الروائية أميلي نوتوب تستعيد حادثة الإعتداء عليها (أ ف ب) ثقافة و فنون أميلي نوتومب تعيد تركيب جسدها بعد الاعتداء عليها by admin 19 سبتمبر، 2023 written by admin 19 سبتمبر، 2023 173 الروائية التي تمثل ظاهرة فريدة في الساحة الفرنسية تسائل الحياة والموت وحرفة الأدب اندبندنت عربية \ مارلين كنعان أستاذة الفلسفة والحضارات، كاتبة وباحثة @MARLKANAAN تنتمي الروائية البلجيكية المقيمة في فرنسا، أميلي نوتومب إلى فئة من الكتاب الناطقين باللغة الفرنسية الذين يواصلون منذ دخولهم ميدان الكتابة الإبداعية إصدار كتاب سنة بعد سنة، حتى فاق عدد مجمل منشوراتها الروائية والقصصية والشعرية والمسرحية عدد سنوات عمرها. آخر إصداراتها رواية جديدة بعنوان “بسيكوبومب” عن دار ألبان ميشال في باريس (2023)، وهو عنوان يحيلنا إلى عالم الأساطير والميثولوجيا اليونانية القديمة، وتحديداً إلى هرمس، ابن زيوس ورسوله الخاص ذي القبعة والنعال المجنحة والعصا الذهبية الملتف حولها أفعوانان، والمتوجة أيضاً بجناحين، وكلها تمكنه من نقل أرواح الموتى إلى هاديس، إله العالم السفلي، في استعارة رمزية تنقلنا إلى بواطن النفس البشرية الساعية إلى الانعتاق من دركات الجحيم، حيث تتداخل السيرة الذاتية بالحبكة الروائية. تكشف لنا هذه الرواية، والتي تتبدى بين كل روايات أميلي نوتومب الأكثر تعبيراً عن مسرى حياتها، حبها للطيور على أنواعها، الذي سمح لها باجتياز مصاعب الوجود والانتقال كهرمس من عالم إلى آخر في سيرة حميمة، فتحت أمام قرائها باب الذكريات وتفتح براعم موهبتها الكتابية. السرد سلس واللغة شيقة والعبارة دقيقة تحلق بالكاتب وبالقارئ معاً فوق صراعات النفس وهواجسها، كأني بالروائية معلقة بين قوتين، واحدة تشدها نحو الأسفل وأخرى ترفعها نحو السماء. الرواية التي تستعيد فيها حادثة الإعتداء (ألبان ميشال) في رواية “بسيكوبومب” تسترجع نوتومب إذا محطات من تجارب حياتها كادت تكون سبباً في انهيارها. غير أن الأدب، كالطير، كان خشبة خلاصها، مما مكنها من التعالي فوق الجراح والتحليق بعيداً من الواقع الأليم. والطير رمز مهم في الأدب الصوفي وفي قصص المعراج، إذ يرمز للروح أو النفس في رحلتها نحو الانعتاق والتحرر من سجن الجسد. وهذه الفكرة هي أساس رحلاته ورسائله الرمزية وقصصه التي برع السهروردي وفريد الدين العطار مثلاً في إبداعها، والبسطامي في التحدث عنها في معراجه الروحي والحلاج في طواسينه، وابن سينا والغزالي في رحلة الطيور إلى ملكها، وغيرها من نصوص الشرق والغرب. وأبدعت المسيحية في جعله رمزاً للروح القدس المرفرف على هيئة حمامة، مما جعله أبلغ مثال على تمازجه بالمعراج السراني. حرفة الكتابة موضوع الكتاب مهيب يتوقف أمام مسائل الحياة والموت وحرفة الكتابة وصنعتها. فيه تتجلى معارف الروائية في فقه اللغة الفرنسية وعلم اشتقاقاتها من خلال صفحات تلامس الكتابة الفلسفية، فتعكس تفكراً في العبارة وأوزانها، وتشريحاً لأصولها نتوغل عبره نحو ما هو جوهري في الوجود واللغة، بما هي وسيلة أولى للتعبير والتفكير والتواصل. ولئن كانت هذه الرواية، بمعنى ما، عبارة عن سيرة أوتوبيوغرافية صاغتها فابيان كلير نوتومب، وهو الاسم الأصلي للروائية الأرستقراطية التي ولدت في إيتيربيك البلجيكية سنة 1966 وعاشت في أماكن عديدة، بدءاً من اليابان فالصين والولايات المتحدة الأميركية وبنغلاديش والهند وكومبوديا واللاوس، وغيرها من الدول بسبب من منصب والدها الدبلوماسي، الذي عين سفيراً لبلاده في معظم هذه البلدان، فإنها توشحت بأسلوب غني بالمعارف، زاوج ما بين كتابة السيرة الذاتية والحبكة الروائية والحوادث التاريخية والتشبيهات الخيالية والتعابير الغنية بالثقافة الواسعة التي تدل على اطلاع الكاتبة الهائل، على العلوم وقدرتها الفذة على الغوص في دهاليز النفس البشرية. محور الكتاب استعادة حادثة مفصلية من طفولتها تركت أثرها في حياتها وفي رؤيتها للوجود، عنيت ذاك الاعتداء الجسدي الذي تعرضت له في بنغلاديش ولم تكن بعد قد تجاوزت الـ12 من عمرها وما تبعه من فقدان مرضي للشهية جعلها تختبر أول تجربة نقلتها من مباهج الطفولة وبراءتها إلى عالم الخوف وتخبطاته النفسية، من صمت ونمو مضطرب للجسد بسبب التوقف عن تناول الطعام، وفقدان الشعور بأي شيء، في ظل زهد تغذى به جسدها ونفسها. لكن، كالعصفور الصغير القابع في ظل الأوراق والأغصان والذي لم يتعلم بعد خفق جناحيه الطريين، إلا أنه يحاول على رغم ذلك التحليق في الفضاء مخاطراً بحياته، شرعت نوتومب بغية تخطي محنتها، بمجازفة شبيهة، يوم بدأت محاولة “التحليق” في عالم الأدب المدهش والجمال المطلق، بالانكباب على الكتابة يومياً لساعات طويلة، من دون انقطاع أو توقف إلا لضرورات قصوى تفوق إمكاناتها. فتقارن في هذا الكتاب بين تجربتها في الكتابة الأدبية وبين تمرن العصفور الصغير على الطيران. تقول نوتومب: “يعرف العصفور الصغير مدى صعوبة الطيران. كل سنة رواية (ألبان ميشال) إلا أن معرفته هذه هي التي تجعله كائناً مميزاً. فعندما نبصر عصفوراً يطير، نشعر بنشوته وبهجته، لكن لا يبدو لي أن العصفور يعتقد أن الطيران أمر بديهي أو طبيعي. أريد أن أعيش في الحاضر مثل هذا العصفور الصغير، أريد أن أستعير استراتيجيته ومنطقه، أي إن أقوم يومياً بعمل غير محتمل بقدر ما هو مستحيل. أريد أن أتجاوز قوتي لساعات يومياً حتى أصل إلى هذه الوتيرة التي تتفلت فيها الكتابة من عقالها، فتتكشف وتتجدد في كل ثانية المعجزة التي تسمح لي بالاستمرار بالكتابة للحظات إضافية، فأحلق بعيداً من الواقع. إن أي شخص يعيش هذا الخطر الدائم يعرف الحاضر المطلق”. إعادة تركيب على غرار العصفور الذي يتطلع إذا إلى السماء بوصفها لا متناهية، تتطلع أميلي نوتومب في هذا الكتاب إلى الصفحة البيضاء المفتوحة أمامها لرسم خطوط روايتها، علها تساعدها على إعادة تركيب جسدها ونفسها المنهكين، ذلك أن الإبداع الفني في عرفها هو تعبير عن الحرية الكاملة في خلق حبكة روائية ومزاوجتها بأحداث من سيرتها الذاتية وتعمقها في استخدام الاستعارة بين الطائر والكتابة على مستوى الإيقاع والجرس الموسيقي في محاولة للاقتراب بنصوصها من سمو الطيران وغناء العصافير المحلقة في السماء. تقول الكاتبة أنها اكتشفت في طفولتها رياضة الجمباز الذي تفتح أمام ممارسيها إمكانية الارتفاع عن الأرض والتحليق في الفضاء. كذلك هي الكتابة بالنسبة لها إمكانية تحليق في عالم لا متناهٍ فسيح. جل ما على الكاتب فعله هو معرفة نقطة الارتكاز والتموضع بطريقة معينة داخل نفسه، وضبط الزاوية والمسافة الصحيحة، كلاعب الجمباز، ومن ثم “الاندفاع نحو الهاوية”. وقد بدأ هذا الاندفاع على ما تقول الكاتبة في كتابها يوم أقبلت وهي بعد في سن المراهقة على قراءة نهمة لمعجم اللغة الفرنسية وانكبابها على “التهام” الكتب في شغف آسر، كبديل عن الطعام الذي فقدت شهيته. وأميلي نوتومب الحائزة إجازة في العلوم الإنسانية والتي شرعت بدراسة الحقوق، ثم تحولت بعد قراءة أعمال الشاعر والفيلسوف الألماني نيتشه نحو الدراسات الفيلولوجية، لتحصل على إجازة في الفلسفة وفقه اللغة الفرنسية من جامعة بروكسل الحرة، تشدد في كتابها هذا على ضرورة التحرر من ثقل الأرض والتخفف من أحمالها ومشكلاتها وإيجاد العلو الكافي للسمو بالنفس نحو الأعالي. من هذه الزاوية يفهم القارئ كيف أن إنتاجها الأدبي الغزير لا يتطلع نحو الربح المادي ولا نحو الشهرة، ولو عرف أن كتبها ستباع أكثر من غيرها، بل هو محاولة للبقاء على قيد الحياة وعلى الحصول على المتعة الوحيدة التي تمنحها الكتابة، “أن تكتب يعني أن تطير وأن تحلق عالياً”. هكذا تقول نوتومب في روايتها هذه، التي تتحدث بخفر، كما سبق وأشرت، عن بداياتها في عالم الكتابة الأدبية، التي مكنتها على طريقة إلهي الميثولوجيا اليونانية، هرمس وأورفيوس، من نقل روحها الميتة من العالم السفلي إلى عالم علوي أدبي جميل. فلسفة وسيرة تتموضع رواية “بسيكوبومب” إذاً على الحد الفاصل بين المحاولة الفلسفية التي تتفكر في فن الكتابة وبين رواية السيرة الذاتية التي تسترجع في بعض مقاطعها الأكثر إثارة للدهشة ولادة روايات المؤلفة، لا سيما رواية “الدم الأول” التي استعادت فيها سيرة والدها الدبلوماسي باتريك نوتومب في بنية كتابية استخدمت فيها ضمير المتكلم. وأميلي نوتومب التي لم تستطع وداع والدها وحضور جنازته بسبب الحجر الصحي الذي خضعت له في باريس، حاولت في هذا الكتاب العودة إلى محطات من حياة ذاك “الطفل الوحيد الذي افتقد حنان والده لوفاته وهو بعد في ريعان الشباب، وغياب أمه معظم الوقت”، لتؤكد أنها لم تفكر يوماً في سرد حياة والدها، لكن وفاته كانت في أصل الفكرة التي بينت لها بعد انتهائها من وضع الكتاب، أن الرجل كان أفضل بطل رواية يمكن تصوره. و”بسيكوبومب” تكمل أيضاً رواية “ذهول ورعدة”، وهي من أفضل أعمال نوتومب. فيها صورت جمال طبيعة الأرخبيل الياباني وعالم أعماله المتأرجح بين الآمال العالية ولحظات إثبات النفس والمواقف المخزية التي تحطم العزيمة مستعيدة بدايات حياتها العملية كمترجمة لدى إحدى الشركات اليابانية في العاصمة طوكيو، متحدثة، على رغم كفاءتها العالية، عن سذاجتها وعن المواقف المحرجة التي تعرضت لها، وعن مواجهة هذه المواقف برباطة جأش وروح فكاهة عالية. غير أن الشابة لم تستطع الصمود أمام التحديات المهنية وهشاشة تركيبتها النفسية، ولعلها وصلت إلى حافة الانهيار، الذي كان منطلقها نحو الأدب والكتابة الإبداعية. من هذه الزاوية لا تبدو “بسيكوبومب” رواية مستقلة بذاتها، لا صلة لها بكاتبتها، بل تتبدى قطعة أدبية تفيض بالمشاعر، لها صلات وصل وثيقة بماضي نوتومب وحاضرها. فهي تعبر عن آلامها الفعلية وعزلتها الدائمة المترافقة في الوقت عينه مع تطلع دائم إلى عالم النور والانطلاق، كانت الكتابة أولى مراحله بوصفها نوعاً من التطهر أو ما يعرف باليونانية بـ”الكاثارثيس” أو “التنفيس” عن المشاعر والمخاوف المكبوتة الذي تحدث عنها أرسطو في كتابه “فن الشعر”. فعلى طريقة العصفور الصغير الذي يسلي نفسه من البرد القارس بجمال تغريداته، يأخذنا كتاب “بسيكوبومب” في رحلة أدبية وحياتية تغوص في شؤون وجودية صغيرة وكبيرة، تتصاعد وتهبط فيها المشاعر حتى أسفل دركاتها، غير أنه على حفره في مناطق عميقة في ذات الكاتبة الحائزة الجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية، وجائزة رينيه فاليت، وجائزة آلان فورنييه، وجائزة رنوندو، والعضو في الأكاديمية الملكية البلجيكية للغة الفرنسية وآدابها، والتي تم تصوير فيلم وثائقي عن سيرة حياتها وترجمت أعمالها إلى أكثر من 40 لغة، بما فيها العربية، يقدم لنا مجموعة من الإيقاعات الدفينة التي تولد الكتابة كمحاولة لرأب صدع النفس والتحليق بها على جناح الكلمات نحو بريق مكان فردوسي أودعت فيه أميلي نوتومب دهشتها الأولى ونبض روحها في رؤية وجودية خاصة للحياة وتناقضاتها. المزيد عن: روائية فرنسيةروايةذكرياتسيرة ذاتيةالإعتداء الجسديالأدب الفرنسيالموتالكتابةالأسطورة 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “موسوعة” موريس ميرلو بونتي… عندما يشرف المفكر الكبير على قاموس فلسفي next post 5 أسئلة في شأن صفقة طهران وواشنطن لـ”تبادل السجناء” You may also like فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024