ثقافة و فنون عبدالحفيظ بن جلولي يكتب عن : التاريخ الفلسطيني وتوالد حكاياته في رواية «رجل يشبهني» by admin 25 مايو، 2023 written by admin 25 مايو، 2023 100 تستنجد الكتابة بما يسوغ لها فعل الكينونة والإقناع، وربما لهذا سارع «آدم دنون» إلى «ادعاء» اسم الروائي، «الحقيقة أنا اسمي إلياس خوري»، وإلى الإشارة المتتالية لرواية «باب الشمس»، هما علامتان تحيلان إلى شخصية المؤلف بما يحقق الكتابة المؤرقة، التي تدل على أشكال تسريب السيرة الذاتية إلى العمل الروائي القدس العربي \عبدالحفيظ بن جلولي – كاتب جزائري بعض الروايات تقرأنا قبل أن نقرأها، أو نتبادل لعبة القراءة بيننا، لأننا ونحن نمارس هواية الاكتشاف، نتأكد أننا نبحث عن شيء نريده، فتبزغ فكرة البحث عن الأفكار داخل الرواية، هل نقرأ الحدث كي نكوّن الفكرة داخل مصانع الخيال؟ أم فقط، نريد الفكرة كما لم يكتبها الفيلسوف أو المفكر؟ ذلك ما تضعنا أمامه رواية «أولاد الغيتو… رجل يشبهني» لإلياس خوري. ربما هي الرواية الأولى التي تضعنا أمام التاريخ باعتباره «حكاية خيالية» كما يرى بورخيس، حكاية تُروى لتُواجه بحكاية أخرى، وهكذا يستمر التاريخ في خلق أحابيل الحكايات لتستمر الحياة حتى وهي تحايث الموت، ولكن إلياس خوري يضعنا أمام سؤال آخر قوي ومزلزل، مفاده هل يمكن مراجعة وتجاوز التاريخ لبناء سردية راهنة تستجيب لمتطلبات المرحلة، باعتبارها فضاء استعادة الوطن السليب. تجاوز التاريخ ليس بمعنى النسيان، لكن بمفهوم الحكاية التي يجب أن تلد حكايات جديدة، تكون في مستوى الوضع القائم والمآسي المتجددة، والواقع الذي تشكله الرواية والفعل الصهيونيين من خلال ما يفرضه الخيال الإجرامي، الذي يهدم ويزيح ليمارس الإحلال ويبني أطروحته الكاذبة في التاريخ، الذي هو محض خيال يبنيه وفق أطاريح الواقع؟ «رجل يشبهني»، سردية ينطلق منها إلياس خوري ليشكل الرواية التي تبني مسروداتها من خلال الفاعلين الذين يحاورهم الراوي كي يستخلص روايته التي يواجه بها التاريخ عندما يتحول إلى «حكاية خيالية»، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالراوي يؤمن بأن الرواية لا يمكن أن تكتمل إلا بآخر، ولهذا يوظف معنى الإنسان في قاموس لويس معلوف الذي يرد كمثنى إنس، للدلالة على أن الخطاب لا يتشكل مفردا، وعلى المتلقي تأويله وتفكيك رموزه وعلاماته. آدم دنون، مولود شكلته حكايتان، أولاهما لمأمون الأعمى الذي وجده على صدر أمه الميتة، وعاد به إلى «اللد» بعد أن تعرضوا للتهجير القسري من قبل اليهود سنة 1948، «فلماذا أصابتني تلك الكآبة عندما روى لي مأمون أنه التقطني من على صدر أمي الميتة، وأهداني لمنال». تقوم الرواية على هذا المسار الخيالي القائم في وعي الأعمى، لم ير شيئا من مسرح «التهجير» الذي كان موضوعه المأساة الفلسطينية، التي أمعن في رسم جروحها الفعل الإجرامي الصهيوني، لكنه شعر بالواقع المأساوي، تلك اللحظة التي كانت تحكي الموت بكل ما يعنيه من إفناء، لكن وعي الرواية التي تقول التاريخ الممكن تجاوزه لأنه يلد حكاية أخرى في مسار بناء الذاكرة التي تستعيد ولا تقصي، ولهذا احتفظت الرواية منذ البداية في لا وعيها السردي بالعبور بالطفل الذي يشبه الراوي إلى «الأم البديلة منال»، التي لن تكون سوى المنفى، لأن الرحم الأولى هي التي شهدت الشكل الأول للحياة التي سوف تتعايش معها الذوات، ولهذا انتبهت الرواية كحكاية عن المكان والذاكرة وحركة التاريخ إلى قباب «نابلس» باعتبارها أرحام، «هنا اكتشف خليل المدينة التي، بقبابها وأقواسها، تعيد الناس الى أمان الرحم التي تضمهم». القباب هي الشكل البيضاوي الذي يعلو سقوف البيوت، ويضيف إليها علوا، إنه التشخيص الواقعي والرمزي للاحتضان، ولا يمثل هذا السلوك سوى رحم الأم التي تحتضن تاريخا بأكمله، وحياة بعرضها لكائن سوف يكون حركة تؤسس لتاريخ يستمر، وربما، لهذا السبب استفهمت الرواية حول التاريخ باعتباره الكينونة والصيرورة، وكيف يؤدي دور الدافع والمثير للتفاعل بين القضية في مساراتها الحساسة والذات، باعتبارها الفاعل الأساس الذي ينسج سدى التاريخ. تجعلنا الرواية باستدعائها لشخوص روائية تحاورها وتضعها على محك الفعل النضالي المقاوم الذي ينبش في التاريخ، تاريخ الذات وتاريخ الوطن، المدن والمخيمات، الأشخاص الذين يتحولون جثثا قائمة فوق الأنقاض، عيون تحتفظ بسر الموت، تعلن عن استمرار الحياة، أو طبيعة الموت الذي ليس أكثر من حالة من حالات الحياة، تستمر به بشكل مختلف، قلت تجعلنا هذه الرواية نستدعي شخوصا عبرت حيواتنا كقراء، اختزنتها ذاكرة النضال في سنوات الفعل المقاوم الملتزم بالقضية والأرض والإنسان. وأنا أتابع فصول الرواية وهي تستدعي خليل أيوب من رواية «باب الشمس»، وأيضا إحدى شخصيات رواية «ملجأ» للروائي اليهودي من أصل عراقي سامي ميخائيل، التي تحولت إلى فيلم سينمائي أخرجه أحد أبطال الرواية باسم آخر، جوليانو مير خميس، بعنوان «أولاد آرنا»، وكيف أن هذه الشخصيات إما أنهم يكشفوا عما سكتوا عنه سردا، أو يصححوا ما قد زيفه الروائي، وهو ما يضع القارئ أمام رهان استدعاء شخصياته الذين شكلوا وعيه بالمسألة الفلسطينية، كاعتبار رمزي في مسار استمرار الحياة من أجل أن يكون الموت ذاته شكلا من أشكالها، وهو ما عاد بذاكرتي إلى 1982 حين اعتلى أستاذي العراقي الماركسي منصة الخطابة، ليؤثث الوعي الطلابي بجذور المأساة الفلسطينية، وأشكال المجازر التي تعرضت وتتعرض لها، ليس هذا فحسب، بل استدعاء الشخصيات والانتقال بها من الورقي إلى الواقعي، أحالني إلى مسرحية «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» للويجي برندللو، التي تصعد الخشبة قادمة من الكواليس لتصحح وضعا ما، فهل تستطيع «الرواية» توجيه مسار التاريخ وتصحيحه؟ يعتبر استدعاء الشخصيات الروائية المتخيلة، أحد أشكال تصحيح الروايات التي تتصارع من أجل إثبات الرواية الغالبة، ومن ثم اختبار مدى جدوى التاريخ في استكتابه للحالة الوطنية النضالية المتتالية فيه كفعل دال، وتطرح الرواية سؤالا مهما، لماذا يصر بعضهم على كتابة رواية سيرية، بدل أن يرويها في شكل مذكرات، كما فعل إدوارد سعيد في «خارج المكان»؟ هذا الهاجس يعود بنا إلى الحدث في واقعيته وخياله، باعتبار الرواية التاريخية جزءاً من خيال الكاتب، يشكلها وفق رؤيته ومعايشته لها وإحساسه الخاص بها، وهنا تنبثق الانفصالات بين الحدث كـ»معيش» والحدث كـ»رواية»، بين الحدث في راهنه والحدث بعد حين، وهذا ما يجعل الاحتمال قائما في أطروحتين تشكلهما الرؤية الروائية في «رجل يشبهني»، فالحدث كأنه هو وليس هو، تلك هي أنماط الرواية التي تشكل المفصل التاريخي في المأساة الفلسطينية، ولكن أيها يمتلك الجدوى كي يحرك الفعل نحو مآلات الانتصار والخروج من عنق زجاجة الثورة المستمرة؟. الأطروحة الثانية تتمثل في استدعاء العديد من الشخصيات الفلسطينية، التي تشكل عائقا أمام الوعي العربي والفلسطيني كذواتٍ حاملة لفكر الثورة وواقعها، وهو ما اختزنته شخصية خليل أيوب باعتباره الشخصية السلطوية والمناضلة، التي انتصرت أخيرا للفعل القائد إلى الموت داخل «غيتو» الحصار الذي تفرضه القوة الغاشمة الصهيونية كفعل للإبادة. عندما تستحضر الرواية «إدوارد سعيد» فهي تستحضر الإشكالية الإسمية التي سببت له كمفكر وذات فلسطينية عربية قلقا وجوديا، ثم عندما تستدعي درويش وريتا أو راشد حسين وآن لافي، فهي تضع على السطح إشكاليات العقل الفلسطيني المؤسس للوعي النضالي والوجودي عبر الثقافي/الإبداعي، والحب هنا ليس مشكلة تثير جدلا عابرا في الأوساط السياسية والثقافية، وإنما «رجل يشبهني» تبعث ذلك الجدل حول علاقة الحب بالتاريخ وبالسياسة وبالوطن. أيضا، حينما تقدم الرواية الشخصية الفلسطينية المتأسرلة، على سبيل المثال «آدم دنون» «داليا»، «ثم إنها ترفض الكلام مع عربي متأسرل يكتب بالعبرية»، فالرواية لا باعتبارها خيال الكاتب، ولكن باعتبارها شكلاً من أشكال كتابة الوعي تطرح الذات الوطنية المنشطرة، أو الموزعة بين ضفتين، فهي ليست إسرائيلية بالتغريب وإنما بفرض الأمر الواقع، وهي فلسطينية بالأرض والوجود والتاريخ والذاكرة، فــ»رجل يشبهني» تطرح قلق الشخصية والواقع والتاريخ الذين يمكن أن يساهموا في تثوير منطقة السكون الفلسطيني وإعادة الرؤية للذات من خلال تفكيك تشظيات الألغاز، في مسار الهوية الفلسطينية النضالية من حيث كونها مسارا فكريا وإبداعيا أيضا. يشتغل الياس خوري في هذه الرواية على إشكالية الجوار، ودول الطوق لا باعتبارها رهانا نضاليا فقط، ولكن تاريخا يؤثث الذاكرة بإواليات التواصل، فخليل أيوب الذي يحمل معه «بيروت» إلى المخيم، ويُفتتن بـ»حلحول» وتأسره «نابلس» تلك التي يؤكد السرد على وصفها بدمشق الصغرى، وفي هذه الحركة التي تلتف حول المكان لمركزته في الوعي يقودنا خليل أيوب شيئا فشيئا إلى داخل الذات التاريخية الفلسطينية في علاقتها بعناصر الجغرافيا والصراع الذي تثيره في معركة المصير، «العكوب والزعتر البري والصبار»، تلك العناصر الفاصلة في الهوية الجغرافية الفلسطينية، لأنها تشكل مفصل الصراع، حين تذكّر الرواية بأن اليهود يعمدون إلى تسمية كل من وُلد على أرض فلسطين منهم بالصابرا. إن الإحالة على هذه الجزئية ليست ترفا في الكتابة الروائية باعتبارها حكاية، بل تشكل العناصر الهوياتية التي تجعل الروائي أشد حرصا على إعادة تشكيل الرؤية للتاريخ، باعتباره المفصل الحاسم في دوائر الجغرافيا، ولهذا كانت الإشارة لافتة إلى ترميم حكاية الشاعر «راشد حسين» بفعل لبس الكوفية، «قال إنه لبس الكوفية ليس كزي فلاحي، بل كرمز شعري»، حيث ستصير مستقبلا العلامة الأبرز في حركة النضال العالمي، وهو ما يجعل التاريخ يتأسس فاعلا في راهن الذات وهي تستوعب عناصر نضاليتها من أمكنة الوعي لا من مدارات التقليد. تستنجد الكتابة بما يسوغ لها فعل الكينونة والإقناع، وربما لهذا سارع «آدم دنون» إلى «ادعاء» اسم الروائي، «الحقيقة أنا اسمي إلياس خوري»، وإلى الإشارة المتتالية لرواية «باب الشمس»، هما علامتان تحيلان إلى شخصية المؤلف بما يحقق الكتابة المؤرقة، التي تدل على أشكال تسريب السيرة الذاتية إلى العمل الروائي، ولعل العلامتين تكشفان عما يسميه سيرج دوبروفسكي بـ»التخييل الذاتي»، الذي يشترط فيه توافق اسم الشخصية الرئيسية مع اسم الكاتب، وله مبرراته حين نعرف أنه من الناجين وعائلته من المحرقة اليهودية، فهو يريد سرد الرواية باعتبارها تاريخ الذات الذي عاشته وتشعره، وهو إحساس إلياس خوري ذاته، الذي نؤوله فهما، إلا أن إلياس خوري عمد إلى عدة أساليب فك الارتباط فيها بينه وبين «آدم دنون». «الهاجس المركزي» في الرواية مترجما لكيفيات قراءة الموقف من النضال، ومن القضية ومن الأرض، ورؤيتهم بمفاعيل الإبداعي والثقافي والفكري، ومن ثم خلخلة كتلة التاريخ الجاثمة على الوعي والواقع ومساءلتها، كل هذه الرؤى تبقى هي الشاهد على هذا التغلغل السردي للحكاية الفلسطينية، كما عاشها وشهدها وشهد عليها إلياس خوري بعلاقاته مع الفاعلين فيها ووجوده اللاإرادي في الجوار المُماس تاريخيا وجغرافيا للواقع الفلسطيني. المزيد عن : الياس خوريدمشقرواية رجل يشبهنيعبدالحفيظ بن جلوليفلسطين 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post Tina Turner: Music legend dies at 83 next post مهى سلطان تكتب عن : لوحة نقولا إبراهيم سرسق… وعودة الرّوح إلى المتحف You may also like أول ترشيحات “القلم الذهبي” تحتفي بالرعب والفانتازيا 17 نوفمبر، 2024 شعراء فلسطينيون في الشتات… تفكيك المنفى والغضب والألم 17 نوفمبر، 2024 “بيدرو بارامو” رواية خوان رولفو السحرية تتجلى سينمائيا 16 نوفمبر، 2024 دانيال كريغ لا يكترث من يخلفه في دور... 16 نوفمبر، 2024 جاكسون بولوك جسد التعبيرية التجريدية قبل أن يطلق... 16 نوفمبر، 2024 المخرج والتر ساليس ينبش الماضي البرازيلي الديكتاتوري 16 نوفمبر، 2024 الحقيقة المزعجة حول العمل الفائز بجائزة “بوكر” لهذا... 16 نوفمبر، 2024 فرويد الذي لم يحب السينما كان لافتا في... 16 نوفمبر، 2024 يونس البستي لـ”المجلة”: شكري فتح السرد العربي على... 15 نوفمبر، 2024 مرصد كتب “المجلة”… جولة على أحدث إصدارات دور... 15 نوفمبر، 2024