ثقافة و فنونعربي الخصوصية كما رسمتها فرجينيا وولف على إيقاع الحياة المدينية by admin 9 يونيو، 2021 written by admin 9 يونيو، 2021 36 نجاح الفنانين برأي الكاتبة الإنجليزية يتحقق عندما يحتفظون بهذه الميزة غير ملوثة بالعالم الخارجي اندبندنت عربية استخدام تعبير “خصوصية” في أيامنا هذه له وجهة ومعنى سياسيين، فنحن لا ننفك نفكر بالآخرين، وبمدى قدرتهم في التأثير فينا وفي حياتنا. وتشغلنا فكرة احتمال استخدام أولئك الآخرين معلومات متعلقة بنا، وتحويرها لمصلحتهم الخاصة، أو التدخل بقرارات تقع في خانة حقوقنا. كما أننا في هذا الإطار نعير انتباهاً للخطوط الفاصلة بين الحياة العامة والحياة الخاصة، فنتحلى بما يمكن تسميته “إحساس المواطن بالخصوصية”، وفق ما كتب جوشوا روثمان، محرر قسم الأفكار في مجلة “نيويوركر” الأميركية، في مقالة بعنوان “فكرة فرجينيا وولف عن الخصوصية”. ويضيف روثمان أن هذا المنحى، إلى أهميته، ليس منحى وحيداً في مقاربة الخصوصية. إذ ثمة أمامنا طرق أخرى لمقاربتها، وقد عبرت “السيدة دالواي” (Mrs Dalloway) عن إحداها على نحو رائع جداً، بسياق مشهد شهير في مطلع الكتاب. المشهد بدا استعادياً لوقت كانت فيه كلاريسا في عمر مراهقتها، وقد خرجت للتنزه مع بعض الأصدقاء. صبيان مزعجان، بيتر والش، وجوزيف برايتكوف، وفتاة هي سالي سيتون. سالي هذه، جذابة وذكية وبوهيمية، وتمتلك ما يمكن اعتباره “حس مفارقة”، فيمكنها مثلاً “قول أي شيء، وفعل ما تشاء”. يسير الصبيان قدماً في الطريق خائضين بحديث ممل عن “فاغنر”، فيما الفتاتان تتأخران عنهما في المسير. ثم “تحل أروع لحظات حياتها إذ تصادف جرناً حجرياً نبتت فيه أزهار”. تقطف سالي زهرة من الجرن وتقبل لاريسا على شفتيها. “والعالم ربما انقلب رأساً على عقب! الآخرون اختفوا، وهي هناك، وحدها برفقة سالي. وأحست كما لو أنها تلقت هدية موضبة، وأخطرت بأن تبقيها على هذا النحو، فلا تنظر إليها. هدية جوهرة، لا تقدر بثمن، ومحجوبة، كلما تقدمتا في المسير (صعوداً وهبوطاً، صعوداً وهبوطاً) تقوم باكتشافها أكثر، ويسطع شعاعها عبر الإلهام والشعور الديني!”. جوهر ذاتي وفرجينيا وولف غالباً ما تصورت الحياة على هذا النحو. هدية نتلقاها، وعلينا التمسك والاحتفاظ بها وألا نفتحها أبداً. فتح هذه الهدية قد يبدد الجو والشعاع، وشعاع الحياة هو ما يمنحها استحقاق العيش. ومن العسير أن نشرح ما قد يعنيه مجرد التمسك بالحياة، من دون النظر فيها، وهذا يمثل أحد أحاجي كتب فرجينيا. إلا أن هذا أمر يتعلق بالحفاظ على سر الحياة، من طريق ترك أمور معينة بمنأى عن التوصيف والتحديد، كي تبقى مجهولة، فنتلذذ بأحاسيس معينة، كالفضول والتفاجؤ والرغبة والرجاء. وذاك يعتمد على شعور مكثف بقيمة الحياة وهشاشتها، وعلى فكرة هايسنبرغية “لا يقينية” مفادها، أن إمعان النظر والتدقيق تجاه أكثر هيئاتنا ومؤسساتنا تجريدية، يبدل مشاعرنا. والأمر بكلمات أخرى له علاقة بضرب من الخصوصية الداخلية التي نعتمدها لحماية أنفسنا، ليس من أعين الآخرين المفترسة وحسب، بل أيضاً من ذواتنا. يوافق أشخاص كثيرون على فكرة أن لكل منا داخل حاسم محدد – جوهر ذاتي، لا يمكننا مشاركته مع الآخرين. (ليفين، في ختام رواية “آنا كارينينا”، يسمي ذاك الداخل “قدس الأقداس”، ويقول، إنه مهما تقرب من الناس المحيطين به سيبقى هناك دائماً “الجدار ذاته بين قدس أقداس روحي وبين الآخرين، حتى زوجتي”). وما اهتمت به فرجينيا، وولف في هذا الإطار تمثّل بالطريقة التي ننتبه عبرها لذاك الداخل. فنحن نغدو مدركينه خير إدراك، برأيها، حين نجبر في لحظات الانكشاف على تحصينه إزاء العالم الخارجي. وإحساس تحصين الذات من شأنه أن يمدنا بما هو ممتع، وبمصدر وحي حتى، وذاك ما يجعلنا نسعى خلف حالات نشعر فيها بتمايز شديد وافتراق بين ذواتنا الداخلية، وبين العالم الخارجي. كانت فرجينيا وولف مبهورة بالحياة المدينية، بإحساس “العزلة المعروضة” الذي يتيحه الرصيف، وبكيفية قيام “مطاردة الشارع”، وفق تسميتها، بجعل المرء يضيع نفسه ويعثر عليها في إيقاع الجدة المدينية وألفتها. وقد انجذبت وولف لشخصية المضيفة، المرأة محط الأنظار، الواقفة عند آخر الأدراج، الموزعة لطفها على الجميع، التي لا يزيدها حضورها وتواجدها في الأمكنة إلا غموضاً وإبهاماً. والشخصية تلك تظهر كيف يمكن للأهل والأصدقاء والعشاق والأقارب أن يغدو مع الوقت أكثر غموضاً. إذ ثمة جوهر في ذوات هؤلاء جميعاً لن يسلم نفسه أبداً. وبرأي وولف، في حالة الفنانين، إنه حتى لو قاموا (الفنانون) بعرض حيواتهم، فإن نجاحهم يتحقق عندما يحتفظون بمعقل أخير من الخصوصية. فيبقى ذاك المعقل معين لا يلوثه العالم الخارجي. ووفق روثمان، ثمة أكلاف وفوائد تترتب على الاحتفاظ بهذا النوع من الخصوصية الداخلية. إذ في منتصف كتاب “السيدة دالواي” يقرر ريتشارد، زوج كلاريسا، أنه خلال فرصة الغداء سيقوم بشراء أزهار لزوجته. وكانت خطته أن يذهب إلى البيت ويهديها الأزهار، ويقول لها “أحبك”. وذاك مثل موقفاً رومنطيقياً غير معهود منه، لكن، ولسبب ما، تملكه إحساس بأن “زواجه من كلاريسا كان بمثابة معجزة”. ويخطو ريتشارد مسرعاً في غرفة الجلوس فيقدم لها الأزهار، بيد أنه إذاك يجد نفسه عاجزاً عن نطق تلك الكلمات. لقد انتشى وفاض بالحب، وبلغ ذروة السعادة. واكتسحت داخله موجة المشاعر، ولم يعد بوسعه الكلام إلا عن أشياء بديهية، كالغداء وحفلة المساء ومعلمة ابنتهما. وأخيراً، ينهض كي يغادر. تنظر كلاريسا إليه. وتكتب وولف “وقف للحظة كأنه يهم بقول شيء. وهي تساءلت ما الذي جعله يحضر الأزهار ولماذا؟”. وحين غادر ريتشارد، فكرت كلاريسا “ثمة كرامة في الناس، ثمة عزلة، حتى بين الزوج وزوجته هناك هوة، وعلى المرء أن يحترمها… لأن المرء لا ينفصل بها عن نفسه، ولا يجرد زوجه عنوة منها، من دون أن يفقد هذا المرء استقلاليته واحترامه، وذاك شيء في النهاية لا يقدر بثمن”. أسلوب معتاد عند فرجينيا يتمثل في أن تأخذ المشهد الرومنطيقي وتصلبه، أو تفولذه، وقد يعتبر المرء أن هذا يعد ثمناً للخصوصية الداخلية. فالزواج والحب والعلاقات الحميمة، تأخذك في رحلة بعيدة لا أكثر، وفي نهاية ذلك الطريق تعود وتقع في التقشف وكرامة عزلة الحياة الداخلية. مع ذلك تفضل كلاريسا التقشف على الحميمية. وهي تفكر من وقت لآخر ببيتر والش، الذي كان مغرماً بها، والذي كادت أن تتزوجه بدل ريتشارد. فهو كان فطيناً ومثقفاً ورومنطيقياً وشغوفاً. كان يحب الكلام ويأخذ أفكارها على محمل الجد. وكان مصمماً على معرفتها من كثب، روحاً لروح. وذاك أمر مرغوب بالنسبة إلى الأشخاص الذين يعتبرون الحميمية أهم عامل في العلاقات. “لكن مع بيتر ينبغي مشاركة كل شيء. ينبغي الخوض في كل شيء. وهذا لم يكن بالإمكان التسامح معه”، وفق كلاريسا. بعد مضي سنوات، كانت جالسة في متنزه، وما زالت تراجع في ذهنها المجادلات التي خاضتها مرة مع بيتر. وتفكر في المقابل أن ريتشارد يمنحها الخصوصية، بالتالي يبقي لها عزلتها الداخلية، ويترك روحها ملك يديها. طبعاً هو لا يقول “أحبك” أبداً. أما بيتر، فيعتقد أن في كلاريسا على الدوام “ذاك البرود، وذاك التخشب، شيء بالغ العمق فيها، غير قابل للاختراق. لكنه أحبها بصدق”. إلى هذا، فإن مكاسب أن يبقى المرء “عصياً على الاختراق” قد تكون عظيمة. فكلاريسا، على ما يبرزه كتاب “السيدة دالواي”، تشتري الزهور لنفسها، وذاك يمنحها فرصة التمتع بهدوء وسكينة وجمال متجر الزهور، وتلك حال، وفق فرجينيا وولف، تنعكس على حياة كلاريسا الداخلية، فتسمح لمشاعرها المكثفة البقاء نقية من دون أن يمسها شيء. ومن طريق تعلم ترك الحياة الداخلية نائية بذاتها، نتعلم صونها واحترامها. فنكتسب إذاك قدرة روحية غير اعتيادية، قدرة النظر إلى الذات تجريدياً. وبدل التشتت والضياع في تفاصيل حياتنا، فإننا نتمسك بالمشاعر والأنماط والنبرات. ونتعلم تقدير نواحي الحياة، من دون المساس بها وإتلافها بأنفسنا، عبر الإكثار في تحليلها. وولف ترى أن تلك المشاعر القيمة قد تكون مصدراً للكاريزما، ومصدراً للإشعاع الذي لا يرى مباشرة أبداً، بل يشتعل في الداخل. الخصوصية الداخلية ويقول روثمان، إن إحساس وولف بهذه الخصوصية الداخلية التجريدية، يحيل بالطبع إلى زمن ومكان محددين. كما أنه إحساس مدين للنسوية، ولإدراكها أن الرجال، وليس النساء، منحوا منذ زمن بعيد حق العزلة. إنه إحساس مستمد أيضاً من فكرة حداثية تقول إن الفن ينبع من ذات داخلية خبيئة متناسقة. بيد أننا اليوم نرى الفن نابعاً من عمليات تشاركية في أغلب الأحيان، وهو يأتي نتاجاً لمشهد عام، لا لشخص واحد وذات منفصلة. كذلك من اللافت اليوم مدى اعتمادنا على الشبكات الاجتماعية كي تساعدنا في إدراك ذواتنا. وقد جادل الفلاسفة في الأعوام القليلة الماضية بأن “الآخرين” قد يكونون على دراية أفضل بأنفسنا، من ذواتنا. غير أن إحساس فرجينيا وولف بالخصوصية يبقى ماثلاً أمامنا ومتسماً بالأهمية. وعندما يفكر المرء فيه، قد يلمحه في كل مكان. وتأتي رواية أديل والدمان “علاقة حب ناثانيال ب” بمثابة إعادة سرد، “مقلوبة الجندر”، لقصة الحب التي نهضت بقوام “السيدة دالواي”. ومثل كلاريسا، يختار ناثانيال الحبيب الذي لا يمكنه أن يعرفه تمام المعرفة، ويفضله على الحبيب الذي كان مصمماً على معرفته. وفي السياق، فإننا على “تمبلر” و”فيسبوك” نبحث عن “السلوكية الاجتماعية الخصوصية” ذاتها التي وصفتها وولف. ونحن في العادة نفكر في وسائط التواصل الاجتماعي كمنابر للاستعراض. لكن التصنيف الجريء والانفتاحي لتفاصيل الحياة اليومية، ووجبات الطعام، والتمارين، والأفكار في السياسة والكتب والموسيقى، تبلغ حتماً حدودها الخاصة، وتنتهي بالتأكيد بما لا يمكن مشاركته. إذ إن التكلم بهذه الحرية الكبيرة عن حياتنا، يساعدنا في معرفة قيمة تلك المشاعر بالغة الإبهام والروحية لدرجة يستحيل معها التعبير عنها، فتبقى هذه المشاعر غير منطوقة وغير مستكشفة، وتترك وجودنا الخاص قابعاً بسلام. إذ إن ما “نشاركه” في الحقيقة هو عكس ما نفعله. ونحن أشبه بواحدة من مضيفات فرجينيا وولف، نتدرب على انفتاح محدود، كي نتمكن من الشعور بصلابة ذواتنا الخاصة ورسوخها. كما أننا بين الحين والآخر نقع على عمل فني يعبر عن حساسية فرجينيا وولف بلغة وأسلوب مختلفين كلياً عن لغتها، فيجدد تلك الحساسية. أداء لوسيندا ويليامز سنة 1989 لـ “طرف الطريق” (Side of the Road)، الذي يمكن للمرء أن يعود إليه الآن ويشاهده، جاء في هذا الإطار. أغنيتها مبنية على استعارة بسيطة: ويليامز تقود سيارتها في الطريق مع محبوبها، وهي سعيدة في القيادة. لكنها تود الانحراف إلى جانب الطريق، وتقف هناك بمفردها. “أود أن أعرف أنك هناك، لكني أريد أن أكون بمفردي”، تغني. من زاوية مختلفة تماماً التقطت ويليامز الفكرة ذاتها التي نجدها في روايات وولف، القائلة إنه ليس ثمة سبيل نهائي ومقبول لموازنة حاجتنا إلى أن نكون معروفين، بحاجتنا لأن نكون بمفردنا. والتوازن ذاك، على الدوام يبقى مشروطاً وغير محسوم، وهو دائماً مصدر استياء وأخذ ورد وتضحية. فيعود لكل واحد منا قرار موازنة المخاطر والمكاسب، والقيام، بالنسب الصحيحة، بمقايضة الوحدة بالحرية، والتفسيرية بالإبهام، والمعلوم بالمجهول، داخل أنفسنا. المزيد عن: فرجينيا وولف/الخصوصية/الحميمية/السيدة دالواي 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “درب الصد” تسترجع مصائر النسوة المخطوفات في بغداد next post ولاء القوات العسكرية والأمنية في عصر “الجمهورية الإيرانية” You may also like فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.