يُعدّ العراق من بين الدول التي تضم أكبر عدد من المفقودين في العالم (لجنة الصليب الأحمر) عرب وعالم أين هم؟ عائلات عراقية ما زالت تقتفي أثر المغيبين قسرا by admin 17 أبريل، 2025 written by admin 17 أبريل، 2025 35 ترجح التقديرات أن عدد المفقودين يتراوح بين 200 ألف إلى مليون مختف اندبندنت عربية / آية منصور صحفية عراقية @aya_mansour_11_ مساء الـ19 من سبتمبر (أيلول) عام 2020، خرج سجاد العراقي من منزله في مدينة الناصرية جنوب العراق بعد أن نسق هاتفياً مع أصدقائه لزيارة شاب مريض. وبعد أقل من ساعة، انقلبت مواقع التواصل إلى ساحة تحذير وإنذار من اختفاء سجاد. خوفاً على والدته، قال شقيقه إن “سيارات حكومية أخذته”، لكن الحقيقة أنه اختطف فور مغادرته المنزل. في الأيام الأولى، كان الأمل يعلو على الخوف، ظنّوا أن سجاد سيعود وأن الدولة ستستجيب، وأن الاختطاف حادث عارض في نظام مضطرب. لكن الأمور سارت بعكس ما يتمنون. “العائلة أعطت كل التفاصيل للأجهزة الأمنية منذ اليوم الأول، لكن هناك من أوقف الأجهزة من أن تتحرك، وهناك من كان متواطئاً، الدولة صمتت” على حد قول شقيقه عباس. “لا تنسوني” “لا تنسوني”… هذه كانت آخر كلمات نطق بها الناشط البارز في احتجاجات الناصرية، سجاد العراقي، قبل أن يختفي. سكت شقيقه عباس عن خبر الاختطاف أمام والدته، مدعياً أن الشرطة هي من اعتقلته، لكن الحقيقة سرعان ما انكشفت مع تدفق الجيران والأصدقاء إلى بيت العائلة. “كان يوماً أسود” يقول عباس، “حين عرفت أمي انهارت وهي إلى اليوم منهارة وصحتها تتدهور سريعاً”. يومها وبعد ساعات على خطفه، أعلن قائد شرطة ذي قار التعرف إلى هوية أحد الخاطفين، الذين اختطفوه بدوافع سياسية مباشرة، بسبب نشاطه في الاحتجاجات العراقية 2019. القانون العراقي لا يعرّف الإخفاء القسري تعريفاً خاصاً أو يعالجه كمصطلح قانوني مستقل (لجنة الصليب الأحمر) صدرت أحكام بالإعدام غيابياً بحق بعض الخاطفين، لكنهم الآن في دول الجوار محميون هاربون بينما عائلة سجاد تعيش بين الموت والحياة، والسؤال الذي يردده أفراد العائلة من دون الحصول على جواب شافٍ: أين هو؟ 5 أعوام مضت ولم يعد. يوضح شقيقه عباس أنهم أكملوا إجراءات الإنتربول، رفعوا الملف إلى رئيس الوزراء العراقي الحالي محمد السوداني كما فعلوا مع من سبقه، نالوا تعاطفاً ودعماً معنوياً ووعوداً بإيجاده، لكن الوعود لم تثمر أفعالاً على الأرض. زارتهم منظمات دولية، كُتبت تقارير، صُورت وثائقيات، “وصل الملف إلى يد الممثلة الخاصة للأمين العام لبعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق حينها جينين هينيس بلاسخارت، لكنه بقي طي النسيان”، بحسب عباس. حتى خيمتهم التي نصبوها أمام مبنى المحافظة تعرضت لمحاولة اغتيال جماعي، وذلك حين هاجم 10 أشخاص الخيمة مطلقين الرصاص على من بداخلها عند منتصف الليل، لكن كل من فيها نجا بأعجوبة. يبين الشقيق أن “شرارة الناصرية، تلك التي اشتعلت لاحقاً في احتجاجات دامية، لم تكن إلا صدىً لقضية سجاد. اسمه كان يتردد على لسان من هتف بالحرية وصوره ملأت الجدران”. ويتابع “نظمنا تظاهرات لأيام طويلة متتالية طالبنا وناشدنا المعنيين بالتحرك، لم نذق طعم الراحة منذ اختطافه، لا نعرف ليلنا من نهارنا. سنبقى نصرخ حتى لو خذلنا الجميع”. اختُطف سجاد في وضح النهار وأمام مرأى الدولة وصمتها. لكن سجاد ليس إلا فصلاً في كتاب الغياب الطويل. تنتظر آلاف العائلات العراقية مصير أبنائها المغيبين خلال الصراعات والانهيارات الأمنية التي مزقت البلاد عبر عقود. تبدأ المأساة بلا تاريخ انتهاء، وتمضي الحياة مثقلة بالفراغ. شهد العراق خمس موجات رئيسة من الإخفاء القسري خلال نصف قرن من الحروب والانقلابات (لجنة الصليب الأحمر) أصدر فريق الأمم المتحدة المعني بحالات الاختفاء القسري، في آخر تقرير له، وصفاً قاسياً لوضع البلاد، معتبراً أن العراق شهد “خمس موجات من الإخفاء القسري”، تبدأ من حكم حزب البعث (1968 – 2003)، مروراً بأعوام الاحتلال الأميركي والاقتتال الطائفي وصعود “داعش”، وصولاً إلى قمع الاحتجاجات الشعبية ما بين 2018 و2020، وترجح التقديرات أن عدد المفقودين يتراوح بين 200 ألف إلى مليون مفقود. لكن المأساة لا تبدأ مع سجاد، ولا تنتهي معه، فوفقاً لتقرير صادر عن لجنة الأمم المتحدة المعنية بحالات الإخفاء القسري، فإن العراق شهد خمس موجات رئيسة من الإخفاء القسري خلال نصف قرن من الحروب والانقلابات والاحتلالات. الموجة الأولى تعود إلى زمن حكم البعث (1968–2003)، حين اختفى نحو 290 ألف شخص، من ضمنهم 100 ألف كردي ضمن حملة الإبادة الجماعية في كردستان. الموجة الثانية جاءت خلال غزو العراق عام 2003 وما بعده، إذ احتجزت القوات الأميركية وحلفاؤها ما لا يقل عن 200 ألف عراقي، بينهم 96 ألفاً أودعوا سجوناً أجنبية من دون أوامر قضائية. الموجة الثالثة رافقت صعود تنظيم “داعش” وما تبعه من اجتياح لمساحات شاسعة من العراق بين 2014 و2017، حيث وثقت جرائم قتل جماعي واختفاء آلاف الرجال والفتيان خصوصاً في المناطق السنية، خلال عمليات استعادة المدن من قبضة الإرهاب. الموجة الرابعة تزامنت مع عمليات بعض الفصائل، حيث اختفى آلاف آخرون أثناء أو بعد المعارك في ظروف يلفها الغموض. أما الموجة الخامسة فكانت الأعنف نفسياً، إذ طاولت شباباً خرجوا إلى الشوارع في احتجاجات تشرين 2019، ليتحول بعضهم إلى أسماء معلقة على لافتات بلا خبر ولا أثر. وطالبت الأمم المتحدة في تقريرها العراق باتخاذ إجراءات فورية وجذرية، منها تشكيل لجنة مستقلة لتقصي الحقائق والتدقيق في سجلات الاحتجاز ووضع تشريعات تمنع تكرار الانتهاكات وتلبي حقوق الضحايا. بعد الحظر لم يعد مساء 21 يوليو (تموز) 2003، وبعد ساعات من إعلان مقتل عدي وقصي صدام حسين، عاشت بغداد ليلة مرعبة مع إطلاق نار عشوائي ابتهاجاً. في ذلك اليوم، عاد نجم عبدالله إلى منزله بعد يوم طويل، تناول العشاء مع زوجته وبناته الأربع، وقضى سهرة عائلية معتادة. ثم في اليوم التالي، غادر بيته في منطقة بغداد الجديدة لإيصال أولاد عمّه إلى منزل خالتهم في مدينة الصدر شرق بغداد، ولم يعد بعدها. تقول ابنته الكبرى نقاء، التي كانت تبلغ 17 سنة حينها “كان من المفترض أن يعود قبل الساعة الـ11 ليلاً، أي قبل موعد الحظر الأميركي بساعة. لكنه لم يعد، ومع مرور الوقت بدأنا نشعر بالخوف. عند منتصف الليل، خرج خالي للبحث عنه لكن بلا جدوى”. بدأت العائلة جولات البحث التي استمرت أعواماً، تنقلت بين مراكز الشرطة والمستشفيات، ثم إلى السجون التي كانت تديرها القوات الأميركية مثل أبو غريب وبوكا والمطار. لاحقاً ظهرت إشاعات حول وجوده في معتقلات سرية، وكان هناك من يدّعي أنه يعرف مكانه طالباً المال، لكن المحاولات كلها باءت بالفشل. نجم عبدالله، الذي كان يبلغ من العمر 44 سنة، لم يكن منخرطاً في أي نشاط سياسي أو عسكري، تصفه ابنته بالرجل المسالم وتقول “الجميع كان يحذره من الاعتقال، إذ كان يعبر عن رفضه للجرائم التي ارتكبها النظام السابق علناً”. وعلى رغم هذا، لم تتوقع العائلة أن يختفي من دون أثر بعد سقوط النظام. تقول نقاء “مررنا بمآسٍ كثيرة بعد اختفائه. جدي توفي من الحزن، وخالي الذي كان يرافق والدي في بحثه تعرض لحادث مميت. حتى بعد أن اعتُبر والدي ‘شهيد إرهاب‘، لم نشعر أن ذلك أنصفه. كان الأمر أشبه بأن يُقتل أحدهم ثم يُمنح بعض الأوكسجين بعد فوات الأوان”. مرت 22 عاماً على اختفاء نجم، وما زالت عائلته تأمل في عودته. تتابع نقاء، وهي اليوم على مشارف الـ40: “تخيلته عائداً يوم تخرجي ويوم زفافي وحين أنجبت طفلي الأول. لم نفقد الأمل يوماً في أن يطرق الباب فجأة، ويعود”. طالبت الأمم المتحدة في تقريرها العراق بتشكيل لجنة مستقلة لتقصي الحقائق والتدقيق في سجلات الاحتجاز (لجنة الصليب الأحمر) برامج دعم لا تنتهي تقول هبة عدنان، المتحدثة الرسمية باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في العراق، في حديث لـ”اندبندنت عربية”، إن “العيش على حافة الانتظار من دون يقين أو خبر، يترك ندوباً لا تُرى على وجوه عائلات المفقودين، لكنها تسكن يومهم بالكامل”. “يتوقف الزمن عند لحظة الفقدان وتعلّق الحياة في انتظار الإجابة”، تضيف عدنان، مشيرة إلى أن 44 في المئة من عائلات المفقودين أفادت بأن الأثر النفسي والاجتماعي للفقدان هو التحدي الأكبر، يليه العبء الاقتصادي، لا سيما على النساء اللواتي وجدن أنفسهن في موقع المعيل بعد غياب الأزواج. ومنذ عام 2021، شرعت اللجنة بتنفيذ برامج دعم متعددة في عدد من مناطق العراق لتخفيف هذا العبء، شملت المرافقة النفسية والقانونية والاقتصادية. وفي عام 2024 تلقّت 471 عائلة هذا النوع من الدعم في مناطق بينها الصقلاوية وشمال بابل وسنجار وتلعفر وخانيك. لكن عمل اللجنة لا يقتصر على المرافقة، إذ تتيح للعائلات تقديم طلبات بحث عبر مكاتبها أو مركز التواصل المجتمعي، وتُفتح لكل حالة قاعدة بيانات تبقى مفتوحة من دون تاريخ انتهاء، حتى العثور على إجابة أو بطلب من العائلة نفسها. وتوضح عدنان أن اللجنة تسعى عبر الحوار مع السلطات، إلى معرفة مصير المسجلين لديها. وفي عام 2024، استقبلت اللجنة أكثر من 1500 طلب بحث جديد، وتمكنت من توضيح مصير 343 شخصاً، بينما تمكنت سلطات الطب العدلي من التعرف إلى رفات 79 مفقوداً. “هذه آخر طلعة لي وأريد أن أرتاح بعد”… بهذه العبارة اختتم حسن كاظم حديثه مع زوجته قبل أن يغادر منزله فجراً في محافظة واسط، قاصداً محافظة كركوك في رحلة عمل لم تكن الأولى من نوعها، لكنها كانت الأخيرة. كان ذلك في الخامس من رمضان عام 2009، ولم يبدُ عليه أي اضطراب أو قلق في ذلك اليوم، بحسب رواية زوجته. تنتظر آلاف العائلات العراقية مصير أبنائها المغيبين خلال الصراعات (لجنة الصليب الأحمر) كان حسن، الذي يعمل في بيع المفروشات في القرى النائية شمال العراق، معتاداً على مغادرة منزله عند الساعة الثالثة فجراً، والبقاء لثلاثة أيام متواصلة خارج البيت. وفي كل مرة، ما إن يصل إلى كركوك حتى يتصل بزوجته لإيقاظ أطفالهما من أجل الذهاب إلى المدرسة. لكن صباح ذلك اليوم، لم يرنّ الهاتف. انتاب القلق الزوجة التي سارعت لإبلاغ أشقاء زوجها وذويها، وبدأ الخوف يتسلل إلى الجميع، خصوصاً أن البلاد كانت في خضم توترات طائفية دامية. بدأت العائلة رحلة بحث مضنية لم تُسفر عن شيء. لم يكن هناك شهود ولا أدلة ولا حتى أثر لسيارته. بعض الأقارب افترضوا أنه ربما تعرّض للاعتقال، فيما ذهب آخرون إلى فرضيات أقل درامية: سرقة هاتفه، أو حادث سير. “راجعنا المستشفيات والسجون ومراكز الشرطة وطرق السفر، تواصلنا مع الأمن لكن بلا نتيجة”، يقول إدريس رحيم، ابن اخته. الجهات الأمنية العراقية أبدت تعاوناً أولياً، بحسب العائلة، لكنها لم تقدم أي معلومة قاطعة. وعلى رغم عدم إغلاق القضية رسمياً، لم تظهر أي تطورات طوال الأعوام التالية. ألم لا يشبه الموت مرت 15 عاماً على غيابه، وعلى رغم مرور الوقت لا يزال ألم الغياب حاضراً، يُعاد استحضاره في الأحاديث العائلية. “الحنين لا يموت”، تقول زوجته، “الغياب صار واقعاً نتعايش معه، لكن القلوب لا تهدأ”. يقول إدريس “هو ليس ميتاً لنرثيه ولا حياً لنحتضنه”. “كان أباً صالحاً”، تقول زوجته و”لم يتردد لحظة في العمل على رغم تحذيرات أشقائه وأبناء أعمامه من خطورة السفر”، وتؤكد أنه دائماً ما كان يرد عليهم قائلاً “عائلتي قبل كل شيء”. دور السلطات أم المنظمات؟ على رغم أن المسؤولية الأولى في الكشف عن مصير الأشخاص المفقودين وتقديم الإجابات لعائلاتهم تقع على عاتق السلطات، فإن اللجنة الدولية للصليب الأحمر في العراق تنفذ منذ عام 1991 سلسلة من الأنشطة الهادفة إلى دعم جهود الوقاية من الفقدان، وتقديم العون للعائلات التي تنتظر خبراً أو أثراً. وتعمل اللجنة من خلال شراكاتها مع الجهات المعنية على البحث عن المفقودين الأحياء أو دعم عمليات استعادة وتحديد هوية الرفات البشرية، مستندة إلى مبدأ ثابت: المفقود يبقى مفقوداً بصرف النظر عن زمن أو مكان أو سبب الفقدان. لا تصنيفات تُلغي وجع الانتظار أو تُخفف من وطأة الغياب. تقول هبة عدنان إن غياب السجلات وقواعد البيانات المركزية من أبرز العوائق التي تعرقل فهم حجم المشكلة في العراق، وتعقد عملية إدارة المعلومات الخاصة بالمفقودين وعائلاتهم. اللجنة الدولية للصليب الأحمر في العراق تنفذ منذ عام 1991 سلسلة من الأنشطة الهادفة إلى دعم جهود الوقاية من الفقدان (لجنة الصليب الأحمر) كما أن غياب إطار قانوني واضح يُقوّض الجهود المبذولة لتلبية الحاجات المالية والقانونية والإدارية لتلك العائلات، ويجعل حصولهم على الوثائق والخدمات الضرورية أمراً بالغ الصعوبة. كثير من العائلات لا تعرف الجهة التي يمكن أن تلجأ إليها، أو الطريق الذي ينبغي أن تسلكه للبحث عن أحبتها، أو حتى لمجرد استئناف حياتها. وتزداد هذه التحديات وطأة على العائلات التي فقدت معيلها، حيث تجد نفسها محاصرة بأعباء مالية وقانونية لا تملك أدوات التعامل معها، في ظل غياب آليات دعم كافية. إدراكاً لحجم هذه المعاناة، وقّعت اللجنة الدولية مذكرة تفاهم مع نقابة المحامين العراقيين، تهدف إلى تقديم الدعم القانوني والإداري للعائلات المسجّلة لديها، من خلال شبكة من المحامين المنتسبين إلى النقابة. تقول هبة عدنان “يشمل هذا الدعم تقديم الاستشارات القانونية والمساعدة في الحصول على الوثائق الأساسية، مثل شهادات الميلاد والبطاقة الوطنية والوصاية القانونية وشهادات الوفاة. وذلك لضمان وصول تلك العائلات إلى حقوقها واستعادة جزء من الحياة التي توقفت منذ لحظة الفقدان. الأكبر بين العالم يُعدّ العراق من بين الدول التي تضم أكبر عدد من المفقودين في العالم. بعض العائلات لم تتوقف عن البحث منذ أكثر من أربعة عقود، وتحديداً منذ الحرب العراقية- الإيرانية. وتقول هبة في هذا الخصوص “خلال تفاعلي معهم، لا سيما في مركز الزبير لاسترداد الرفات، لمست كيف أن الفقدان لا يتوقف عند جيلٍ واحد، بل ينساب كجرحٍ صامت عبر الأجيال في ما يُعرف بـ‘الصدمة العابرة للأجيال‘”. الحاجة إلى معرفة المصير لا تخفت مع مرور الزمن، بل تنتقل من الآباء إلى الأبناء ثم إلى الأحفاد. كثير من الأمهات والآباء رحلوا من دون أن يعرفوا أين انتهى طريق أبنائهم، لكن أبناءهم وأحفادهم لا يزالون يحملون الشعلة، ويواصلون رحلة البحث التي قد تمتد لأعوام طويلة، وربما لعقود. تقول هبة “المؤلم أكثر أن هذه الرحلة ليست مجرد سعي وراء معلومة، بل محاولة لوضع نهاية لحزنٍ مزمن. عائلات كثيرة لا تطالب إلا بأبسط الحقوق، أن تجد قبراً لدفن من تحب بكرامة، وأن يتحول الغياب من فوضى معلقة إلى وداعٍ أخير يليق بهم”. ماذا يقول القانون حول الإخفاء القسري؟ تقول هبة النعيمي، الحاصلة على دكتوراه في القانون الجنائي الدولي وحقوقية في ديوان محافظة واسط “الإخفاء القسري جريمة مركبة تُقترف بصمت. المادة (7/1-ط) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998 تُدرجه ضمن الجرائم ضد الإنسانية، متى ما ارتُكب ضمن هجوم واسع أو منهجي يستهدف المدنيين. وهذا التصنيف لا يكتفي بوصفه انتهاكاً فردياً، بل يرفعه إلى مستوى الجريمة الممنهجة التي تستهدف فئة بأكملها من المجتمع”. وتوضح النعيمي أن القانون العراقي، على رغم نصوصه العامة، لا يعرّف الإخفاء القسري تعريفاً خاصاً أو يعالجه كمصطلح قانوني مستقل، بل يمكن فقط تكييف بعض الحالات ضمن جرائم الحجز أو القبض غير القانوني وفقاً للمواد (322–324) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969. لكنها تؤكد أن هذا التكييف يظل محدود الأثر، لأنه لا يشمل طبيعة الجريمة كواقعة مستمرة ولا يعاقب على إنكار المصير، وهو العنصر الجوهري في هذه الجريمة. وتتابع النعيمي “على رغم أن العراق وقع على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الإخفاء القسري في 21 أكتوبر (تشرين الأول) 2010، إلا أنه لم يصادق عليها حتى الآن. وهذا يعني أن نصوصها لا تُعد ملزمة قانوناً داخل العراق، على رغم ما تفرضه المادة (18) من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969 من التزام بعدم اتخاذ إجراءات تُفرغ الاتفاقية من مضمونها”. اقرأ المزيد لماذا تراجعت “احتجاجات تشرين” في العراق؟ الإخفاء القسري في العراق… ألم حاضر وأمل بعيد سجون العراق… تنكيل ومآسٍ ووفيات وانتهاكات أخرى وترى أن هذا التراخي في المصادقة يترك العائلات بلا سند قانوني فعّال. فهي لا تواجه فقط غياب أحبتها، بل تواجه منظومة قانونية معطلة أمام واحدة من أكثر الجرائم تعقيداً. وتشير إلى أبرز التحديات قائلة: “غياب النص الصريح الذي يُجرّم الإخفاء القسري يفرغ الشكاوى من مضمونها. كما أن ضعف استقلالية التحقيقات، بخاصة حين تكون الجهة المشتبه فيها من الأجهزة الأمنية أو الفصائل المسلحة، يعمّق من عجز العائلات. ناهيك عن صعوبة الإثبات في ظل غياب الاعتراف الرسمي وغياب آليات جبر الضرر أو التعويض، بينما يستمر تطبيق مبدأ التقادم على رغم أن الجريمة بطبيعتها مستمرة ولا تنتهي بمرور الزمن”. في هذا السياق، تطرح هبة النعيمي سؤالاً محورياً: كيف يمكن توثيق حالات الإخفاء القسري بشكل قانوني يُعتمد عليه في المطالبة بالعدالة؟ تجيب بأن البداية تكون دائماً من التفاصيل، “جمع المعلومات الدقيقة حول تاريخ ومكان الاختفاء وهوية الشخص المختفي والجهة المحتملة أو المشتبه فيها، يمثل حجر أساس لأي ملف قانوني”. ثم تأتي خطوة توثيق شهادات الشهود وكتابتها بشكل خطي ومنظم، وتقديم بلاغات رسمية إلى الجهات القضائية أو الأمنية، حتى في حال عدم الاستجابة، لأن مجرد تقديم البلاغ يُعد دليلاً على السعي القانوني. تضيف النعيمي “الملف القانوني يجب أن يكون مدعوماً بأدلة مكتوبة أو وثائق رقمية أو أي مواد تثبت وجود الشخص المختفي في مكان ما أو تثبت لحظة الانقطاع. التوثيق الزمني المنهجي والمعلومات المصنفة بدقة، تعزز من قوّة الملف سواء أمام القضاء الوطني أو الهيئات الدولية غير التعاقدية، كالمقررين الخاصين المعنيين بحالات الاختفاء القسري في الأمم المتحدة”. وعلى رغم أن العراق لم يصادق بعد على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الإخفاء القسري، إلا أن ذلك لا يغلق الباب نهائياً. فهناك آليات أممية، تقول النعيمي، يمكن اللجوء إليها، طالما أن الأدلة والبلاغات موثقة ومحكمة. ثم تختم بلهجة لا تخلو من الأمل “في العراق، العدالة ما زالت مؤجلة لكنها ليست مستحيلة. تجارب الشعوب الأخرى علّمتنا أن التوثيق هو بداية الطريق”. المزيد عن: العراقالمغيبون قسراالمعاهدات الدوليةالإخفاء القسريخطفاعتقالاتالحربلجنة تقصي الحقائقبعثة الأمم المتحدةجينين بلاسخارتاحتجاجات 2019تظاهرات 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post ترمب يتخلى عن فكرة ضربة إسرائيلية لمواقع إيران النووية next post تلويح أردني بـ«حظر الإخوان»… ومساعٍ لفك ارتباطها بحزب جبهة العمل You may also like أي مصير ينتظر “بلبن” في مصر؟ 19 أبريل، 2025 إيران تعلن البدء في وضع إطار عمل لاتفاق... 19 أبريل، 2025 الموفدة الأميركية تشغل اللبنانيين بتغريدتين: “التثاؤب” و”المخدرات” 19 أبريل، 2025 نظام الحصانة… قانون يحمي الفاسدين في لبنان 19 أبريل، 2025 الطوارق بين التهميش الرسمي وصراع من أجل الهوية... 19 أبريل، 2025 جولة ثانية من المفاوضات النووية وغارات أميركية مدمرة... 19 أبريل، 2025 ضغط لبناني ودولي لنزع السلاح حزب الله.. والقرار... 19 أبريل، 2025 دلالات سعي إيران إلى التقارب الدبلوماسي والعسكري مع... 18 أبريل، 2025 هل تقود جامعة هارفارد أول تمرد كبير ضد... 18 أبريل، 2025 كواليس جلسة استجواب المشنوق في ملف انفجار مرفأ... 18 أبريل، 2025