الشاعر والمترجم والصحافي اللبناني: القراءة الفعلية هي تلك التي نقوم بها كي نكتشف أنفسنا. ثقافة و فنون اسكندر حبش يبحر بـ’كرب البلشفي’ في تجليات الإبداع والرؤى الفلسفية by admin 11 سبتمبر، 2024 written by admin 11 سبتمبر، 2024 57 The Middle East Online / محمد الحمامصي ‘أعتقد أنني لم أعش إلا لأقرأ . بالأحرى، ربما نسيت أن أعيش، بالمعنى المعاصر للكلمة’ “كإنسان، أودّ أن يُقال عنّي يوما، بأنني امرؤ أنجز بالصدفة المحضة، كتبا… بأنني كنت رجلا ناقض الآخرين، وتناقض مع ذاته، بمعنى أنني عشت وسط الكثير من “الأرواح الميتة“، ووسط كثيرين ممن لم يتناقضوا مع أحد، ولم يناقضوا ذواتهم“. بهذا النص الجميل للكاتب الإيطالي ليوناردو شاشا (1921 ـ 1989) يفتتح الشاعر والمترجم والصحافي اللبناني اسكندر حبش، كتابه “كرب البلشفي.. ترحلات في الكتابة والثقافة” الذي صدر أخيرا عن دار دلمون الجديدة، ويجمع فيه اثنين وثلاثين مقالا تشكل ابحار في تجليات الإبداع والرؤى الفلسفية والنقدية، من بينها مقالات عن روائيين مثل باتريك موديانو وآني أرنو وماركيز ولوكليزيو وتوني موريسون، وبيتر هندكه، لورينزو سيلفا، وشعراء مثل شبيب الأمين، وفلاسفة مثل ابن رشد وجاك دريدا وبول ريكور. يقدم حبش كتابه بمقدمة عنونها بـ “بين ضفتين” تحمل مختلف رؤاه وأفكاره، وينطلق من تساؤل: هل نستطيع، نحن كلنا، الذين نكتب في صفحات الجرائد اليومية، الثقافية، أن نُنتج ثقافة فعلية، أو على أقل تقدير، أن نُنتج “ثقافة يومية”، فيما لو جاز التسمية؟.. ويقول لطالما راودني هل السؤال، عالى مدى أكثر من ثلاثة عقود، وبخاصة في الفترة التي قضيتها محررا في جريدة “السفير” اللبنانية، ومن ثم رئيسا لقسم الثقافة فيها، لطالما أرهقني أيضا، حتى أنه شكل بالنسبة إليّ هاجسا لم أكن أعرف كيف أخرج منه”. ويضيف “كان سؤالي، يقبع في قلب السؤال المعرفي، وأقصد، أي معرفة يمكن لنا أن نحملها إلى القراء، من دون أن يشعروا بأننا نمارس عليهم “أستذة” ما؛ كما أيضا، أي معرفة نحملها إلى المثقف الغارق بين مراجعه، من دون أن تبدو كتاباتنا، بالنسبة إليه، مجرد سطور نملأ بها فراع الصفحة البيضاء، التي تشكل بدورها الهاجس الأول؟. أعود وأسأل: أي ثقافة يمكن لنا أن نقدمها؟ بالتأكيد، لا أطرح سؤال مثلما طرحه مهدي عامل في كتابه “نقد الفكر اليومي “، إذ أن المفكر اللبناني، حين حاول ذلك، كان مشدودا إلى قراءة تلك المرحلة، العائدة إلى النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، قراءة ماركسية، وربما بشكل أدق قراءة ألتوسيرية” ـ نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير ـ لما تنتجه الصفحات الثقافية اليومية، من فكر سياسي وثقافة، عقب اجتياح قوات جيش الكيان الغاصب لمدينة بيروت العام 1982، كي يناقشه وفق “الحقيقة المطلقة ” التي كان يملكها (قبل أن تنهار بالطبع): الحقيقة التاريخية المادية . كان مهدي عامل، صاحب مشروع كوني، لذلك حاول أن يلاحق “المنحرفين” فكريا، بمعنى من المعاني، ليُصوب عليهم مفاهيمه الجادة، لعلهم يتقون”. ويشير حبش “يدخل السؤال الذي طرحته، في البداية من بابه العادي، على الأقل لأني لا أملك هذه الحقيقة المطلقة، ولأنني من المصابين بحب التغيير، إذ أنني أجد لذة كبيرة، حين أشاهد مفاهيمي تتساقط، الواحدة تلو الأخرى، بمعنى آخر، الثابت الوحيد لديّ أن لا شيئ ثابتا سوى مجموعة من القيم. وحتى هذه الأخيرة، تتحول من عصر إلى آخر. حب التغيير هذا كان سببه أيضا سؤال آخر: لم علينا أن نتوقف عند مفهوم معين في الأدب، لتلغي كل المفاهيم الأخرى؟ لم علينا أن ننحاز إلى كاتب ما، متناسين ألوف الكتاب الآخرين؟ ألا يتسع هذا العالم للجميع؟ لذا، ألا تتسع القراءة لمعارف متنوعة آتية من بلدان مختلفة وبلغات مختلفة ومناخات مختلفة؟. الباب العادي الذي أقصده، ينحو إلى الباب التقني بالدرجة الأولى وقبل أ] شيئ آخر؛ هل يستطيع المرء أن يخترع مادة مقبولة، إلى حد ما، كل يوم؟ أو كل أسبوع؟ هل يستطيع أن يقرأ كتابا ويدبج عنه مراجعة في وقت قياسي؟ أسئلة تطرحها طبيعة العمل الصحف، وغالبا ما نواجه مثل هذه الحالات، إّ تعلمك الصحافة درسا لن تنساه؛ لن تخرج الجريدة إلى السوق بصفحات بيضاء، فعليك أن تكتب وتكتب وأن تستمر في الكتابة، حتى لو لم تكن لديك أدنى فكرة عمّا تريد قوله. لا أمزح. فعلا، في أحيان كثيرة تجلس أمام ورقتك وأنت خالي الأفكار، ربما هي كلمة، ربما هي جملة، أو ربما صوت أو حركة، تدفعك إلى الذهاب بعيدا، في هذا الفضاء الذي لا تعرف كيف يبدأ وكيف ينتهي، لتلتقط منه ما تراه مناسبا، لتلك اللحظة الراهنة، التي تكون فيها، أقول لحظة راهنة، لأن ثمة لحظات متغيرة، فيما كنت تعتقد أنه صواب في لحظتها، سوف يبدو لك عديم الأهمية بعد أيام قليلة. ويتساءل مرة أخرى: هل أسئلتي هذه “فعل ندامة” ما، على ما ارتكبته طيلة هذه العقود، يوميا وأسبوعيا وشهريا؟ ويقول “لا أظنن ذلك؛ لذا سأقول إنه نوع من النقد الذاتي ( وأستعير هنا هذه الجملة من إيديولوجية مهدي عامل) إذ غالبا ما تكتشف أن عددا من مقالاتك كان يمكن له أن يكون أفضل، أو أنك نسيت أن تتناول هذه النقطة المهمة في كتاب ما، لتركز حديثك على نقطة أخرى تبدو لكثيرين غير نقطة ثانوية. أضف إلى ذلك أنالبعض يعاتبك لأنك لم تتناول كتابه، أو لم تجر في حياتك مقابلة معه، أو أنك تأخرت في تناول أدبه؛ ربما كانوا ما تضطرك إلى عملية مفاضلة بين الأمور التي تحدث دفعة واحدة؟ فضلا عن أن ثمة حدثا قد يفرض عليك العديد من الأمور. هنا أيضا ينبثق سؤال آخر: على أي أساس ترتكز هذه المفاضلة؟ لا يظنن أحد أن هناك معايير دقيقة وصارمة، لا حياد عنها. الحكم الأول والأخير يعود إلى الذائقة الشخصية، وأيضا إلى المعرفة التي راكمتها داخلك خلال سنين من القراءة، لأنها الأسرع في إيجاد مادة ما، تكون طيعة للتحكم بها. هذه المادة هي في الأساس هذه الثقافة اليومية التي تلاحقنا، إذ في كل يوم نرتكب الكثير من الحماقات لنعود ونكررها في اليوم التالي. ويوضح “تحدثت منذ قليل عن المعرفة التي راكمتها خلال القراءة. أحاول أن أفكر لا في معنى هذه الجملة فحسب، بل في هذه الحياة التي أمضيتها في القراءة. أعتقد أنني لم أعش إلا لأقرأ . بالأحرى، ربما نسيت أن أعيش، بالمعنى المعاصر للكلمة، لأني كنت دائما مشدودا، إلى الكتب، القديمة منها، كما تلك التي تصدر حديثا. أستطيع أن أدعي بأنني كنت متابعا فعليا لما يصدر، ولما يجري لمن أحداث ثقافية في العالمين العربي والغربي (بقدر الإمكان بالطبع). لذا أجدني شيدت حياة كاملة من خلال الكتب. كان الأمر أكثر مما عبر عنه المتنبي حين وصف الكتاب بأنه “خير جليس في الأنام” جليسي فقط، بل كان حياتي بأسرها. بما لأن القراءة الفعلية تبدأ حين لا تقرأ للتسلية والهروب من واقع ما، بل هي هذه المحاولة الجادة لكي تجد نفسك، تجد نفسك في تجارب الآخرين، في لغتهم، في العالم الذي يبنوه أمامك، فالقراءة هي أيضا تجربة. هي أم التجارب برأيي، هي ليست هامشا في الحياة، بل كما أسلفت، هي الحياة على الأقل، هكذا كنت أنظر إلى الأمور، وهكذا مازالت أنظر إليها. ويكشف حبش أن “كرب البلشفي” هو جزء من هذه التجربة في القراءة في الحياة، في الكتابة الأسبوعية. حين أقفلت “السفير” أبوابها في نهاية العام 2016 اتخذت قرارا بأن لا أعود إلى الكتابة الصحفية، على الأقل اليومية، لا تعففا عن المهنة، بل لأنني وجدت أن أكثر من ثلاثين عاما تكفي، لكي أتفرغ لكتابات أخرى، لمشاريع مختلفة، وإن كانت على صلة دائمة بالقراءة والكتابة، كما لأعاود مهنة التدريس، التي توقفت عنها لأعوام قليلة. مضت سنوات على هذه الحال، أنجزت فيها بعض المجموعات الشعرية، كما العديد من الترجمات، وبعض الدراسات. لكن لا أخفي أنني أحسست بحنين ما، إلى هذه المهنة التي سرقت عمري، هل فعلا سرقت عمري؟ لا أعتقد؛ لأني أعترف في هذه اللحظة، أن هذا العمر لم يكن شيئا لولا الصحافة، لولا الكتابة اليومية، لولا هذه المتابعة، التي كانت تنقلني من بلد إلى آخر. التي تجعلني أسافر وأكتشف، وأنا جالس في مكاني، في كثير من الأحيان، القراءة هي سفر بالطبع. هي اكتشاف أمكنة، حيوات، ولغات. ولكن أيضا أجمل ترحال وسفر هما اللذان يحدثان في داخل الذات. بهذا المعنى لا يعد للمسافة أي أهمية. لأن أطول رحلة يمكن لنا أن نقوم بها هي تلك التي تأخذنا إلى داخل ذواتنا، قلت قبل قليل، إن القراءة الفعلية هي تلك التي نقوم بها كي نكتشف أنفسنا. ويتابع إن “كرب البلشفي” هو عودة إلى المتابعة، إلى الكتابة الأسبوعية المنتظمة، في صحيفة عمان؛ هو عودة إلى نشاط، أعود لأكتشف كم يناسبني، كم يعيد صوغ حياتي، بين القراءة والمتابعة، وبالنتيجة إلى الكتابة التي أسافر عبرها، لا نحو بلدان فقط، بل إلى الأهم… إلى داخل هذه الذات التي تتشكل عبر آخرين. لأن الغير ليس جحيما، على لو ما ذهب سارتر، بل هو الآخر الذي يطرح عليك تشكيل وجودك، بالمعنى الليفيناسي (نسبة إلى إلى ليفيناس، الفيسلوف الفرنسي) للكلمة. أما لماذا “كرم البشفي” كعنوان؟ لأجزم هنا: لا علاقة لاعنوان بنقد مهدي عامل للثقافة اليومية، حتى وإن كان يوحي الأمر بذلك عبر ما كتبته في هذا التقديم، بل هو فقط اقتباس آخر، من الكاتب الإسباني لورينزو سيلفا، بالأحرى من روايته “حزن البلشفي”، التي تختتم مقالات هذا الكتاب. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post دراسة: يمكن حقن أسراب من الروبوتات الصغيرة لعلاج النزيف في المخ next post ما تأثير تعليق الشحن التجاري في جسر الملك حسين؟ You may also like فلسطين حاضرة في انطلاق مهرجان القاهرة السينمائي 14 نوفمبر، 2024 أنجلينا جولي تواجه شخصية ماريا كالاس في فيلم جديد 14 نوفمبر، 2024 المسرح الباريسي يتذكر شوينبرغ من خلال 12 حياة... 14 نوفمبر، 2024 الكنز المفقود… ماذا يخفي نهر النيل؟ 13 نوفمبر، 2024 سيمون فتال: السومريون أنتجوا أجمل الفنون وهي الأساس 13 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: نصبان جنائزيان من مقبرة... 13 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: أي دور للكتاب والمبدعين... 13 نوفمبر، 2024 كيف تستعيد الجزائر علماءها المهاجرين؟ 12 نوفمبر، 2024 مثقفان فرنسيان يتناقشان حول اللاسامية في “المواجهة” 12 نوفمبر، 2024 مكتبة لورين غروف تتحدى حظر الكتب في أرض... 12 نوفمبر، 2024