ثقافة و فنونعربي الروائي الأميركي راسل بانكس ينبش كواليس ماضيه المضطرب by admin 4 أبريل، 2021 written by admin 4 أبريل، 2021 22 روايته الجديدة محاولة لفضح الأكاذيب التي يخفيها الفرد والجماعة اندبندن عربية / انطوان جوكي 18 رواية حصاد الكاتب الأميركي الكبير راسل بانكس على مدى نصف قرن تقريباً. روايات لا تكمن أهميتها في قيمتها الأدبية فحسب، بل أيضاً وخصوصاً في ضرورتها الأخلاقية، نظراً إلى مقاربته فيها بجرأة موضوعات وقضايا اجتماعية وسياسية طارئة في وطنه، وتعريته في طريقه القوى التي تتحكم في مجتمع بكامله، واستكشافه النزعات والنزوات التي تتحكم بأفراده. ولأنه بات يفهم أكثر من أي وقت مضى، مع تجاوزه سن الثمانين، الانتصارات والمذلات الملازمة لحياة طويلة ومعقدة، ها هو يغوص بألمعية في هذا الموضوع في روايته الجديدة، “Forgone”، التي صدرت عن دار “هاربر كولينز” النيويوركية، ويمكن ترجمة عنوانها بـ”ماض” أو “محتوم” أو “متوقع”، والصفات الثلاث تصلح لتلخيص قصتها الآسرة ومآلها. رواية استثمر بانكس عناصر كثيرة من سيرته الذاتية لكتابتها، وتشكل تأملاً بصيراً في الأكاذيب التي نبني عليها حياتنا، وفي الطريقة التي يقولب فيها الندم والشعور بالذنب والنرجسية والذاكرة المعيبة نظرتنا إلى ذاتنا وماضينا، خصوصاً مع اقتراب المنية. بطل الرواية، ليونارد فايف، مخرج أفلام وثائقية شهير فرّ من وطنه أميركا إلى كندا وهو شاب، للإفلات من التجنيد العسكري وحرب فيتنام، مثله مثل ستين ألف شاب أميركي آنذاك. في زمن الرواية، نرى فايف في نهاية عقده السابع ينازع داخل منزله في مونريال بسبب إصابته بمرض السرطان وإيقافه العلاج لمعانقة حتفه طوعاً. وعلى الرغم من وضعه الصحي وموته الوشيك، أو ربما بسبب ذلك، يوافق على منح مقابلة أخيرة لصديقه وتلميذه السابق مالكوم ماكليود الذي يرغب في إخراج فيلم عن مسيرته الساطعة والطريقة التي أنجز فيها أبرز أفلامه. الأسئلة الكثيرة لكن موافقة فايف لا تعني أنه مستعد لإعطاء مالكوم ما يريده والإجابة عن الأسئلة الكثيرة التي جهزها لهذه الغاية، إذ لديه هدف آخر ملح يود بلوغه قبل الهلاك: البوح لزوجته إيما أمام عدسة الكاميرا وتحت الأضواء بأشياء من ماضيه يتعذر عليه قولها لها على انفراد. ومن أبرز هذه الأشياء، هجرانه زوجتين وطفلين قبل لقائه بها، وخيانته صديقه الوحيد في الليلة التي استبقت فراره إلى كندا، وسبب هذا الفرار الذي لا علاقة له إطلاقاً بتجنب حرب فيتنام، بل بفراغ حياته وعجزه عن تحمل مسؤولياته وإنجاز طموحاته. باختصار، يود كشف كل أسراره لزوجته من أجل نزع هالة الأسطورة التي تلف حياته المليئة في الواقع بفصول الخيانة والخديعة والجبن، وبالنتيجة الحصول على غفرانها. الرواية الاميركية (دار هاربر كولينز – نيويورك) المقابلة تتم بحضور زوجة فايف التي تعارض كلياً مبدأها، ليس فقط لأنها مرهقة لزوجها المنازع، بل لأنها تعرف أيضاً وسلفاً ما سيقوله خلالها، أو لأنها لا تريد سماع هذه الأسرار. ولذلك تحاول عبثاً إيقافها لحماية نفسها وسمعته. لكن، مثل رجل يتوق بما يحمل من طاقة اليأس، إلى طرد عفريت يسكنه، ويتعذر عليه القيام بذلك إلا بحضور زوجته طقس التعزيم هذا، يلح فايف عليها مراراً كي تبقى بقربه وتصغي إليه. لإجراء المقابلة، يستعين مالكوم بزوجته ديانا، منتجة الفيلم، وهي أيضاً تلميذة سابقة لفايف، وبمدير التصوير فينسنت ومديرة الصوت الشابة سلووان، وجميعهم مفتونون بفايف وإنجازاته منذ فترة طويلة. لكن عليهم الآن استيعاب معنى بوحه المعتم. وبينما يحاول مالكوم أثناء المقابلة إقناع فايف بالغوص في عمله الوثائقي على الشبان الأميركيين الذين فروا إلى كندا من الحرب، وعلى ما ارتكبته الإدارات الأميركية المتعاقبة وحاولت إخفاءه، وبالتحدث في العلاقة التي ربطته وهو شاب بالمغنين بوب ديلان وجون باييز؛ يعود فايف إلى نهاية الخمسينيات لسرد قصة فراره وهو مراهق من منزل والديه في ضاحية بوسطن بهدف الالتحاق بفيدل كاسترو في كوبا، التي تنتهي في فلوريدا بزواجه من فتاة التقى بها في حانة، بعد ما حبلت منه، وبعودته معها ومع طفلتهما إلى بوسطن حيث يهجرهما بسرعة، إثر علاقة جنسية عابرة. ثم إلى مرحلة الستينيات التي تزوج فيها من شابة ثرية وقعت في غرامه ودامت علاقتهما بعضاً من الوقت، قبل أن يهجرها بدورها في اليوم التالي من فقدانها الجنين الذي كان في أحشائها، ومن خيانته الصديق الذي كان يستقبله في داره مع زوجة هذا الأخير، جاعلاً جميع معارفه يظنون أنه فر إلى كندا لأسباب نبيلة، في حين أن الأمر عكس ذلك. أمام الكاميرا وفي البداية، تبدو بنية الرواية، التي تتقاطع فيها سرديتان مختلفتان، رعناء بعض الشيء، قبل أن تتجلى تدريجياً كل فعاليتها. فمن جهة، لدينا الفصول التي يروي فايف فيها قصته أمام الكاميرا في عتمة صالونه، ويتناقش مع الحاضرين حوله، ومن جهة أخرى، فصول طويلة يعتريها قفز ثابت داخل الزمن ونتعرف فيها إلى ماضيه الذي يبدو أقل لمعية لما هو معروف عنه. فصول يصعب داخلها معرفة ما هو حقيقي وما هو خرافي في تفاصيلها لأنه يتعذر الوثوق بسرد فايف نظراً إلى حالته الصحية والآثار الجانبية للعقاقير التي يتناولها والشكوك المشروعة بدقة ذاكرته. وهذا ما يقودنا إلى قيمة هذه الرواية التي لا تكمن في الأحداث والأسرار المشوقة لحياة بطلها، التي تنكشف لنا من خلال الشذرات المستعادة من ماضيه والقصص التي يرويها، بقدر ما تكمن في تركيزها على الظروف الغريبة والطريقة الفريدة التي اختارها هذا الرجل لقص حياته، وعلى الأسباب التي قادته إلى هذا البوح المتأخر، وبالتالي في السؤال المعقد الذي يراودنا حتى النهاية لدى قراءتها حول ما إذا كانت قصص تجريم الذات التي يرويها صحيحة، أم أن الأمر يتعلق بكذب متعمد أو بتخريف. وفي هذا السياق، تشكل “ماض” خير استكشاف لطبيعة الذاكرة ولمدى قدرتها على منحنا الحقيقة. تكمن أيضاً قيمة الرواية في مقاربتها البصيرة لموضوعي الشيخوخة والشهرة: الشيخوخة مع ما يلازمها من عجز جسدي وذهني ومشاكل صحية وقلق من التواري الوشيك، من جهة، ومن مراجعة للذات وسعي إلى تنقيتها عبر الاعتراف بالأخطاء المرتكبة وطلب الغفران قبل حلول المنية، من جهة أخرى؛ والشهرة التي غالباً ما تتكون انطلاقاً من معطيات مجتزأة تمنح من يتمتع بها صورة مجملة تبعد كل البعد عن واقعه. وما يعزز قيمة مقاربة بانكس هذين الموضوعين هو مدى تطابق حياة بطله مع حياته الخاصة. فالسفر من بوسطن إلى كاليفورنيا الذي يقوم فايف المراهق به مع صديقه في سيارة مسروقة، ثم فراره من ضاحية بوسطن وتخليه عن دراسته الجامعية للالتحاق بفيدل كاسترو، وظروف لقائه وزواجه في فلوريدا من شابة لا يلبث أن يهجرها مع ابنتهما، جميع هذه التفاصيل استقاها الكاتب من حياته. وهو ما يمنح “ماض” بعداً سيرذاتياً وما يفسر تلميح صاحبها فيها إلى هذا البعد بجعله إحدى شخصياته تقول حول فايف وفيض بوحه “كما لو أن الأمر يتعلق بمحاولة ربط رواية بحياة كاتبها”. وأبعد من جرأة محاكمة الذات عبر تعرية آثامها، الحاضرة بقوة في هذه الرواية، ثمة أيضاً فيها، كما في روايات كثيرة سابقة لبانكس، مقاضاة للرجل الأبيض عموماً في أميركا الذي غالباً ما يخلف فهمه النرجسي لحريته مآسي للنساء اللاتي يتورطن في علاقة عاطفية معه. ثمة أخيراً ــ وليس آخراً- إعادة قراءة جريئة لفصل مهم من تاريخ أميركا الحديث، وتحديداً لفترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، يكشف بانكس فيها تفاصيل مجهولة حول مواضيع مهمة مختلفة، كظروف فرار عشرات آلاف الشبان الأميركيين إلى كندا لتجنب المشاركة في حرب فيتنام، والملاحقة التي تعرضوا لها هناك على يد “مكتب التحقيقات الفيدرالي”، والتجارب التي قامت بها الإدارة الأميركية للعامل الكيماوي الأصفر في أميركا وكندا، قبل استخدامه في فيتنام. وفي حال أضفنا لغة بانكس السيالة والمجردة من أي تصنع أو حذلقة، والبعد السينماتوغرافي لعملية سرده الذي يتجلى في تعاقب ذكريات فايف على شكل مونتاج حاذق، وفي دخولنا وخروجنا من ماضيه وحاضره كما لو أننا خلف عدسة كاميرا، لتبينت لنا كل قيمة روايته. المزيد عن: راسل بانكس/ليوناردو فايف/رواي/أدب/الأدب الأميركي/ثقافة 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post طوني موريسون في روايتها الأخيرة “احفظ الصغار يا ربي!” next post فيرجينيا وولف أدرجت الموت الفردي في السردية البريطانية الجماعية You may also like سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024 فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.