دعت من دون تورية إلى ضرورة “إشراك السعودية وإسرائيل بشكل أو بآخر في العملية التفاوضية المنتظرة حول البرنامج النووي” الإيراني. وكان طبيعياً طبقاً لسلوك إيران المعتاد رفض ذلك، بل حتى مجرد إعادة التفاوض حول الاتفاق مجدداً. ويعتبر الكاتب الإيراني نوذر شفيعي أن طرح الغرب السعودية طرفاً جديداً في الاتفاق، لا يعدو كونه ورقة من أميركا لكسب المزيد من التنازلات. ورجح في مقالة نشرتها صحيفة “خبر أون لاين” الإيرانية أن الضغط بمشاركة الدول العربية في محادثات البرنامج النووي “قد لا تكون مهمة جداً بالنسبة للأميركيين، لكن من المهم من وجهة نظرهم أن يحصلوا على أي تنازلات من إيران. تحث الولايات المتحدة إيران على العودة إلى التزاماتها الكاملة أمام مجلس الأمن الدولي، الذي يدرك ذنبها في هذا الصدد، حيث انسحبت واشنطن أولاً من الاتفاق. لكن بمجرد أن يقدموا هذا الطلب إلى إيران ثم يظهرون صموداً تجاهه، يمكن أن يكون ذريعة للحصول على تنازلات من إيران. لهذا السبب نرى أن الأميركيين يتحركون في هذا الاتجاه الآن”. هل حانت نهاية المباراة؟ وفي ظل هذا الصراع على هذه الوتيرة من الشد والجذب، كتب باحثان سعودي وإيراني، أخيراً، مقالة في صحيفة “الغارديان” البريطانية، تناولتها الصحف الإيرانية باهتمام، دعت إلى توظيف وصول إدارة جديدة ينظر إليها بتفاؤل أكثر، في إيجاد صيغة مقبولة للتوافق بين الرياض وطهران، بما يضع حداً للصراع الدائر في المنطقة، نظير التضاد بينهما. وقال عبد العزيز الصقر، وحسين موسويان “حان الوقت للانتقال من “المواجهة” إلى “الحوار”. شهدت العلاقات الإيرانية السعودية خلال الأربع عشرة سنة الماضية تقلبات، بما في ذلك المواجهة والتنافس، وأحياناً التعاون، ولكننا وصلنا اليوم إلى نهاية اللعبة، وبينما تتبنى حكومتنا مواقف متعارضة في العديد من القضايا الإقليمية، فإن تحسين العلاقة ليس “محكوماً عليها بالفشل”. ويعتقدان أن الخطوة الأولى لتحسين الوضع هي أن يفهم كل طرف “شعور التهديد” من الطرف الآخر، سواء كان هذا التصور حقيقياً أم وهمياً. الخطوة التالية هي الاتفاق على “المبادئ الأساسية” التي نبني عليها مستقبل العلاقة”. وطرحا 12 مبدأ واقترحا الدخول في حوار مباشر حولها، أبرزها “تكوين علاقات على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة والمساواة في الموقف، والحفاظ على السيادة والسلامة الإقليمية، والاستقلال السياسي، وحرمة الحدود الدولية القائمة لجميع دول المنطقة واحترامها، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وإنكار هيمنة أي دولة في المنطقة، وضمان حرية الملاحة والتجارة الحرة للنفط والموارد الأخرى وحماية المنشآت الحيوية في المنطقة، حظر إنتاج وتوريد أسلحة الدمار الشامل”. تفجيرات الخبر حدثت في وقت تعتقد فيه السعودية أن علاقاتها بإيران في أفضل حالاتها (غيتي) لكن التقرير السنوي الاستراتيجي الصادر عن “رصانة”، أخيراً، لا يتفاءل بانتهاء الصراع نظراً لاستمرار دواعيه العام الحالي 2021، إذ “لا يتوقع انفراجاً ملحوظاً في العلاقات بين إيران ودول الخليج، ويترجح فشل أغلب محاولات الوساطة بين ضفتي الخليج العربي”. ويخلص إلى أنه أمام المسارات الإيرانية التي يتضح أنها ستؤثر بشكل أو بآخر على العالم العربي بشكل عام ودول الخليج بشكل خاص، بات لزاماً “الاستشعار الجماعي لتلك المخاطر، وأن تمتلك الإرادة السياسية لبلورة مقاربات سياسية وقدرات دفاعية مشتركة للحد من التحديات الإيرانية المتوقعة، إضافة إلى تكثيف التعاون والتنسيق مع الحلفاء الاستراتيجيين حول العالم”. تجربة لن تتكرر ما يجعل تجربة السلام مع طهران صعبة أكثر في الذاكرة السعودية ما لم تحدث معجزة، هو انتكاس المكاسب التي حافظ عليها البلدان باستماتة سنوات رئاسة رفسنجاني وخاتمي، لدرجة أن السعوديين أصبحوا يوظفون ثقلهم السياسي في تهدئة الضغوط الغربية ضد إيران كما في تفجيرات الخبر 1996م، التي كان لدى السعوديين والأميركيين أدلة دامغة على ضلوع إيران فيها، إلا أن الرياض فضلت غض الطرف والإبقاء على تنمية العلاقة الجديدة وحمايتها من الانهيار، وعندما أراد الأميركيون محاسبة الإيرانيين على مقتل مواطنيهم في العملية، أحيطت التحقيقات بسرية كاملة، فكان أقصى ما سمح لواشنطن هو حضور التحقيقات وليس المشاركة فيها. وتنفي إيران ضلوعها في تفجيرات الخبر التي استهدفت مجمعا سكنيا بالقرب من مقرات شركة النفط الوطنية (أرامكو) في الظهران وقاعدة الملك عبد العزيز الجوية. لكن في نهاية المطاف؛ تبين لاحقاً أن الإيرانيين حتى في ذلك الوقت لم يكونوا يبادلون الرياض النوايا نفسها، إلى الحد الذي فاقم أزمة الثقة بين الطرفين أكثر، وجعل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان يقول في حوار تلفزيوني “لُدغنا من إيران مرة، المرة الثانية لن نُلدغ. ونعرف أننا هدف رئيسي للنظام الإيراني. الوصول لقبلة المسلمين هدف رئيسي لإيران، ولن ننتظر حتى تصبح المعركة في السعودية، بل سنعمل لكي تكون المعركة عندهم في إيران وليس في السعودية”. ومع أن المحللين الغربيين يفسرون السجال الدائر بين السعودية وإيران بأنه “صراع على النفوذ”، يرون حله بجلوس الدولتين على الطاولة وتقاسمه بشكل يرضيهما معاً، فإن هذا الطرح يقدح في منطقيته ما سبقت الإشارة إليه من أن إيران هي الطرف المعتدي والمهدد للأمن القومي العربي وليس العكس، فما الذي يمكن أن تتقاسم السعودية نفوذه مع إيران؟ هل العراق أم البحرين والكويت وقطر وعمان أم سوريا ولبنان أم اليمن، أو حتى تنظيم المناسبات الدينية الإسلامية الكبرى مثل الحج وزيارة المدينة المنورة؟ هذا الأمر بالنسبة للسعوديين في أقل أحواله مكافأة غير واردة لإيران على التخريب والتهديد الذي تمارسه، كمثل مبدأ مفاوضة أبو نضال والقاعدة وداعش على الرهائن، والقول بأن الحل هو تحرير جزء والسماح بالإبقاء على الجزء الآخر تحت رحمة السيوف الإرهابية. وهذا ما أعرب عنه، أخيراً، صراحة مندوب السعودية الدائم لدى مجلس الأمن عبدالله المعلمي، فيما يتعلق بالشأن اليمني، إذ قال “دور إيران في اليمن تخريبي، فكيف يمكن الثقة بأنها يمكن أن تلعب دوراً إيجابياً في حل الأزمة؟”. النجف لا يزال المرجعية الأهم للشيعة في العالم (غيتي) أما بالنسبة لإيران، فإن مناطق النفوذ العربية المشار إليها، مثل الإسلامية في آسيا وأفريقيا، تحاجج بأنها ليست أقل من مختلف الأطراف الدولية المتسابقة نحو الاستحواذ على قرارها، فهي ترى نفسها مؤهلة لذلك وليست بدعاً من “أميركا، وفرنسا، وبريطانيا، وتركيا، وروسيا، والصين”. غير أن النفوذ الإيراني دائماً ما يكون تحت عباءات ذات أثمان باهظة مثل الطائفية والمذهبية وشعارات المقاومة ونصرة المستضعفين والثورة ضد الظلم، التي انتهت إلى “تفكيك الكتل المتجانسة”، وفق تعبير المفكر العراقي حسن العلوي، واستحالة العواصم التي تفاخر بالسيطرة عليها؛ أكواماً من الخراب والمعاناة لشعوبها، كما كشف أكثر وباء “كورونا” واحتجاجات السكان في كل من “وبيروت، ودمشق، وبغداد، وصنعاء”، بل حتى في طهران. ويرى الباحثون الاستراتيجيون الذين يحاولون تفسير الشقاق بين السعودية وإيران الذي طال أمده، أنه كأي صراع بين النماذج والأفكار والثقافات لا يقتصر على النظم الحاكمة، بالقدر الذي هو بين المبادئ وفلسفة إدارة الحكم والإقليم، مثل الشيوعية في مقابل الرأسمالية، والملكيات مع الجمهوريات في العهد الناصري، وكالغرب وروسيا أيام الحرب الباردة. ويذهب البعض أبعد، على غرار المفكر اللبناني رضوان السيد ممن يعتقدون أن السعودية ورثت الدورين التركي والمصري القديمين في الدفاع عن “العالم السني”، في البعدين القومي والمذهبي، أمام هيمنة الدولة الإيرانية في بعديها القومي (الفارسي) والمذهبي أيضاً. سحب بساط التشيع من إيران ولهذا يطرح باحثون مثل عباس كاظم وعبدالله فيصل آل ربح إمكان إعادة الاعتبار للتشيع العربي، من خلال استقطاب مرجعية النجف للدائرة العربية، وتوطين مرجعيات محلية في الخليج، وذلك انطلاقاً من الخلاف الدائر بين قم والنجف على مستويات بينها ما هو عميق الجذور، وكون الشيعة مكوناً عربياً في الأصل. كل ذلك من أجل تحقيق نتيجة جوهرية واستراتيجية هي سحب بساط “التشيع” أو ذخيرة المذهب الجعفري من بندقية النظام في طهران، التي يقاتل بها العرب، ويشتت شملهم شيعة وسنة، مسلمين ومسيحيين ويهوداً. ويذهب المنظرون لهذه الفكرة، إلى أن الدور المنوط بالسعودية خصوصاً والخليج عموماً في هذا السياق، بات مسؤولية لا مناص من النهوض بها، بوصف السعودية مهد العروبة والإسلام الأول، لقيام سلطانها على معظم شبه الجزيرة العربية، والحرمين الشريفين في مكة والمدينة، وهي المفخرة التي لا تخفي إيران منازعة العرب إياها، كما نازعتهم تركيا عليها من قبل، وإن كانت أهون نظير التقارب المذهبي. ومع أن الخلاف السعودي الإيراني، بهذا المستوى من التعقيد والتجذر، إلا أنه كما وجدت الصين واليابان، وكذلك روسيا والغرب طرقاً لصياغة خلافاتهما، في سياق أمكن معه إدارة الصراع بالحد الأدنى من المواجهات العسكرية، يحسب للرياض وطهران أنهما يحاولان القيام بالأمر نفسه، من خلال إدارة الصراع وتخفيف دواعيه تارة، وتحقيق “توازن الردع” تارة أخرى، حين صار حتى شبه المستحيل طي صفحة الصراع إلى ما لا نهاية. المزيد عن: السعودية/إيران/العراق/البحرين/لبنان/سورية/الخليج العربي 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post جهاد الزين: لبنان في ذكرى 42 عاما من العلاقة مع إيران next post “قائمة وطنية موسعة” لـ “تغيير النظام السياسي الفلسطيني” You may also like أحوال وتحولات جنوب لبنان ما بعد الهدنة مع... 24 نوفمبر، 2024 غسان شربل يكتب عن: صهر صدام حسين وسكرتيره... 24 نوفمبر، 2024 كارين هاوس: مساعدو صدام حسين خافوا من أن... 23 نوفمبر، 2024 حافظ الأسد كان قلقا من أن تلقى سوريا... 21 نوفمبر، 2024 غسان شربل يكتب عن: بن لادن استقبل مبعوث... 21 نوفمبر، 2024 من مول استهداف ملحق سفارة أميركا لدى بيروت... 17 نوفمبر، 2024 مرافق سفير بريطانيا لدى لبنان أنقذ الأميركيين من... 15 نوفمبر، 2024 بغداد: قصة مدينة عربية بُنيت لتكون عاصمة إمبراطورية... 15 نوفمبر، 2024 “إسرائيل الكبرى”… حلم صيف يميني أم مشروع حقيقي؟ 12 نوفمبر، 2024 الشرق الأوسط الكبير حلم أم كابوس؟ 7 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.
على الرغم من طول الخلاف بين السعودية وإيران، فإن قلة بين المهتمين يتفقون على الأسباب الحقيقية لذلك البون الذي وصل إلى الصدام مرات عدة، وكان على شفا مواجهة مفتوحة في مراحل تاريخية مختلفة. فبالنسبة للسعوديين، لا يرون دولة طبيعية يمكن التفاهم معها بعد أن استنفدوا كل المحاولات. بينما ترى إيران أن ما تسميه “التبعية السعودية” للغرب تجعل التلاقي معها عصياً. أما العرب بتياراتهم المختلفة وكذلك الإيرانيون، فلا يكاد عدد كبير منهم يتفق على سبب واحد من أسباب قيام ما يمكن تسميته الصراع المستمر في المجمل بين البلدين. القوميون يرون السجال بين العرب والفرس كان وسيبقى إلى الأبد لا محالة. والإسلاميون يؤمنون بأن الشقاق والتدافع بين دول المسلمين السنية والشيعية، قدر لا مفر منه. وبالتالي صارت عوامل الصراع على النفوذ بينهما قابلة للتوالد جيلاً بعد آخر. إلى غير ذلك من الثنائيات التي تصاغ أحياناً على شكل تساؤلات. لكن بتلمس خيوط العلاقة الأولى، والخلاف ومحطاته ومبرراته الرئيسة، نجد أن الحكاية أكثر تعقيداً. فالسعودية الحديثة وقعت معاهدة مبكرة مع إيران الشاه في 1929م، لكن تلك المعاهدة ما لبثت أن تكدرت بتصريحات الشاه ضد الأراضي العربية القريبة منه، إن كان نحو دولة البحرين، التي طالب بها آنذاك، أو الجزر الإماراتية التي يحتلها منذ أن خرج البريطانيون منها في 1971م مما استدعى موقفاً سعودياً رافضاً، تطور عندما بادرت الرياض لرسم حدودها مع البحرين 1958م، تأكيداً للاعتراف بها كدولة مستقلة، عززتها بجنود من حرسها الوطني تحسباً لأي عدوان إيراني، قبل أن يعيد التاريخ نفسه في 2011 وتقوم قوات “درع الجزيرة” بقيادة السعودية بمهمة مماثلة، أحبطت حراكا كان يعتقد أنه يستهدف الإطاحة بالنظام الحاكم، بدعم إعلامي إيراني، على غرار ما وقع في كل من “تونس، وليبيا، ومصر”. عيسى بن خليفة أول أمير لدولة البحرين بعد الاستقلال (غيتي) وهكذا وجدت السعودية نفسها منذ بواكير نشأتها، في خلاف لا بد منه مع طهران، كان في الغالب من أجل أمتها العربية، وأحياناً الإسلامية (السنة)، فما كاد الخليجيون يلتفتون لملف الجزر الإماراتية الاستراتيجية نظير السيطرة التي تسهلها على مضيق “هرمز”، حتى أطاحت الثورة الإسلامية بقيادة روح الله الخميني نظام الشاه الملكي، وسط توجس خليجي لم يمنع الرياض من الترحيب بالحكام الجدد، فليست العلاقة بالنظام في أحسن حالاته على الرغم من إمكان التفاهم معه، بفضل القواسم المشتركة بين الجانبين في شكل الكيان السياسي (ملكي) والحلفاء ومنطق الدولة الذي يحتكمان إليه، وإن لم تخلُ طهران قط من ما يصفه خصومها بالنفس الاستعلائي والشرطي نحو الخليج. وتصف دراسة إيرانية عن جامعة أصفهان أعدها ثلاثة باحثين هم “صادق شافعي، وأصغر منتظر، ومحمد علي جلونكر” تلك العلاقة على توترها، بأنها أحد عوامل الشك المتجذرة في نظرة حكام طهران الجدد إلى جيرانهم في الضفة الأخرى من الخليج، إذ تقول “إن انتصار الثورة الإسلامية لم يقلل فقط من أهمية العلاقات بين البلدين (التي كانت سائدة)، بل أضفى على العلاقة بينهما حساسية خاصة وتعقيداً غير عادي. بخاصة في العقد الأول من الثورة، عندما خرجت العلاقات بين البلدين عن طبيعتها وأصبحت قاتمة”. إلا أن تلك النظرة لم تمنع الخليجيين من الترحيب بنظام الخميني، لاعتبارات عدة مثل، العلاقة المتوترة المشار إليها مع نظام الشاه، وأيضاً انشغال الإقليم حينها بالحرب الباردة ومواجهة الشيوعية التي يعتقد الخليجيون أن المحافظين سيكونون أقل تسامحاً معها، إلى جانب أن الدول الخليجية في ذلك الوقت تتجه إلى المحافظة الاجتماعية والدينية. مما أعطى بصيص أمل بأن تلك نقاط يمكن البناء عليها لحسن الجوار مع إيران ولو بعد حين، فمن يرفع شعار الإسلام والثورة على الظلم ينبغي أن يكف عن أذى الجار ويتسم ببعض التواضع. أقنعة تصدير الثورة ولهذا في سنوات الحوار مع الإيرانيين، كان البناء على هذه الجزئية كافياً لإحداث بعض التقارب، الذي قوبل بحسن نية سعودية قبل أن يتبين أنه مرحلة لا أكثر من مراحل “الصبر الاستراتيجي” الإيرانية، أو “المكر الفارسي” كما يحلو لبعض العرب وصفه، وفقاً للباحث أشرف كشك الذي كشف في دراسة له حول قضايا الصراع والمواجهة بين دول الخليج وإيران، كيف أن الإيرانيين تعاطوا مع الخليج بمستويات مختلفة، وفق ما يتطلبه الظرف في طهران، فمنشأ الصراع الأول بين الجانبين الذي هو “تصدير الثورة”، لم يتوقف قط. وقال، إنما الذي اختلف الأساليب باختلاف المراحل التاريخية، ففي مرحلة كانت “محاولة اغتيال أمير الكويت في الثمانينيات من جانب أحد أعضاء حزب الدعوة العراقي المدعوم من إيران أحد مظاهر تصدير تلك الثورة، بينما في مرحلة تالية رأى الرئيس الإيراني هاشمي رفسنجاني أن تصدير الثورة لن يكون بغير القوة”. منذ وصول الخميني إلى السلطة تفاقم التوتر بين إيران وجيرانها العرب (غيتي) أما في عهد الرئيس محمد خاتمي، فرأى كشك أن هدف تصدير الثورة قد “غلف بمفاهيم مثل الحوار وحسن الجوار، وفي عهد الرئيس السابق أحمدي نجاد بدت إيران حامية للمستضعفين في الأرض، وفي أعقاب تولي روحاني السلطة أضحى التدخل الإيراني في شؤون دول الجوار (العراق، اليمن، سوريا، لبنان، البحرين) معلناً، كما قبض على العديد من خلايا التجسس التابعة لحزب الله وإيران في بعض دول الخليج”. مع هذا ترفض إيران اتهامها في التدخل في البلدان العربية المختلفة ففي سوريا تقول إن حضور عناصرها لتقديم استشارات عسكرية لنظام الأسد وفي اليمن تنفي تزويد ميليشيات الحوثيين بالسلاح والعتاد الحربي. ومع ارتفاع الأصوات المعارضة للميليشيات المدعومة من إيران في العراق تؤكد طهران أن هذه المجموعات عراقية وتعمل باستقلالية لكنها تقدم لها الدعم كلما طُلب منها. وعوداً إلى تسلسل الأحداث؛ فإن نظام الخميني لم يترك الخليجيين في حيرة طويلة، فما هي إلا أشهر، حتى قطعت جهيزة حرب العراق قول كل خطيب، ووجد الخليجيون، وخصوصاً السعودية، أنفسهم في موقف لا يسعهم تجاهله، فمهما يكن من الخلاف مع صدام لا يمكن أن يدفع إلى تركه من دون مساندة أمام عدو تاريخي، يناصب العرب العداوة سراً وجهراً، فكان موقف الرياض والعرب المشهود في إلحاق خسائر فادحة بالنظام الإيراني، سيؤتي أكله ويحدث التوازن الضروري بين القوميتين، لولا أن صدام لم يمهلهم كثيراً ليصادق على أنه ليس أهلاً للثقة التي وضعوها فيه كـ”حارس لبوابة العرب الشرقية”، بحسب ما قدم نفسه، ورأى العرب العراق منذ قرون. انقلب حاكم بغداد على من كانوا بالأمس قوته، وصار يغزوهم ببعض العتاد الذي دفعوا ثمنه، بحسب ما يوثق الفاعلون السياسيون في ذلك الحين، أمثال الأمير بندر بن سلطان، في حواره مع الزميل عضوان الأحمري، في هذه الصحيفة، ومن قبله الوزير السعودي الراحل غازي القصيبي، الذي كشف كثيراً مما كان مسكوتاً عنه في حقبة دعم صدام، عندما استغل ذلك في احتلال الكويت 1990م، وبعدها تقدم نحو السعودية التي وقفت له بالمرصاد، كما وقفت معه في حرب إيران من دون مواربة. نزعة الانتقام بعد حرب صدام كانت تلك الحرب (العراقية الإيرانية) التي صنفت بين أطول النزاعات العسكرية في التاريخ الحديث، “القشة” التي لم يستطع الإيرانيون نسيانها، حتى بعد أن أصبح صدام عدواً مشتركاً لها وللخليج، لدرجة جعلت من السياسة الخارجية الإيرانية فيما بعد تبنى على موقف جيرانها من تلك الحرب، وفقاً للدراسات السياسية وتصريحات مسؤوليها، فعلى تلك القاعدة على سبيل المثال بُني الحلف الوثيق بين سورية وإيران الذي نراه اليوم؛ لأن دمشق لم تسند موقف بغداد في تلك الحرب، ليس بالضرورة حباً في إيران ولكن للعلاقة المشهورة بين البعثيين في العراق وسورية، ناهيك عن بقية العوامل الغارقة في القدم بين بغداد ودمشق أيام الخلافة العباسية والأموية. كذلك الأمر بالنسبة إلى سلطنة عمان التي تؤكد الباحثة فيها مريم البلوشي أن العلاقات بين بلادها وطهران “استمرت حتى في أوج الحرب الإيرانية – العراقية، التي كانت الأنظمة الخليجية طرفاً فيها عبر التسليح المباشر للجيش العراقي، ليس هذا فحسب، إنما احتضنت مسقط في تلك الحرب محادثات سرية بين الطرفين المتنازعين لوقف إطلاق النار، ورفضت الدعوة إلى مقاطعة إيران وعزلها دبلوماسياً واقتصادياً”. وفي هذا الصدد يؤكد الكاتب المخضرم في “اندبندنت” باتريك كوبيرن، “أن النفور من فظائع حرب الخليج الأولى ليس المبرر الوحيد لفقدان العالم ذاكرته في شأن مآل تلك الحرب، بل يكمن السبب في أن قلة من المشاركين في الحرب نالوا مبتغاهم منها، وإن فعلوا، فبفضل صدفة تاريخية لا يد لهم فيها”، مؤكداً أن الأهم من ذلك هو أن قلة تدرك أن حرب إيران والعراق “كانت فاتحة سلسلة من النزاعات مدارها العراق والخليج، ورسمت معالم السياسة في عالمنا الحديث”. بل إن مخلفات تلك الحرب والموقف العربي منها الصارخ في دعم صدام؛ أبقيا عند الإيرانيين نزعة “الانتقام” ليس فقط من العراقيين ولكن أيضاً من مؤيديهم الذين يفاخرون بأنهم أذلوا العنجهية الفارسية في أشخاص حكومة الخميني. ولذلك “ترى أكثرية العرب والمسلمين إعدام الرئيس العراقي السابق على أنه استفزاز طائفي موجه ضد السنة”، بحسب السياسي الأردني أيمن الصفدي في مقالة كتبها في صحيفة “الغد” الأردنية قبل بضع سنين، وهو الذي أصبح الآن وزير الخارجية في عمان. وكان خلص ذلك الحين إلى أن مشهد الإعدام “كان لحظة انتقام لا لحظة عدالة. العدالة تبني الأوطان. الانتقامية تدمرها”. الحرب العراقية – الإيرانية شكلت تحولاً أثر فيما بعدها في أحداث المنطقة (غيتي) وفي حوار أجراه كاتب هذه السطور مع كبير مساعدي وزير الخارجية الإيراني علي أصغر خاجي يوم كان سفيراً لبلاده في الرياض 2001 دار النقاش حول مدى صدقية طهران في رغبتها إنهاء الخلاف مع جيرانها الخليجيين بالكلية، وهي ترفض التفاوض بشأن الجزر الإماراتية التي تحتلها، وكانت القضية في ذلك الوقت ذات حساسية، فما إن سمع كلمة “الاحتلال”، حتى استشاط غضباً وخرج عن وقاره الدبلوماسي، وقال في صراحة نادرة “الجزر في الخليج الفارسي جزر إيرانية والدعاوى بأنها إماراتية من صنع الغرب، ثم ماذا علينا أن نقول نحن في إيران الذين وجدنا أنفسنا في غفلة نواجه حرباً من كل دول الخليج، لأننا واجهنا استكبار صدام الذي يعرف الجميع صلفه وغطرسته، إننا لن ننسى أبداً ذلك الموقف”. ومع أن قول خاجي السابق كان منسجماً مع ماضي إيران في عهديها الملكي والجمهوري حتى اليوم، لدرجة ينظرون فيها للبحرين وأجزاء من الكويت النظرة نفسها، إلا أن القوانين الدولية لا تزال تقر بأن “جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى إماراتية”، غير أن إيران كانت صريحة حتى مع المستعمر البريطاني برفضها أي تفاوض بشأنها مع ملاكها الأصليين. الجزر القابلة للاشتعال وتقول وثائق بريطانية حول الجزر أفرج عنها حديثاً، وفقاً لـ”بي بي سي”، إن ما حدث، فعلياً، هو أن “الجيش الإيراني سيطر بالقوة على جزيرتي طنب الكبرى وطنب الصغرى، التابعتين لإمارة رأس الخيمة، في 30 نوفمبر(تشرين ثاني) عام 1971، قبل يوم واحد من إعلان بريطانيا رسمياً انتهاء حمايتها للإمارات الخليجية، وبعد خمسة أيام من إعلان قيام اتحاد الإمارات العربية”، أما إمارة الشارقة، فوقعت مع نظام الشاه اتفاقية لتقاسم السيطرة على جزيرة أبو موسى التي عادت إيران، في ظل نظام الثورة الإسلامية التي أطاحت بالشاه عام 1979، وسيطرت عليها بالكامل، بل وأقامت عليها منشآت عسكرية عام 1992م. ومع تصاعد الخلاف مع طهران في ملفات أخرى أدت إلى تراجع الجدل حول الجزر، إلا أن تأكيد مجلس التعاون في بياناته على موقفه الموحد من احتلالها حتى في “بيان العلا”، أخيراً، يدل على أن هذا الشق من أسباب التوتر لا يزال قابلاً للاشتعال في أي وقت، خصوصاً بعد استخدام إيران لها في تهديد الملاحة الدولية وإحكام قبضتها على إمدادات الطاقة العالمية، في وقت لم تعد فيه دول الخليج والإمارات مالكة الجزر كما كانت قوة وحلفاء، يوم أن تمت مصادرة الجزر. تنظر إيران لاتحاد دول الخليج العربية بقلق (غيتي) وهذا يقودنا إلى المحور التالي في أسباب التوتر بين إيران والسعودية؛ هو “الأمن العربي الإقليمي”، ففي دراسة الباحثين الإيرانيين من جامعة أصفهان يقرون بأن إطلاق دول الخليج تكتلاً جامعاً، حمل اسم “مجلس التعاون لدول الخليج العربية” في 1981م استقبلته إيران بقلق بالغ، فمن منظور إيراني أن السعودية شكلت المجلس “بتشجيع من الولايات المتحدة، في وقت كان فيه خصماها الرئيسيان، إيران والعراق، في حالة حرب، بحيث يزيد أعضاء المجلس تدريجياً من وزنهم الجيوسياسي في مواجهة القوة الإقليمية لإيران. بخاصة وأن الولايات المتحدة دعمتهم أيضاً سياسياً وعسكرياً”. لماذا “مجلس التعاون” مستفز؟ ووفق هذا التصور الإيراني، فإن “تشكيل مجلس التعاون الخليجي بمثابة سياسة اقترحها الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة، بناءً على السياقات القائمة في المنطقة وتزايد القلق على حكام المنطقة فيما يتعلق بالثورة الإسلامية والعدوان السوفياتي. غيرت الولايات المتحدة سياستها الودية إلى استراتيجية دعم دول الخليج الفارسي (العربي)، وانتهت هذه العملية لصالح السعودية؛ لأن انتصارات إيران في الحرب وما ترتب عليها من زيادة في ثقتها بنفسها وانتقاد دول الخليج العربي لمساعدتها للعراق قد جعل المشيخات العربية تخشى إيران (…) في وقت أدرك قادة الخليج أن إيران يمكن أن تستخدم الحرب كأداة لتقوية الثورة”. لكن الباحث كشك، لفت في دراسته التي سبقت الإشارة إليها إلى المبعث الحقيقي لتوجس إيران من أي وحدة خليجية، فهي على صعيد القوة العسكرية، تخشى أن يصل المجلس مع الوقت إلى إنهاء الخلل القائم في توازن القوى بين دول الخليج وإيران، وفقاً للأدبيات العسكرية، “فطبقاً للتقرير السنوي للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية 2015، فإن القوات العسكرية العاملة لدول الخليج مجتمعة بلغت 368.100 جندي، في مقابل 475 ألفاً، هي إجمالي عدد القوات المسلحة الإيرانية العاملة”، مع الإشارة إلى تفوق بعض دول الخليج على إيران في بعض أنواع الأسلحة. وعلى الرغم من الفجوة الراهنة في عدد الجنود، فإن تغطية ذلك بالتحالفات والتقنيات العسكرية الحديثة يجعل مجلس التعاون محل قلق طهراني دائم، وهذا ما يفسر حماسة الإيرانيين للتعامل مع الخليجيين كدول متفرقة وليس ككتلة واحدة متجانسة، واستثمارها في أي خلاف داخلي ينشأ كما نشأ منذ القدم مع مسقط، وأخيراً، مع الدوحة. ومع أن دراسة مجلة البحوث التاريخية الصادرة عن جامعة أصفهان أشارت إلى أسباب أخرى اعتبرتها تفسر التوتر المتجدد بين الرياض وطهران مثل “دعم الليبراليين الإيرانيين، وخلافات أوبك، واحتواء الثورة، ومواجهات الحج، وفلسطين”، إلا أن جميع تلك الأسباب عند درس أبعادها القومية والاستراتيجية؛ نجد أن مراميها في نهاية المطاف بالنسبة لطهران هي محاولة فرض هيمنتها ونفوذها بالقوة على المنطقة العربية والإسلامية من العراق حتى المغرب، بينما تحاول الرياض إعاقة تلك المحاولات بما أمكنها من أدوات دبلوماسية وسياسية، وأحياناً مواجهة عسكرية، كما حدث في حرب “الناقلات”، واستهداف الحجاج في مكة المكرمة 1987، ومواجهة من يوصفون بوكلاء إيران في اليمن منذ 2014م. وفي تقدير رئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية محمد السلمي، أن التحرك الإيراني في هذا الصدد، يؤكد حاجة “منظومة دول الخليج العربي التي تقود حالياً الدول العربية عسكرياً واقتصادياً وسياسياً إلى صياغة مشروع عربي تلتف حوله الأمة العربية لمواجهة التحديات الجيوسياسية، وتتصدى لمشاريع طهران، التي تسعى إلى ابتلاع المنطقة العربية، وإن كان بدرجات متفاوتة ومتباينة”. الأيديولوجيا التصادمية يأتي ذلك في وقت يرى الباحثون الإيرانيون أنفسهم أن الرياض “بشكل عام، كانت سياستها تجاه الثورة الإسلامية هي احتواء هذه الثورة وآثارها الإقليمية من جهة، واعتماد استراتيجية المصالحة مع إيران من جهة أخرى. بعبارة أخرى، شكل مزيجاً من ضبط النفس واستراتيجيات التسوية نمط سلوك السياسة الخارجية السعودية تجاه إيران الثورية. بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وقع حدثان مهمان في المملكة العربية السعودية جعلا السعوديين أكثر خوفاً من الثورة الإسلامية. وهذان الحدثان هما: انتفاضة العتيبي، وانتفاضة الشيعة في السعودية، وبداية العلاقات المتوترة”. وأقروا بأن “الأيديولوجية الإسلامية الشيعية هي التي وفرت أرضية لسياسة خارجية تصادمية، سرعان ما دخلت في صراع مع الأيديولوجية السنية التي تقودها المملكة العربية السعودية. بطريقة ما، شككت الأيديولوجيتان في شرعية بعضهما البعض”. لكن طموح فرض الأيديولوجيا الجديدة على دول عربية في الأصل ذات أغلبية سنية، اتخذ أساليب مختلفة هي الأخرى، تجاوزت تصدير الثورة هذه المرة إلى الترسانة الصاروخية، والسباق النووي. وجد هذا المنحى مجدداً مقاومة من تيار الاعتدال العربي الذي تقوده الرياض، فمع أن الاتفاق النووي “دبر بليل” كما يقول المثل العربي، وشكل تناقضاً غربياً صارخاً وطعنة في الظهر في نظر العديد من المحللين الغربيين، فإن الرياض استطاعت أن تقوم بعرقلته، وقادت حملة ضغط دولية ضده، حتى اقتنع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بالخروج من الاتفاق، كما تعرضت طهران لعقوبات أميركية هي الأشد في تاريخها، مما جعل عام 2020 وفقاً لتقرير المعهد الدولي للدراسات الإيرانية “عام ذروة الصراع بين استراتيجية “الضغوط القصوى” الأميركية وسياسة “الصبر الاستراتيجي” الإيرانية”. وحتى بعد مجيء الرئيس الديمقراطي جو بايدن، فإن المعادلة في نظر العديد من المحللين ليست في صالح إيران بالكلية على الرغم من إعلان بايدن رغبته في العودة إلى الاتفاق النووي، إنما ليس بأي ثمن، وأعلنت إدارته أن البيت الأبيض سيشرك حلفاءه في أي اتفاق جديد. البرنامج النووي والصاروخي في إيران أثارا قلقاً دولياً (غيتي) وفي هذا السياق تضغط دول عدة مؤثرة في القرار الأميركي مثل بريطانيا وألمانيا وإسرائيل، وفرنسا التي دعت من دون تورية إلى ضرورة “إشراك السعودية وإسرائيل بشكل أو بآخر في العملية التفاوضية المنتظرة حول البرنامج النووي” الإيراني. وكان طبيعياً طبقاً لسلوك إيران المعتاد رفض ذلك، بل حتى مجرد إعادة التفاوض حول الاتفاق مجدداً. ويعتبر الكاتب الإيراني نوذر شفيعي أن طرح الغرب السعودية طرفاً جديداً في الاتفاق، لا يعدو كونه ورقة من أميركا لكسب المزيد من التنازلات. ورجح في مقالة نشرتها صحيفة “خبر أون لاين” الإيرانية أن الضغط بمشاركة الدول العربية في محادثات البرنامج النووي “قد لا تكون مهمة جداً بالنسبة للأميركيين، لكن من المهم من وجهة نظرهم أن يحصلوا على أي تنازلات من إيران. تحث الولايات المتحدة إيران على العودة إلى التزاماتها الكاملة أمام مجلس الأمن الدولي، الذي يدرك ذنبها في هذا الصدد، حيث انسحبت واشنطن أولاً من الاتفاق. لكن بمجرد أن يقدموا هذا الطلب إلى إيران ثم يظهرون صموداً تجاهه، يمكن أن يكون ذريعة للحصول على تنازلات من إيران. لهذا السبب نرى أن الأميركيين يتحركون في هذا الاتجاه الآن”. هل حانت نهاية المباراة؟ وفي ظل هذا الصراع على هذه الوتيرة من الشد والجذب، كتب باحثان سعودي وإيراني، أخيراً، مقالة في صحيفة “الغارديان” البريطانية، تناولتها الصحف الإيرانية باهتمام، دعت إلى توظيف وصول إدارة جديدة ينظر إليها بتفاؤل أكثر، في إيجاد صيغة مقبولة للتوافق بين الرياض وطهران، بما يضع حداً للصراع الدائر في المنطقة، نظير التضاد بينهما. وقال عبد العزيز الصقر، وحسين موسويان “حان الوقت للانتقال من “المواجهة” إلى “الحوار”. شهدت العلاقات الإيرانية السعودية خلال الأربع عشرة سنة الماضية تقلبات، بما في ذلك المواجهة والتنافس، وأحياناً التعاون، ولكننا وصلنا اليوم إلى نهاية اللعبة، وبينما تتبنى حكومتنا مواقف متعارضة في العديد من القضايا الإقليمية، فإن تحسين العلاقة ليس “محكوماً عليها بالفشل”. ويعتقدان أن الخطوة الأولى لتحسين الوضع هي أن يفهم كل طرف “شعور التهديد” من الطرف الآخر، سواء كان هذا التصور حقيقياً أم وهمياً. الخطوة التالية هي الاتفاق على “المبادئ الأساسية” التي نبني عليها مستقبل العلاقة”. وطرحا 12 مبدأ واقترحا الدخول في حوار مباشر حولها، أبرزها “تكوين علاقات على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة والمساواة في الموقف، والحفاظ على السيادة والسلامة الإقليمية، والاستقلال السياسي، وحرمة الحدود الدولية القائمة لجميع دول المنطقة واحترامها، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وإنكار هيمنة أي دولة في المنطقة، وضمان حرية الملاحة والتجارة الحرة للنفط والموارد الأخرى وحماية المنشآت الحيوية في المنطقة، حظر إنتاج وتوريد أسلحة الدمار الشامل”. تفجيرات الخبر حدثت في وقت تعتقد فيه السعودية أن علاقاتها بإيران في أفضل حالاتها (غيتي) لكن التقرير السنوي الاستراتيجي الصادر عن “رصانة”، أخيراً، لا يتفاءل بانتهاء الصراع نظراً لاستمرار دواعيه العام الحالي 2021، إذ “لا يتوقع انفراجاً ملحوظاً في العلاقات بين إيران ودول الخليج، ويترجح فشل أغلب محاولات الوساطة بين ضفتي الخليج العربي”. ويخلص إلى أنه أمام المسارات الإيرانية التي يتضح أنها ستؤثر بشكل أو بآخر على العالم العربي بشكل عام ودول الخليج بشكل خاص، بات لزاماً “الاستشعار الجماعي لتلك المخاطر، وأن تمتلك الإرادة السياسية لبلورة مقاربات سياسية وقدرات دفاعية مشتركة للحد من التحديات الإيرانية المتوقعة، إضافة إلى تكثيف التعاون والتنسيق مع الحلفاء الاستراتيجيين حول العالم”. تجربة لن تتكرر ما يجعل تجربة السلام مع طهران صعبة أكثر في الذاكرة السعودية ما لم تحدث معجزة، هو انتكاس المكاسب التي حافظ عليها البلدان باستماتة سنوات رئاسة رفسنجاني وخاتمي، لدرجة أن السعوديين أصبحوا يوظفون ثقلهم السياسي في تهدئة الضغوط الغربية ضد إيران كما في تفجيرات الخبر 1996م، التي كان لدى السعوديين والأميركيين أدلة دامغة على ضلوع إيران فيها، إلا أن الرياض فضلت غض الطرف والإبقاء على تنمية العلاقة الجديدة وحمايتها من الانهيار، وعندما أراد الأميركيون محاسبة الإيرانيين على مقتل مواطنيهم في العملية، أحيطت التحقيقات بسرية كاملة، فكان أقصى ما سمح لواشنطن هو حضور التحقيقات وليس المشاركة فيها. وتنفي إيران ضلوعها في تفجيرات الخبر التي استهدفت مجمعا سكنيا بالقرب من مقرات شركة النفط الوطنية (أرامكو) في الظهران وقاعدة الملك عبد العزيز الجوية. لكن في نهاية المطاف؛ تبين لاحقاً أن الإيرانيين حتى في ذلك الوقت لم يكونوا يبادلون الرياض النوايا نفسها، إلى الحد الذي فاقم أزمة الثقة بين الطرفين أكثر، وجعل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان يقول في حوار تلفزيوني “لُدغنا من إيران مرة، المرة الثانية لن نُلدغ. ونعرف أننا هدف رئيسي للنظام الإيراني. الوصول لقبلة المسلمين هدف رئيسي لإيران، ولن ننتظر حتى تصبح المعركة في السعودية، بل سنعمل لكي تكون المعركة عندهم في إيران وليس في السعودية”. ومع أن المحللين الغربيين يفسرون السجال الدائر بين السعودية وإيران بأنه “صراع على النفوذ”، يرون حله بجلوس الدولتين على الطاولة وتقاسمه بشكل يرضيهما معاً، فإن هذا الطرح يقدح في منطقيته ما سبقت الإشارة إليه من أن إيران هي الطرف المعتدي والمهدد للأمن القومي العربي وليس العكس، فما الذي يمكن أن تتقاسم السعودية نفوذه مع إيران؟ هل العراق أم البحرين والكويت وقطر وعمان أم سوريا ولبنان أم اليمن، أو حتى تنظيم المناسبات الدينية الإسلامية الكبرى مثل الحج وزيارة المدينة المنورة؟ هذا الأمر بالنسبة للسعوديين في أقل أحواله مكافأة غير واردة لإيران على التخريب والتهديد الذي تمارسه، كمثل مبدأ مفاوضة أبو نضال والقاعدة وداعش على الرهائن، والقول بأن الحل هو تحرير جزء والسماح بالإبقاء على الجزء الآخر تحت رحمة السيوف الإرهابية. وهذا ما أعرب عنه، أخيراً، صراحة مندوب السعودية الدائم لدى مجلس الأمن عبدالله المعلمي، فيما يتعلق بالشأن اليمني، إذ قال “دور إيران في اليمن تخريبي، فكيف يمكن الثقة بأنها يمكن أن تلعب دوراً إيجابياً في حل الأزمة؟”. النجف لا يزال المرجعية الأهم للشيعة في العالم (غيتي) أما بالنسبة لإيران، فإن مناطق النفوذ العربية المشار إليها، مثل الإسلامية في آسيا وأفريقيا، تحاجج بأنها ليست أقل من مختلف الأطراف الدولية المتسابقة نحو الاستحواذ على قرارها، فهي ترى نفسها مؤهلة لذلك وليست بدعاً من “أميركا، وفرنسا، وبريطانيا، وتركيا، وروسيا، والصين”. غير أن النفوذ الإيراني دائماً ما يكون تحت عباءات ذات أثمان باهظة مثل الطائفية والمذهبية وشعارات المقاومة ونصرة المستضعفين والثورة ضد الظلم، التي انتهت إلى “تفكيك الكتل المتجانسة”، وفق تعبير المفكر العراقي حسن العلوي، واستحالة العواصم التي تفاخر بالسيطرة عليها؛ أكواماً من الخراب والمعاناة لشعوبها، كما كشف أكثر وباء “كورونا” واحتجاجات السكان في كل من “وبيروت، ودمشق، وبغداد، وصنعاء”، بل حتى في طهران. ويرى الباحثون الاستراتيجيون الذين يحاولون تفسير الشقاق بين السعودية وإيران الذي طال أمده، أنه كأي صراع بين النماذج والأفكار والثقافات لا يقتصر على النظم الحاكمة، بالقدر الذي هو بين المبادئ وفلسفة إدارة الحكم والإقليم، مثل الشيوعية في مقابل الرأسمالية، والملكيات مع الجمهوريات في العهد الناصري، وكالغرب وروسيا أيام الحرب الباردة. ويذهب البعض أبعد، على غرار المفكر اللبناني رضوان السيد ممن يعتقدون أن السعودية ورثت الدورين التركي والمصري القديمين في الدفاع عن “العالم السني”، في البعدين القومي والمذهبي، أمام هيمنة الدولة الإيرانية في بعديها القومي (الفارسي) والمذهبي أيضاً. سحب بساط التشيع من إيران ولهذا يطرح باحثون مثل عباس كاظم وعبدالله فيصل آل ربح إمكان إعادة الاعتبار للتشيع العربي، من خلال استقطاب مرجعية النجف للدائرة العربية، وتوطين مرجعيات محلية في الخليج، وذلك انطلاقاً من الخلاف الدائر بين قم والنجف على مستويات بينها ما هو عميق الجذور، وكون الشيعة مكوناً عربياً في الأصل. كل ذلك من أجل تحقيق نتيجة جوهرية واستراتيجية هي سحب بساط “التشيع” أو ذخيرة المذهب الجعفري من بندقية النظام في طهران، التي يقاتل بها العرب، ويشتت شملهم شيعة وسنة، مسلمين ومسيحيين ويهوداً. ويذهب المنظرون لهذه الفكرة، إلى أن الدور المنوط بالسعودية خصوصاً والخليج عموماً في هذا السياق، بات مسؤولية لا مناص من النهوض بها، بوصف السعودية مهد العروبة والإسلام الأول، لقيام سلطانها على معظم شبه الجزيرة العربية، والحرمين الشريفين في مكة والمدينة، وهي المفخرة التي لا تخفي إيران منازعة العرب إياها، كما نازعتهم تركيا عليها من قبل، وإن كانت أهون نظير التقارب المذهبي. ومع أن الخلاف السعودي الإيراني، بهذا المستوى من التعقيد والتجذر، إلا أنه كما وجدت الصين واليابان، وكذلك روسيا والغرب طرقاً لصياغة خلافاتهما، في سياق أمكن معه إدارة الصراع بالحد الأدنى من المواجهات العسكرية، يحسب للرياض وطهران أنهما يحاولان القيام بالأمر نفسه، من خلال إدارة الصراع وتخفيف دواعيه تارة، وتحقيق “توازن الردع” تارة أخرى، حين صار حتى شبه المستحيل طي صفحة الصراع إلى ما لا نهاية. المزيد عن: السعودية/إيران/العراق/البحرين/لبنان/سورية/الخليج العربي