ثقافة و فنونعربي إدوارد سعيد وجان مور… الكاميرا في مواجهة إمبرياليّة إسرائيل by admin 23 سبتمبر، 2021 written by admin 23 سبتمبر، 2021 48 عرب 48 – فسحة \ تيسير أبو عودة تحرير:علي مواسي مناهضة النمط كان إدوارد سعيد على دراية بأهمّيّة الكاميرا بصفتها نصًّا ثقافيًّا طباقيًّا، قادرًا على تشكيل التصوّرات الثقافيّة والسرديّة، والتحكّم بها، خاصّة في ما يخصّ صورة الفلسطينيّين في الداخل وفي الشتات، وفي المركز وفي الهامش. سعيد من مفكّري وناقدي القرن الحادي والعشرين القلائل الّذين يؤمنون بفكرة المثقّف المتشابك مع المجتمع والأدب والمعرفة والعالم؛ فهو الّذي كان يحمل فكرة الجامعة خارج أسوارها، بوصفها فضاء إنتاج الثقافة ومجالها الحيويّ، والتشابك مع القضايا الكبرى، كالصهيونيّة والإمبرياليّة، والآثار الاستعماريّة للنظام العالميّ الجديد، وسؤال الضحيّة في كلّ ركن من هذا العالم؛ فبالإضافة إلى كتبه ومقالاته ومحاضراته، ولقاءاته التلفزيونيّة ومناظراته، كانت الأفلام الوثائقيّة الّتي قدّمها سعيد عن فلسطين جزءًا مهمًّا من مهمّته الأخلاقيّة والعلمانويّة تجاه فلسطين. يُعَدّ الفيلم الوثائقيّ الموسوم «البحث عن فلسطين: عودة إدوارد سعيد للوطن» (1998)، مثالًا ممتازًا على هذا الإرث المرئيّ والمحكيّ لسعيد، فكان صوتًا شجاعًا يدافع عن قضايا المعذّبين في الأرض، على طريقة فرانز فانون. هو ذاته سعيد الّذي وصفه صديقه محمود درويش: “لا تصف ما ترى الكاميرا من جروحك. واصرخ لتسمع نفسك، واصرخ لتعلم أنّك ما زلت حيًّا، وحيًّا، وأنّ الحياة على هذه الأرض ممكنة. فاخترع أملًا للكلام، ابتكر جهة أو سرابًا يطيل الرجاء. وغنّ، فإنّ الجماليّ حرّيّة”[1]. ولأنّ سعيدًا وجان مور على دراية برؤية درويش، في قدرة الكاميرا على الابتعاد عن وصف الجروح والخسارات، واجترار خطاب الضحيّة وإكليشيهاتها النمطيّة؛ جاء كتاب «بعد السماء الأخيرة» (1999) محاولة لمناهضة هذه الصورة النمطيّة، من خلال تصوير الصورة الهامشيّة في حياة الفلسطينيّ في الداخل وفي الشتات؛ فكان الكتاب – جملة وتفصيلًا – ترجمة لفعل الابتكار وسطوة حضور الفلسطينيّ خارج إطار الصورة النمطيّة. جاء كتاب «بعد السماء الأخيرة» (1999) محاولة لمناهضة هذه الصورة النمطيّة، من خلال تصوير الصورة الهامشيّة في حياة الفلسطينيّ في الداخل وفي الشتات… خرج علينا سعيد ومور بصور وسرديّات الفلسطينيّ الطبيب اللاجئ الّذي يعمل في «مستشفى الجامعة الأردنيّة»، والأكاديميّ الّذي يعمل في «جامعة العلوم والتكنولوجيا» في الأردنّ، وبائع الكعك والسمسم، والّذي يلعب الملاكمة، والفتيات اللواتي يلعبن الرياضة في المدرسة، وصورة فزّاعة الحقل المنتصبة بالقرب من خيام بدو بئر السبع، والدكاكين الّتي يتردّد عليها السيّاح في القدس القديمة، وصورة المرأة الفلسطينيّة وابنتها الصغيرة في جنوب لبنان؛ إذ تكتب رسالة إلى زوجها المسجون آنذاك. نصّ هجين كما يعلم قرّاء سعيد، الكارهون منهم والمحبّون، أنّ كتاب «بعد السماء الأخيرة» هو نصّ جماليّ أرشيفيّ ومرئيّ هجين، يلتحم فيه أسلوب المقال بالنصّ الشعريّ، والتأمّليّ بالفلسفيّ، والصورة بالمكتوب، والحسّ الساخر بالسينمائيّ؛ إذ تحتشد الصور الّتي التقطها جان مور عن اليوميّ الراهن في حياة الفلسطينيّين بكلّ ما يُقال وما يُضْمَر، وكأنّها نصّ معزوفة موسيقيّة. وفي نصوص سعيد الّتي يقابلها نصّ آخر تأويليّ يشبه العزف على البيانو، وفي تأويل الصورة الّتي التقطها مور، والنصّ الّذي توسّل به سعيد، نصّ آخر هجين، يحاور الجرح الفلسطينيّ المفتوح، مرّة في زقاق القدس القديمة، ومرّة في أسواق القدس والخليل وحواري نابلس، ومرّة في بئر السبع والجليل ومخيّم جرش والبقعة، وفي الداخل والشتات. يبدو لنا نصّ سعيد الهجين إسقاطًا سيكولوجيًّا وجماليًّا لفعل الصراخ أو الاحتجاج الثقافيّ على آلة الاحتلال الصهيونيّ، كما وصفه درويش، وهو ضرب من العزف والغناء على طريقة أحفاد الشتات والمنفى. لكن سعيد يرفض أن يقدّم نفسه أو السرديّة الفلسطينيّة نصَّ ضحيّة محتشدًا بالبكاء على الأطلال، والتوسّل بـالنوستالجيا وصورة الماضي الساطعة في الذاكرة تمامًا، كما يخاطبه صديقه درويش: “والحنين إلى أمس؟ عاطفة لا تخصّ المفكّر إلّا ليفهم توق الغريب إلى أدوات الغياب. وأمّا أنا فحنيني صراع على حاضر يمسك الغد من خصيتيه”[2]. بل تتأهّب الصور والنصوص أمامنا بكامل تناقضاتها، ومفارقاتها، وقدرتها على السرد والاحتجاب، بصورة تتقاطع مع رواية غسّان كنفاني «عائد إلى حيفا» (1969)[3]؛ إذ تطلّ علينا فلسطين بصيغة الفعل المضارع، وعين الراوي والعدسة المطلّة على فلسطين تحيلنا إلى المستقبل وحقّ العودة، ومشروع التحرير. هو نصّ يشبه الحياة الفلسطينيّة اليوميّة، الّتي تسطع في عين عدسة الكاميرا، لكنّها رؤية واقعيّة ومتخيّلة مناهضة للتضليل التاريخيّ، والتعمية الأيديولوجيّة في الخطاب الصهيونيّ. سطوة الحضور تجلّى التصوير الفوتوغرافيّ شكلًا ثقافيًّا فعّالًا للمقاومة الفلسطينيّة بعد الانتفاضة الثانية، وفي الوقت نفسه اسْتُخْدِمَ سلاح الكاميرا لغايات مساندة القنّاصة والجنود الإسرائيليّين قبل الانتفاضتين الأولى والثانية، فكانت عدسة الكاميرا سلاحًا تقنيًّا وثقافيًّا لا يقلّ أهمّيّة عن الرصاصة والدبّابة والصواريخ في تحديد مكان الهدف، وقياس أبعاد المكان، بل توثيق بعض الأحداث أيضًا من قِبَل ترسانة الجيش الإسرائيليّ، وإذكاء خطاب الدعاية الإسرائيليّة المضلّلة. لقد نشأ جنس أدبيّ خاصّ بهذا النوع من التصوير في إسرائيل، وخاصّة ما يُسَمّى «مذكّرات جنين» عام 2003، الّتي تأسّست على يد الجنديّ الإسرائيليّ جيل ميزومان Gil Mezuman، الّذي كان شاهدًا على الكمين الّذي نُفِّذ في جنين عام 2002، وقُتِلَ فيه قرابة 13 جنديًّا إسرائيليًّا. وفي السياق الثقافيّ والاستعماريّ نفسه، جاء نصّ سعيد «بعد السماء الأخيرة» سرديّة مناهضة لعسكرة الكاميرا، وتحويلها إلى أداة قتل وملاحقة للفلسطينيّين. ويبدو سعيد مأخوذًا بفكرة الكاميرا شكلًا خلّاقًا للتمثّلات الثقافيّة في الداخل الفلسطينيّ، وفي الشتات. وفي السياق الثقافيّ والاستعماريّ نفسه، جاء نصّ سعيد (…) سرديّة مناهضة لعسكرة الكاميرا، وتحويلها إلى أداة قتل وملاحقة للفلسطينيّين. ويبدو سعيد مأخوذًا بفكرة الكاميرا شكلًا خلّاقًا للتمثّلات الثقافيّة… يذكّرنا كلٌّ من والتر بينجامين وسوزان سونتاج أنّ فعل التصوير يستند على فكرتَي الابتكار وسطوة الحضور[4]، والمتتبّع لكلّ الصور الّتي التقطها جان مور، والنصّ السينمائيّ المدهش الّذي كتبه سعيد في كتابه «بعد السماء الأخيرة»، يلاحظ قدرة مور وسعيد الفريدة على الابتكار، وخلق سطوة الحضور، والحركة لتأويلات لا حصر لها لكلّ صفحة من الكتاب، منها سرديّة الفلسطينيّ الحاضر/ الغائب الّتي فرضها الاستعمار الصهيونيّ، وحيويّة الهامشيّ في حياة الفلسطينيّين اليوميّة على اختلاف الطبقات الاجتماعيّة، وتنوّع الحياة في الداخل وفي الشتات. فليس غريبًا، إذن، أن يستوحي إدوارد سعيد عنوان كتابه من قصيدة محمود درويش: “تضيقُ بنا الأرضُ. تحشرُنا في الممرّ الأخيرِ، فنخلعُ أعضاءَنا كَيْ نمرَّ (…) وتعصرُنا الأرضُ مِنْ نوافذِ هذا الفضاءِ الأخير. مرايا سيصقلُها نجمُنا. إلى أينَ نذهبُ بعدَ الحدودِ الأخيرةِ؟ أينَ تطيرُ العصافيرُ بعدَ السّماءِ الأخيرة؟”[5]. النصّ الممنوع وُلِدَت فكرة كتاب «بعد السماء الأخيرة» نصَّ مقاومة جماليًّا ونقديًّا راديكاليًّا، تبنّاه سعيد طوال حياته، وردّة فعل مباشرة على مؤتمر القضيّة الفلسطينيّة في جنيف، عام 1983. كان سعيد آنذاك مستشارًا لمؤتمر القضيّة الفلسطينيّة في «الأمم المتّحدة» عام 1983، الّذي عُقِدَ في جنيف لمناقشة تداعيات حرب إسرائيل على بيروت عام 1982. اقترح سعيد تنظيم معرض للصور الفلسطينيّة، وتعليق بعض الصور عن الداخل الفلسطينيّ والشتات بكلّ أطيافه، في بهو قاعة المؤتمر. انتدب سعيد فورًا المصوّر السويسريّ جان مور للذهاب إلى فلسطين؛ لالتقاط بعض الصور وتعليقها في مدخل قاعة المؤتمر. كان سعيد مأخوذًا بأعمال جان مور وجون بيرغر أيضًا. أنجزت المهمّة بعبقريّة فذّة، وعاد مور بقرابة خمسمئة صورة أدهشت سعيد، لكنّه تلقّى ردًّا رسميًّا غريبًا من القائمين على المؤتمر، وهو عدم السماح له إلّا بتعليق الصور دون كتابة أيّ شيء بجوارها. تفاجأ سعيد ومور بأنّ هذا القرار قد صدر عن حكومات الدول العربيّة، الّتي رفضت أيضًا نشر معظم الأوراق البحثيّة الّتي وصلت سعيد من قِبَل المشاركين، الّتي بلغ عددها عشرين ورقة بحثيّة، قُبِلَ منها ثلاث أوراق فقط، بحجّة أنّ بعض الأوراق يسيء إلى سيادة بعض الحكومات العربيّة وسمعتها. لكن سعيد ومور وشفيق الحوت اجتمعوا في مطعم في جنيف، وكان الاتّفاق على تأليف هذا الكتاب. مروحة كبيرة في الصفحات الأولى من الكتاب، ثمّة صورة لعربة الكعك بالسمسم والذرة المسلوقة، لبائع فلسطينيّ من رام الله بصحبة ابنه الصغير. يحاول سعيد بلغته السويفتيّة الساخرة (نسبة إلى جوناثان سويفت)، أن يحوّل راهنيّة هذا المشهد التصويريّ الروتينيّ في رام الله لنصّ محتشد بالمفارقة والتكثيف البصريّ والمحكيّ والمرئيّ معًا؛ فسيّارة الجيب العسكريّة الّتي عبرت، كما يعلّق عليها سعيد، والحجر الّذي طار في الأفق (على الأغلب حجر رُمِيَ على السيّارة العسكريّة)، ومشهد بائع الكعك بالسمسم والذرة، هي مروحة كبيرة حوّلت النصّ إلى دراما سينمائيّة تتفوّق على روتين المشهد؛ فكثافة السياق الاجتماعيّ للحياة الفلسطينيّة الّتي يمثّلها بائع الكعك بالسمسم، والذرة، تختزل دراما حبّ الفلسطينيّين للحياة تحت الاستعمار[6]، وتشبّثهم بأبسط حقوقهم وسط الزمن المحاصر بالبندقيّة والدبّابة والاستيطان؛ إذ يصبح الشخصيّ والهامشيّ جزءًا أصيلًا من السياسيّ. تفاجأ سعيد ومور بأنّ هذا القرار قد صدر عن حكومات الدول العربيّة، الّتي رفضت أيضًا نشر معظم الأوراق البحثيّة الّتي وصلت سعيد من قِبَل المشاركين (…) لكن سعيد ومور وشفيق الحوت اجتمعوا في مطعم في جنيف، وكان الاتّفاق على تأليف هذا الكتاب. يقف بائع الكعك بالسمسم واثقًا بغريزة الحياة وكنصّ مرئيّ مفتوح، وكأنّه يقرأ علينا أبيات درويش برباطة جأش وأنفة: “حاصر حصارك لا مفرّ”. يعلّق سعيد على الكعك المغمّس بالزعتر والسمسم والسمّاق اللذيذ: “يبدو لي هذا الكعك المغمّس بالسمسم والزعتر والسمّاق أكثر من مجرّد طعام، بل يفتح أمامنا جميعًا طعمًا لا علاقة له بالوجبات، والروتين والحيويّة، أيّ مسافة تلك الّتي تفصلني من الإحساس بتلك الحياة، وأيّ سلاسة ترتحل من خلالها الصورة بكل سهولة، لإرجاء الحواجز الّتي تفصلني عن تلك الصور والإحساس بها”[7]. ننصت هنا جميعًا لمفارقة المنفى لدى سعيد، وهي المسافة الشاسعة والفاصلة بين صورة الوطن وتفاصيله وحاراته وشرابه وطعامه، وبين الوقوف خارج المكان، دون القدرة على استعادة هذه الذاكرة، إلّا من خلال عدسة الكاميرا، أو النصّ المكتوب. يوتوبيا الكاميرا وديستوبيا النكبة ثمّة صورة أخرى لمور تعيدنا إلى نصوص فرانز كافكا الممتلئة بالتطرّف الجماليّ والسورياليّ؛ فنحن أمام طفلين فلسطينيّين من مخيّم البرج الشماليّ في جنوب لبنان، ويبدو الطفل الّذي يلهو في السيّارة المعطّلة والمحطّمة، مع أخته، مبتسمًا لكاميرا مور، أمّا أخته فتقف متوجّسة أو متردّدة أمام عين الكاميرا، كأنّنا أمام دراما النضال الفلسطينيّ في الداخل والشتات على طريقة أنطونيو جرامشي: تفاؤل الإرادة الّذي ترسمه ابتسامة الطفل وأزهار عبّاد الشمس في فصل الربيع، وتشاؤم العقل الّذي يبدو على وجه الطفلة الّتي تقف أمام الكاميرا، والسيّارة الّتي تحاكي استعارة الخرابة وآثار النكبة، والكاميرا هنا هي عين الحدث وصورتها الاجتماعيّة الّتي تكثّف كلّ المتناقضات: ابتسامة الطفل، وتردّد أخته، حطام السيّارة، وخلفها بيت فلسطينيّ من مخيّم برج الشماليّ، وأزهار عبّاد الشمس في شهر أيّار (مايو)، يوتوبيا المستقبل الفلسطينيّ وديستوبيا النكبة. الإحالات البصريّة في الصورة لا تتوقّف عن تأويل الكارثة الفلسطينيّة، والاجتثاث والحياة اليوميّة الّتي يمارسها أطفال النكبة، والّتي تشبه السرد المتقطّع كما يسمّيه الكاتب أمجد ناصر. يكتفي سعيد بالتعليق على الصورة: “هذه السيّارة شاهد على دراما أحداث مجهولة، والأزهار تتفتّح في فصل الربيع. الأطفال يرتدون ملابس جديدة، تبدو أعطية من التبرّعات الّتي تُمْنَح للاجئين. هم اللاجئون – أطفال اللاجئين”[8]. يستطرد سعيد بصفته الراوي الملحميّ في التراجيديا الفلسطينيّة: “يحمل آباؤنا علامات الكارثة على وجوههم، بطريقة غامضة. فجأة أصبح ماضيهم مستباحًا ومجتمعهم منسيًّا؛ كلّهم لاجئون. أمّا أطفالنا فلا يعرفون مثل هذه التجربة؛ فالسيّارات صارت وسيلة للركوب، ولمّا حُطِّمَت صارت كالخرابة الّتي يلعب فيها الأطفال. كلّ شيء مؤقّت، مهجور، وغير ثابت، ولا سيّما أنّ المجتمع الفلسطينيّ، كما في بيروت، قد دُمِّر وسُحِق، دون توثيق لهذه الكارثة، وكأنّهم شعب لا قيمة له”[9]. الإحالات البصريّة في الصورة لا تتوقّف عن تأويل الكارثة الفلسطينيّة، والاجتثاث والحياة اليوميّة الّتي يمارسها أطفال النكبة، والّتي تشبه السرد المتقطّع كما يسمّيه الكاتب أمجد ناصر. ورغم هذه النبرة التراجيديّة في الصورة، والتصوير الّذي يرويه سعيد بوصفه الراوي الشاهد، فإنّ صورة الضحيّة هنا ليست القفلة الّتي يتوسّل بها النصّ والصورة، بل هي سرد متقطّع لحياة الفلسطينيّين وآلامهم وآمالهم، وتشبّثهم بالحياة والصمود، رغم كلّ آثار النكبة الّتي نقرؤها في وجوههم، وعيونهم، وفضائهم الخاصّ والعامّ. وهنا تبدو صورة الرجل العجوز الرملاويّ المشعّ بالحياة والعزيمة وقوّة الشكيمة، وهو يرتدي نظّارة إحدى عدساتها مكسورة، متشظّية تمامًا كحياة الفلسطينيّين. يذكّرنا هنا سعيد بقصّة شفيق الحلبي المخجلة، وهو فلسطينيّ عمل مذيعًا لـ «راديو إسرائيل»، وكتب كتاب «قصّة الضفّة الغربيّة» عام 1982. ورغم التحيّز الواضح في الكتاب ضدّ الفلسطينيّين، ورغم النزعة الصهيونيّة الجليّة لدى حلبي، وتسليمه بالرواية الصهيونيّة، إلّا أنّه يفصح عن عنصريّة الكيان الصهيونيّ في تعامله مع كلّ مواطن ليس يهوديًّا. يعود سعيد مجدّدًا ليرسم لنا سرديّة أخرى مناهضة لسرديّة شفيق الحلبي، وهي صورة هذا الرجل الرملاويّ واستعارة النظّارة والعدسة المكسورة. يبدو سعيد هنا مندهشًا مثلنا تمامًا من كثافة التفاؤل في وجه هذا الرجل الرملاويّ، الّذي لم يخلع نظّارته أثناء الوقوف أمام عدسة الكاميرا، وكأنّه لا يبالي بسؤال الضحيّة ولا سؤال الجلّاد، بل مشغول بسؤال الحياة بقضّها وقضيضها! يقول سعيد في سياق حديثه عن صورة الفلسطينيّين بوصفهم ضحايا، إرهابيّين، أو لاجئين: “لا يفصح وجه هذا الرجل عن أيّ علامة من علامات الوهن أو الشفقة؛ بل إنّه يمتلك وجهًا قويّ الملامح، ممتلئًا بالحيويّة، وتعابير وجهه الباسم تفصح عن أصالة لا مراء فيها، تعكس روح الضيافة، ورغم وجود مسحة غامضة من الحزن النبيل في محيّاه، إلّا أنّ ملامحه تعكس أيضًا صفة جذّابة أخرى، وهي أنفة متواضعة”[10]. يدرك سعيد هنا هذا التناقض المتآلف بين تلك النظّارة المشروخة وتماهيها مع واقع النكبة واللجوء والشتات، وبين تلك النظرة الثاقبة، والرؤية العميقة في وجه هذا الرملاويّ، الّذي تبدو كوفيّته الفلسطينيّة، وابتسامته الصاخبة، ورباطة جأشه، استعارة أصيلة لمعنى الصمود الجمعيّ للشعب الفلسطينيّ، وقدرة الفلسطينيّين على ترويض الصعاب وتذليل سطوة الاستعمار الاستيطانيّ، حتّى بدت الندبة أو الشرخ في عدسة النظّارة، كما يصوّرها سعيد، رمزًا خارجيًّا للنظّارة، وليس لصاحبها[11]. يصبح النصّ والصورة لازمة مضمرة لضمير الفلسطينيّين في الداخل والشتات؛ فكلّ إيماءة، أو حركة، أو استعارة لسان حالها يقول: “وغنّ، فإنّ الجماليّ حرّيّة”. …….. إحالات [1] محمود درويش، كزهر اللوز أو أبعد (لندن: رياض الريّس، 2005)، ص 194. [2] المرجع نفسه، ص 190-191. [3] غسّان كنفاني، عائد إلى حيفا، ط2 (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة، 1980). [4] Sontag, Susan, On Photography, 3rd edition, (New York: Picador, 1977), p.87. [5] درويش، ورد أقلّ، ط 6 (بيروت: دار العودة، 1993)، ص 17. [6] Said, Edward and Jean Mohr, After the Last Sky, 1st edition, (New York: Columbia University Press, 1999), p.16. [7] Ibid, p.18. [8] Ibid, p.21. [9] Ibid. [10] Ibid, p.128. [11] Ibid, p.128. تيسير أبو عودة باحث وشاعر فلسطينيّ يقيم في الأردنّ، متخصّص في الأدب المقارن ودراسات ما بعد الاستعمار. المزيد عن: التصوير \الكاميرا \العدسة \إدوارد سعيد \جان مور \محمود درويش \تصوير حياة الفلسطينيين \الاستعمار \غسان كنفاني \دراسات ما بعد الاستعمار 50 comments 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post لماذا نتخلّى قوميًّا عن التوراة لصالح إسرائيل؟ | حوار next post “مدرسة الروابي للبنات”… كيف يصير الإنسان الهشّ عنيفًا؟ You may also like فاز بجائزتي كتارا ونجيب محفوظ.. محمد طرزي: لا... 12 يناير، 2025 عن فلسطين.. في مرآة نعوم تشومسكي وإيلان بابيه 12 يناير، 2025 عودة يوسف حبشي الأشقر رائد الرواية اللبنانية الحديثة 12 يناير، 2025 مأساة ترحيل الجورجيين من روسيا يرويها فيلم “القديم” 12 يناير، 2025 صرخات المصرية جويس منصور في فرنسا 12 يناير، 2025 عندما يتحول التأويل الثقافي حافزا على عدم الفهم 12 يناير، 2025 مهى سلطان تكتب عن : الرسام الهولندي موندريان... 12 يناير، 2025 ليلى رستم تسافر إلى “الغرفة المضيئة” في الوجدان 12 يناير، 2025 زنوبيا ملكة تدمر… هل يسقطها المنهج التربوي السوري... 11 يناير، 2025 (15 عرضا) في مهرجان المسرح العربي في مسقط 11 يناير، 2025 50 comments folgory 23 سبتمبر، 2021 - 8:25 ص Very nice article, exactly what I needed. Reply 마사지 추천업소 23 سبتمبر، 2021 - 9:23 ص It’s difficult to find knowledgeable people on this topic, however, you sound like you know what you’re talking about! Thanks Reply 대구출장 접속안내 23 سبتمبر، 2021 - 9:32 ص Way cool! Some extremely valid points! I appreciate you writing this write-up and also the rest of the website is also really good. Reply 대구op 접속안내 23 سبتمبر، 2021 - 9:34 ص It’s wonderful that you are getting ideas from this piece of writing as well as from our discussion made here. Reply 분당오피 23 سبتمبر، 2021 - 9:37 ص I really love your blog.. Very nice colors & theme. Did you develop this site yourself? Please reply back as I’m trying to create my own personal site and want to find out where you got this from or just what the theme is called. Many thanks! Reply 라이브바카라 23 سبتمبر، 2021 - 9:37 ص A motivating discussion is definitely worth comment. There’s no doubt that that you should publish more about this topic, it might not be a taboo matter but generally people do not discuss these issues. To the next! Best wishes!! Reply 오산오피 23 سبتمبر، 2021 - 9:39 ص you’re truly a good webmaster. The web site loading pace is amazing. It kind of feels that you are doing any distinctive trick. Also, The contents are masterpiece. you have done a great task in this topic! Reply 마사지 방문후기 23 سبتمبر، 2021 - 9:48 ص My brother recommended I might like this blog. He was totally right. This post truly made my day. You cann’t imagine simply how much time I had spent for this information! Thanks! Reply Satta matka 23 سبتمبر، 2021 - 9:54 ص Your way of explaining all in this paragraph is actually pleasant, all can without difficulty know it, Thanks a lot. Reply hacker keyboard apk 23 سبتمبر، 2021 - 9:57 ص Hi there, I enjoy reading through your article post. I like to write a little comment to support you. Reply 송탄오피 23 سبتمبر، 2021 - 9:57 ص After I originally left a comment I seem to have clicked on the -Notify me when new comments are added- checkbox and now every time a comment is added I get four emails with the same comment. Perhaps there is a means you can remove me from that service? Thanks a lot! Reply find out here 23 سبتمبر، 2021 - 10:02 ص Remarkable! Its truly awesome article, I have got much clear idea about from this article. Reply ut9win 23 سبتمبر، 2021 - 10:06 ص Thanks for another informative website. Where else may I get that kind of information written in such a perfect method? I have a venture that I am just now operating on, and I have been on the look out for such information. Reply 대구의밤 주소변경 23 سبتمبر، 2021 - 10:07 ص Great article! We are linking to this great post on our site. Keep up the good writing. Reply 1인샵 방문후기 23 سبتمبر، 2021 - 10:08 ص I am genuinely grateful to the holder of this website who has shared this impressive article at here. Reply 로미로미 추천업소 23 سبتمبر، 2021 - 10:09 ص Howdy great website! Does running a blog such as this take a great deal of work? I have very little knowledge of programming but I was hoping to start my own blog in the near future. Anyways, if you have any suggestions or techniques for new blog owners please share. I understand this is off topic however I just needed to ask. Kudos! Reply oversized mailbox covers magnetic 23 سبتمبر، 2021 - 10:13 ص You’re so interesting! I don’t suppose I have read through a single thing like that before. So good to discover somebody with some unique thoughts on this issue. Really.. thank you for starting this up. This web site is one thing that is needed on the web, someone with a bit of originality! Reply 澳洲 買 車 23 سبتمبر، 2021 - 10:24 ص There is definately a great deal to knolw about this subject. I like all of the points you made. my web blog … 澳洲 買 車 Reply 30a beach mortgage rates 23 سبتمبر، 2021 - 10:27 ص Wow, this post is good, my younger sister is analyzing these kinds of things, thus I am going to convey her. Reply 1인샵 추천업소 23 سبتمبر، 2021 - 10:33 ص It’s appropriate time to make some plans for the future and it’s time to be happy. I have read this post and if I could I desire to suggest you some interesting things or advice. Maybe you can write next articles referring to this article. I desire to read more things about it! Reply Rachel 23 سبتمبر، 2021 - 10:33 ص I’m really impressed with your writing talents and also with the layout to your weblog. Is that this a paid topic or did you modify it your self? Either way keep up the excellent high quality writing, it is rare to look a nice weblog like this one today.. Reply pkv games 23 سبتمبر، 2021 - 10:37 ص I’ve been browsing online more than three hours today, yet I never found any interesting article like yours. It’s pretty worth enough for me. Personally, if all website owners and bloggers made good content as you did, the internet will be much more useful than ever before. Reply 로미로미 추천 23 سبتمبر، 2021 - 10:45 ص I pay a visit day-to-day some blogs and information sites to read posts, however this web site offers quality based writing. Reply เทรด forex 23 سبتمبر، 2021 - 11:03 ص Effectively, all of the above are uses of recycled silica gel beads. Whereas the Silica Gel Packets are discovered contained in the food packets as nicely, and if by mistake one chews the pouch, it cannot trigger any acute or chronic illness however could cause downside. So, besides doing train, additionally should keep away from excessive sugar and high fat food. So, you possibly can eat some red bean or Chinese language yam or the motion of up leg to away edema. So, if you wish to slim fat thigh efficiently, the key is robust spleen and smooth water. Finally after permitting the nail enhancements to dry the hand should be washed with water and mild soap as it removes any residues of dirt and dust which may need settled on the nails while sprucing it.. After every 35 to 45 minutes, take the gel and drink a lot of water to aid in speedy absorption. It is sweet to paint the nails while watching a preferred television show or when one has got plenty of free time. Reply star vegas slot 23 سبتمبر، 2021 - 11:12 ص Thank you a lot for sharing this with all folks you really recognize what you’re speaking approximately! Bookmarked. Kindly additionally talk over with my web site =). We could have a link trade agreement between us Reply พุงยุบ 23 سبتمبر، 2021 - 11:41 ص A fascinating discussion is definitely worth comment. I do believe that you ought to write more about this subject matter, it may not be a taboo matter but usually people do not djscuss such subjects. To the next! Beest wishes!! Reply judi online 23 سبتمبر، 2021 - 11:44 ص Stunning quest there. What happened after? Thanks! Reply OliviaVow 23 سبتمبر، 2021 - 12:03 م Совершенно верно! Мне нравится эта идея, я полностью с Вами согласен. — Конечно. И я с этим столкнулся. Можем пообщаться на эту тему. Здесь или в PM. android, android уроки и тут shapr3d android Reply songbuyer.Com 23 سبتمبر، 2021 - 12:06 م Hey are using Wordpress for your site platform? I’m new to the blog world but I’m trying to get started and set up my own. Do you require any html coding expertise to make your own blog? Any help would be really appreciated! Reply 로미로미 추천업소 23 سبتمبر، 2021 - 12:13 م I am sure this article has touched all the internet visitors, its really really fastidious piece of writing on building up new website. Reply 마사지 방문후기 23 سبتمبر، 2021 - 12:17 م Excellent article. I will be facing many of these issues as well.. Reply 바카라사이트추천 23 سبتمبر، 2021 - 12:20 م When some one searches for his vital thing, so he/she wants to be available that in detail, thus that thing is maintained over here. Reply 로미로미 방문후기 23 سبتمبر، 2021 - 12:26 م An intriguing discussion is worth comment. There’s no doubt that that you need to write more on this issue, it may not be a taboo subject but typically folks don’t speak about such topics. To the next! Kind regards!! Reply have a peek at this site 23 سبتمبر، 2021 - 12:29 م This info is priceless. Where can I find out more? Reply 대구키방 긴급주소 23 سبتمبر، 2021 - 12:32 م Hello, i think that i noticed you visited my site thus i got here to return the prefer?.I am attempting to in finding issues to improve my website!I assume its adequate to use a few of your concepts!! Reply 로미로미 추천 23 سبتمبر، 2021 - 12:45 م Having read this I believed it was rather informative. I appreciate you finding the time and energy to put this information together. I once again find myself personally spending a significant amount of time both reading and leaving comments. But so what, it was still worthwhile! Reply 세종오피 23 سبتمبر، 2021 - 1:32 م Thanks for finally writing about > إدوارد سعيد وجان مور… الكاميرا في مواجهة إمبرياليّة إسرائيل – CANADA VOICE < Loved it! Reply مای میکاپ استوری 23 سبتمبر، 2021 - 1:34 م It’s a pity you don’t have a donate button! I’d certainly donate to this fantastic blog! I guess for now i’ll settle for bookmarking and adding your RSS feed to my Google account. I look forward to new updates and will share this website with my Facebook group. Talk soon! Reply 인터넷카지노 23 سبتمبر، 2021 - 1:38 م This is very interesting, You’re a very skilled blogger. I have joined your feed and look forward to seeking more of your great post. Also, I have shared your website in my social networks! Reply myfiosgateway 23 سبتمبر، 2021 - 1:39 م I’m not certain the place you are getting your information, but great topic. I must spend a while learning much more or working out more. Thank you for excellent info I was on the lookout for this info for my mission. Reply казино онлайн украина рейтинг 23 سبتمبر، 2021 - 2:07 م (39,81 млн руб. по курсу ЦБ на 29 сентября 2020 г.). Here is my homepage; казино онлайн украина рейтинг Reply 순천오피 23 سبتمبر، 2021 - 2:15 م First off I want to say excellent blog! I had a quick question that I’d like to ask if you don’t mind. I was interested to find out how you center yourself and clear your thoughts before writing. I’ve had a tough time clearing my thoughts in getting my thoughts out. I do take pleasure in writing however it just seems like the first 10 to 15 minutes are usually wasted simply just trying to figure out how to begin. Any recommendations or hints? Kudos! Reply 건마 추천업소 23 سبتمبر، 2021 - 2:34 م I’m not that much of a online reader to be honest but your sites really nice, keep it up! I’ll go ahead and bookmark your website to come back later on. Cheers Reply jadwal training 23 سبتمبر، 2021 - 2:41 م Hmm is anyone else experiencing problems with the images on this blog loading? I’m trying to find out if its a problem on my end or if it’s the blog. Any suggestions would be greatly appreciated. Reply funny 23 سبتمبر، 2021 - 2:44 م I’m not positive where you are getting your information, but great topic. I must spend some time learning much more or figuring out more. Thank you for wonderful info I was in search of this info for my mission. Reply 구미오피 23 سبتمبر، 2021 - 2:49 م It’s actually a great and useful piece of info. I am happy that you just shared this helpful information with us. Please keep us informed like this. Thanks for sharing. Reply 마사지 업소 23 سبتمبر، 2021 - 2:49 م Hi there! Would you mind if I share your blog with my twitter group? There’s a lot of people that I think would really enjoy your content. Please let me know. Many thanks Reply cubeetle 23 سبتمبر، 2021 - 3:03 م I simply couldn’t depart your site before suggesting that I actually loved the standard info a person provide to your visitors? Is gonna be back regularly in order to investigate cross-check new posts Reply more info 23 سبتمبر، 2021 - 3:06 م Thank you, I have recently been searching for info approximately this subject for a long time and yours is the greatest I’ve discovered so far. But, what in regards to the bottom line? Are you positive concerning the source? Reply rdiet 23 سبتمبر، 2021 - 3:08 م Excellent article. Keep posting such kind of info on your site. Im really impressed by your site. Hi there, You have performed an excellent job. I will definitely digg it and in my opinion suggest to my friends. I’m sure they will be benefited from this web site. Reply Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.