توماس دي كوينسي (غيتي) ثقافة و فنون “اعترافات ملتهم أفيون إنجليزي” نص دي كوينسي المنسي by admin 14 أكتوبر، 2023 written by admin 14 أكتوبر، 2023 30 رائد الهيبيين في الزمن الحديث نال رضى السرياليين في رحلات مخيلة مريضة وألهم الشعراء اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب أربعة، على الأقل، من كبار كتاب وشعراء القرن التاسع عشر، كانوا يعتبرون توماس دي كوينسي أستاذهم وملهمهم، ويعترفون بأنهم كتبوا بعض أعمالهم بتأثير مباشر منه. بل هناك منهم من يعتبر أنه عاش ردحاً من حياته تحت تأثير أفكار هذا الذي كان واحداً من أوائل الذين مزجوا بين الإبداع والحلم، بين العقلانية والهلوسة، بين الذاتية المطلقة والانفتاح الواعي على العالم، بما فيه من وضوح وخفايا. ومع ذلك من الغريب اليوم أن دي كوينسي يبدو منسياً إلى حدّ حتى وإن كان يحدث له أن يُستعاد إلى واجهة الأحداث الأدبية أو حتى الفكرية وربما الاجتماعية أيضاً حين تدعو حاجة ما إلى استعادته، كما حدث على سبيل المثال خلال الربع الثالث من القرن العشرين حين ظهر الهبيون برومانطيقيتهم وصنوف إدماناتهم، وتذكروا أن دي كوينسي كان يسير سيرهم وقبلهم بقرن من الزمان وأكثر، فكان أن راحت كتاباته تنكش ويزال عنها غبار النسيان لتتصدر الساحة من جديد ولكن لعقد أو أكثر قليلاً يعود بعدهما إلى سباته العميق! عودة أملتها ظروف غريبة وعلى رغم أن دي كوينسي حين رحل عن عالمنا عام 1859 في إدنبورغ، قرظ كفيلسوف ومفكر وعالم اقتصاد، إضافة إلى كونه شاعراً و”روائياً” رؤيوياً إلى حد ما، فإن الكتابين اللذين جعلا لهذا الكاتب الإنجليزي ذي الأطوار الغريبة، سمعته ومكاناته، كانا أقل كتبه “عقلانية” وابتعاداً من النزعة الموضوعية الواقعية التي كانت سائدة في إنجلترا ذلك الحين. وهذان الكتابان هما “القتل كفنّ من الفنون الجميلة” و”اعترافات ملتهم أفيون إنجليزي”. ونتوقف هنا عند هذا الكتاب الثاني، مع أن الكتاب الأول لطالما فتن الكتاب السورياليين. أما الكتاب الثاني، فإنه ذلك الكتاب الذي “أعيد اكتشافه” خلال سنوات السبعين من القرن العشرين كما أشرنا قبل سطور حين سادت النزعة الهيبية، وصار تناول المخدرات والغوص في “رحلة الأحلام” – بحسب التعبير الأميركي الذي درج في ذلك الحين- جزءاً من تعبير شبيبة ما عن رفضها لمجتمع الآباء “الذي بات عتيقاً مهترئاً في رأيها” وللقيم البورجوازية السائدة. إحدى طبعات “اعترافات ملتهم أفيون إنجليزي” (أمازون) شخصية مزدوجة بالتأكيد وهكذا، إذا كان توماس دي كوينسي قد حاز كل تلك الشعبية منذ سبعينيات القرن العشرين وبالتالي بعد رحيله بأكثر من قرن، فإنه كان نسخة مختلفة عن دي كوينسي الحقيقي: كان شخصاً آخر اخترعته مخيلة الشبيبة، في صورة مستقاة مباشرة من الصورة التي رسمها له بودلير في القرن التاسع عشر، وخصوصاً من الصورة الأكثر رومانطيقية التي يسفر عنها تفاعل عميق ربط به مع “السيمفونية الخيالية” للفرنسي هكتور برليوز، تلك السيمفونية التي كتبت انطلاقاً من تفسير ألفريد دي موسيه، تحديداً، لنص توماس دي كوينسي “اعترافات ملتهم أفيون إنجليزي”. والحال أن “ملتهم الأفيون” المعني هنا، هو توماس دي كوينسي نفسه. فهذا الكاتب الرومانسي بامتياز، غاص في ذاكرته وأعماق دخيلته في خريف عام 1821، وكان في السادسة والثلاثين من عمره، ليكتب الصيغة الأولى من هذا النص الذي نشر أولاً في مجلة كانت تعرف باسم “ماغازين” ثم في كتاب خاص صدر في عام 1822، ليعاد نشره في طبعة منقحة ومزيدة في عام 1856، قبل رحيل دي كوينسي بأعوام قليلة. وهذا الكتاب، الذي لا شك في أن دي كوينسي، يستعيد فيه ذكرى أخته التي ماتت وهي في سنوات طفولتها، كما يستعيد ذكرى حبيبته المومس الشابة التي ماتت، هي الأخرى، وكانت بعد في الخامسة عشرة، هذا الكتاب يروي حزن الفتى وتجواله شريداً في ويلز، ليقول لنا كيف أن حاله تلك قادته إلى الإدمان على الأفيون الذي كان يساعده أول الأمر على مقاومة آلامه الجسدية والنفسية، غير أن المشكلة بدأت تتجسد في شكل سيئ، كما يروي دي كوينسي في نصه، حين راح يزيد من حجم جرعة اللودانيوم اليومية التي يتناولها، ما جعله يعيش يومياً حالاً من الرعب والكوابيس وأحلام اليقظة. 8 سنوات من الرعب ويفيد دي كوينسي في نصه المرعب هذا، أنه استمر على تلك الحال أكثر من ثماني سنوات، شعر بعدها بأن ما يفعله إنما هو انتحار بطيء وأكيد. فماذا يفعل؟ بكل بساطة يبدأ بعلاج نفسه بنفسه، إذ تأكد أن إدمانه سيقوده إلى الموت. وهو ينجح في ذلك، على عكس ما كان يمكن لنا أن نتوقع: ينجح إذ يتمكن من تخفيف الجرعة يوماً بعد يوم، وعلى رغم ما أصابه من جراء ذلك من آلام رهيبة. وفي النهاية يتوقف إدمانه. ومن المؤكد أن هذا السياق الذي يتخذه النص يجعله يبدو، للوهلة الأولى، نصاً وعظياً أخلاقياً. غير أن الأساسي ليس هنا. والكتاب السورياليون وغيرهم من الذين سبقوهم في اكتشاف دي كوينسي والشغف بتجربته – من بودلير إلى وايلد إلى هويسمان – لم يخطئوا حين أكدوا تجاوز ذلك الجانب الوعظي، ليتوقفوا فقط عند الشاعرية والعمق اللذين وصف بهما دي كوينسي أحلامه وكوابيسه في لغة متميزة وتعبير صارخ. كان هذا هو الأساس، لأن هذا النص – وعلى الأقل في هذا الجانب منه – كان أشبه بـ”هبوط لذيذ إلى الجحيم” بحسب تعبير هويسمان، حيث أن دي كوينسي، ومن دون أن ينكر الأثر السيء للإدمان تفنن في الحكي عن “فتنة الأحلام” و”روعة الكوابيس” وما يتاح للمدمن من خروج عن “سياق هذا العالم الممل”. ولئن كان كتاب كثيرون قد قاربوا بين نص دي كوينسي و”اعترافات” جان – جاك روسو، فإن الشعراء الحالمين فضلوا دائماً نص دي كوينسي، تحديداً بسبب ما فيه من أحلام وشاعرية ألهمتا الرسامين والموسيقيين باكراً، ثم ألهمتا شبيبة بأسرها خلال الثلث الأخير من القرن العشرين. لغة شاعرية جذابة هنا قد يكون مفيداً أن نذكر أن النص، أصلاً، يتألف من جزءين متداخلين: وصف الأحلام والكوابيس والآلام والتشرد والوحدة من ناحية، وسرد الظروف والتفاصيل التي قادت البطل الشاب إلى ذلك “المصير” من ناحية ثانية. ومن المؤكد أن دي كوينسي بدأ كتابة عمله هذا، عبر وصف الأحلام والكوابيس وما حولها في لغة شاعرية مملوءة بكل ما سيكون من شأنه أن يثير إعجاب وحماسة السرياليين – الذين رأوا في تلك النصوص كتابة تلقائية ومباشرة -، ثم بعد ذلك وإذ انتهى من كتابة هذا كله وقرأه، أضاف إليه – وعلى عجل كما يبدو – النصوص الأخرى التي تتحدث عن ظروف الكتابة وعن الأحداث التي قادت الشاب إلى مصيره. ولعل الجزء الأجمل في هذا النص، بحسب محللي هذا العمل الاستثنائي، هو ذاك الذي يصف فيه الكاتب دي كوينسي أجواء لندن الليلية حين عاشها تائهاً ضائعاً، فإذا بفتاة الهوى الصبية (آن) تأخذ بيده في ذلك الجحيم، كما تفعل بياتريس مع دانتي في “الكوميديا الإلهية”. عائلة وأطفال على رغم كل شيء لقد نال هذا النص حب الرومنطيقيين ثم السورياليين كما أسلفنا، واستخدمه بودلير على نطاق واسع في مجموعته “الفراديس الاصطناعية” كما استوحاه جيرار دي نرفال في “الحلم والحياة”. أما بالنسبة إلى دي كوينسي فإن كتابته له أتت أشبه بترياق، إذ إنه انصرف بعد إنجازه إلى دراساته العملية. وهو كان في الوقت نفسه رب عائلة، إذ تزوج عام 1817 وأنجب ثمانية أطفال، ثم عمل في الصحافة (وكانت كتابة “الاعترافات” جزءاً من ذلك العمل). ولاحقاً تتالت كتبه مثل “القتل كفنّ من الفنون الجميلة” النص الذي انطلق فيه من “ماكبث” و”ثورة التتار”. كما كتب في الاقتصاد وكان ذا نزعة اشتراكية تضعه في خانة مريدي العالم الاقتصادي ريكاردو الذي كان واحداً من ملهمي كارل ماركس. ومات توماس دي كوينسي عام 1859، ليظل – على رغم كل شيء – بالنسبة إلى أبناء جلدته الكاتب الغاضب الذي أرّقته أحلامه وكوابيسه، وأنتج واحداً من أهم النصوص في الأدب الرومنطيقي. المزيد عن: توماس دي كوينسيالسورياليةالنزعة الهيبيةبودليرجيرار دي نرفال 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post زاهر الغافري: الشعر حال اغتراب في الوجود next post “الحياة السرية لجون لو كاريه”: تصوير لقامتين أدبيتين في حالة انهيار You may also like بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: ماجان القديمة …أسرارٌ ورجلٌ... 27 نوفمبر، 2024 «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد 27 نوفمبر، 2024 محمد خيي ممثل مغربي يواصل تألقه عربيا 27 نوفمبر، 2024 3 جرائم سياسية حملت اسم “إعدامات” في التاريخ... 27 نوفمبر، 2024 سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024