الجمعة, يناير 10, 2025
الجمعة, يناير 10, 2025
Home » مصادر السلوك السوفياتي

مصادر السلوك السوفياتي

by admin

من الصعب تلخيص مجموعة المفاهيم الأيديولوجية التي وصل بها القادة السوفيات إلى السلطة. لطالما كانت الأيديولوجية الماركسية، في إسقاطها الشيوعي الروسي، في تطور ملحوظ.

اندبندنت عربية \ إكس” (جورج ف. كينان

تعتبر الشخصية السياسية للسلطة السوفياتية كما نعرفها اليوم نتاجاً للأيديولوجيا والظروف: الأيديولوجية التي ورثها القادة السوفيات الحاليون عن الحركة التي تأصلوا منها سياسياً، وظروف السلطة التي مارسوها الآن لما يقرب من ثلاثة عقود في روسيا. قد يكون هناك من مهمات التحليل النفسي قليل مما هو أصعب من محاولة تتبع تفاعل هاتين القوتين والدور النسبي لكل منهما في تحديد السلوك السوفياتي الرسمي. ومع ذلك، ينبغي المحاولة إذا أردنا فهم هذا السلوك والتصدي له بشكل فعال.

من الصعب تلخيص مجموعة المفاهيم الأيديولوجية التي وصل بها القادة السوفيات إلى السلطة. لطالما كانت الأيديولوجية الماركسية، في إسقاطها الشيوعي الروسي، في تطور ملحوظ. المواد التي تستند إليها واسعة النطاق ومعقدة. لكن يمكن تلخيص السمات البارزة للفكر الشيوعي كما كان موجوداً في عام 1916 على النحو التالي: (أ)- أن العامل المركزي في حياة الإنسان، العامل الذي يحدد طبيعة الحياة العامة و”ملامح المجتمع،” هو ذلك النظام الذي يتم من خلاله إنتاج السلع المادية وتبادلها. (ب)- أن نظام الإنتاج الرأسمالي هو نظام مشين يؤدي حتماً إلى استغلال الطبقة العاملة من قبل الطبقة المالكة لرأس المال وهو غير قادر على تنمية الموارد الاقتصادية للمجتمع بشكل ملائم أو على التوزيع العادل للسلع المادية التي ينتجها الإنسان. (ج)- أن الرأسمالية تحتوي على بذور تدميرها الذاتي ولا بد، في ضوء عدم قدرة الطبقة المالكة لرأس المال على التكيف مع التغيير الاقتصادي، أن تؤدي في نهاية المطاف وبشكل حتمي إلى انتقال ثوري للسلطة إلى الطبقة العاملة. (د)- أن الإمبريالية، المرحلة النهائية للرأسمالية، تؤدي مباشرة إلى الحرب والثورة.

يمكن إيجاز البقية في كلمات لينين، التي قال فيها “إن عدم تطابق التطور الاقتصادي والسياسي هو قانون الرأسمالية غير المرن. ويترتب على ذلك أن انتصار الاشتراكية قد يأتي في الأصل في عدد قليل من البلدان الرأسمالية أو حتى في بلد رأسمالي واحد. إن الطبقة العمالية (البروليتاريا) المنتصرة في ذلك البلد، بعد أن تصادر أملاك الرأسماليين وتنظم الإنتاج الاشتراكي في الداخل، ستنهض ضد العالم الرأسمالي المتبقي، وتجذب إلى نفسها في هذه العملية الطبقات المضطهدة في البلدان الأخرى”. [انظر الحاشية 1] تجدر الإشارة إلى أنه لم يكن ثمة افتراض بأن الرأسمالية ستزول من دون ثورة بروليتارية. كانت هناك حاجة إلى دفعة أخيرة من قبل حركة البروليتاريا الثورية من أجل قلب الهيكل المترنح. ولكن كان حتمياً أن تأتي هذه الدفعة عاجلاً أم آجلاً.

أولا

على مدى 50 عاماً قبل اندلاع الثورة، كان هذا النمط من التفكير مصدر انبهار كبير لأعضاء الحركة الثورية الروسية. وفي ظل شعورهم بالإحباط والسخط واليأس جراء عجزهم عن التعبير عن الذات -أو نفاد صبرهم في السعي لتحقيق ذلك- في حدود النظام السياسي القيصري – مع أنه كانوا يفتقرون إلى دعم شعبي واسع لاختيارهم خوض ثورة دموية كوسيلة لتحسين أوضاع المجتمع، وجد هؤلاء الثوريون في النظرية الماركسية تبريراً مناسباً لرغباتهم الغريزية. لقد أتاح لهم [ذلك الخيار] تبريراً علمياً زائفاً لنفاد صبرهم، ولإنكارهم القاطع كل فضائل النظام القيصري، ولشوقهم إلى السلطة والانتقام وميلهم إلى اختصار الطريق في السعي لتحقيق ذلك. لذلك ليس من المستغرب أن يؤمنوا ضمنياً بحقيقة وصحة التعاليم الماركسية اللينينية، المتوافقة مع دوافعهم وعواطفهم، وأنه لا داعي لأن يطعنوا في صدقيتهم. إنها ظاهرة قديمة قدم الطبيعة البشرية نفسها. لم يسبق أن وصفت على نحو مناسب كما وصفها إدوارد جيبو في كتابه “اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها” حيث كتب “من الحماس إلى الخداع، فإن الخطوة محفوفة بالمخاطر وزلقة؛ يقدم شيطان سقراط مثالاً حياً حول كيف يمكن لرجل حكيم أن يخدع نفسه، وكيف يمكن لرجل صالح أن يخدع الآخرين، وكيف يمكن للضمير أن يرقد في حالة ممزوجة ومتوسطة بين وهم الذات والاحتيال الطوعي”. وبهذه المجموعة من المفاهيم دخل أعضاء الحزب البلشفي إلى السلطة.

  • ما لا يمكن إنكاره هو أن من دواعي اعتزاز كل إنسان أن يثبت نفسه على صواب في فرضية أن العالم هو عدو له؛ لأنه كل ما كرر ذلك وجعله مبرراً لسلوكه لا بد أن يكون على حق في النهاية

في هذه اللحظة، ينبغي أن نلاحظ أنه خلال كل سنوات التحضير للثورة، كان اهتمام هؤلاء الرجال، كما فعل ماركس نفسه، منصباً أقل على الشكل المستقبلي الذي ستتخذه الاشتراكية [انظر الحاشية 2] من التركيز على الإطاحة الضرورية بالقوة المنافسة، التي [أي الإطاحة] ينبغي في نظرهم أن تسبق تطبيق الاشتراكية. لذلك، كانت وجهات نظرهم حول البرنامج الإيجابي الذي سيتم تنفيذه، بمجرد الحصول على السلطة، أنه في معظمه غامض ومثالي وغير عملي. باستثناء تأميم الصناعة ومصادرة أرصدة رأس المال الخاصة الكبيرة، لم يكن هناك برنامج متفق عليه. ولطالما كانت معاملة الفلاحين، الذين لم يكونوا، حسب الصياغة الماركسية، من البروليتاريا، نقطة غامضة في نمط الفكر الشيوعي، وبقيت موضع جدل وتردد خلال السنوات العشر الأولى من الحكم الشيوعي.

لقد جعلت ظروف الفترة المباشرة التي أعقبت الثورة -أي وجود حرب أهلية في روسيا والتدخل الأجنبي إلى جانب الحقيقة الواضحة المتمثلة في أن الشيوعيين يمثلون أقلية صغيرة من الشعب الروسي- جعلت إنشاء سلطة ديكتاتورية أمراً ضرورياً. كانت لتجربة “الشيوعية الحربية” والمحاولة المفاجئة للقضاء على الإنتاج الخاص والتجارة عواقب اقتصادية مؤسفة وأثارت مزيداً السخط ضد النظام الثوري الجديد. وعلى الرغم من أن التخفيف المؤقت لجهود تحويل روسيا إلى مجتمع شيوعي، من خلال ما عرف بـ”برنامج السياسة الاقتصادية الجديدة”، خفف جزءاً من هذه الضائقة الاقتصادية وبالتالي أدى غرضه، فإنه أظهر بأن “القطاع الرأسمالي في المجتمع” كان لا يزال مستعداً لتحقيق الربح فوراً من أي تخفيف للضغط الحكومي، وأنه سيشكل دائماً، إذا سمح له بالاستمرار، عنصراً معارضاً قوياً للنظام السوفياتي ومنافساً خطيراً على النفوذ في البلاد. وكان هذا الوضع نفسه ينطبق إلى حد ما على الفلاح الفردي الذي كان، بطريقته الصغيرة، منتجاً خاصاً أيضاً.

لو بقي لينين على قيد الحياة لفترة أطول، لكان أثبت نفسه رجلاً عظيماً بما يكفي للتوفيق بين هذه القوى المتصارعة وبما يحقق المنفعة النهائية للمجتمع الروسي، وإن كان هذا محل شك. لكن مهما كان الأمر، فإن ستالين وأولئك الذين قادهم في النضال من أجل خلافة منصب لينين في القيادة، لم يكونوا من الرجال الذين يتسامحون مع القوى السياسية المتنافسة في مجال السلطة التي يطمحون إليها. لقد كان شعورهم بعدم الأمان كبيراً جداً. كانت طبائعهم الخاصة من التعصب، التي لم تتأثر بأي من تقاليد التوافق الأنجلو سكسونية، شرسة للغاية وغيورة جداً لدرجة استعصى معها تصور أي تقاسم دائم للسلطة. لقد حملوا معهم، انطلاقاً من العالم الروسي الآسيوي الذي انبثقوا منه، شكوكاً حول احتمالات التعايش الدائم والسلمي للقوى المتنافسة. وبعد اقتناعهم بسهولة “بصوابهم” العقائدي، أصروا على إخضاع أو تدمير كل القوى المتنافسة. خارج الحزب الشيوعي، لم يكن ليسمح بوجود أي تصلب في المجتمع الروسي. لم يكن ليسمح بأي شكل من أشكال النشاط البشري الجماعي أو جمعيات خارجة عن هيمنة الحزب. لم يكن ليسمح لأي قوة أخرى في المجتمع الروسي بتحقيق الحيوية أو النزاهة. كان الحزب فقط من سيتوفر على بنية هيكلية، وكل شيء آخر سيكون مجرد كتلة غير محددة المعالم.

وينطبق المبدأ نفسه داخل الحزب. فبينما يجوز لكتلة أعضاء الحزب المشاركة في الانتخابات والمداولات واتخاذ القرار والعمل، يفترض بهذه العمليات أن تنبعث ليس من إرادتهم الفردية ولكن من التوجيهات العظيمة لقيادة الحزب والحضور المفرط لـ”الكلمة”.

يجدر التذكير بشدة مرة أخرى على أن هؤلاء الرجال ربما لم يسعوا بشكل ذاتي إلى الاستبداد كغاية في حد ذاته. لقد آمنوا بلا شك -ووجدوا أنه من السهل تصديق أنفسهم- بأنهم وحدهم يعرفون ما هو أصلح للمجتمع وأنهم سيحققون هذا الخير بمجرد تأمين سلطتهم بشكل لا يمكن تحديها. لكن في سعيهم لتأمين حكمهم، كانوا غير مستعدين لقبول أي قيود، سواء إلهية أو بشرية، على طبيعة أساليبهم. وإلى حين تحقيق ذلك الأمن، وضعوا في مرتبة متدنية في سلم أولوياتهم العملياتية تحقيق وسائل الراحة والسعادة للشعوب الموكلة إلى رعايتهم.

إن أبرز ما يميز النظام السوفياتي هو أنه حتى يومنا هذا لم يشهد اكتمال عملية التوطيد السياسي هذه، ولا يزال الرجال في الكرملين منشغلين كثيراً بالكفاح لتعزيز السلطة التي استولوا عليها في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1917 وجعلها سلطة مطلقة. لقد سعوا إلى تأمينها في المقام الأول ضد القوى الداخلية، داخل المجتمع السوفياتي نفسه. لكنهم سعوا أيضاً إلى تأمينها ضد العالم الخارجي. لقد علمتهم الأيديولوجيا، كما رأينا، أن العالم الخارجي كان معادياً وأن من واجبهم في النهاية إطاحة القوى السياسية خارج حدودهم. ولقد استعانوا في هذا بالتاريخ والتقاليد الروسية القوية لدعمهم في هذا الشعور. أخيراً، بدأ عنادهم العدواني تجاه العالم الخارجي في إثارة ردود أفعال خاصة؛ وسرعان ما أجبروا على “التصدي للتمرد” -بعبارة جيبونية أخرى- الذي أثاروه هم أنفسهم. ما لا يمكن إنكاره هو أن من دواعي اعتزاز كل إنسان أن يثبت نفسه على صواب في فرضية أن العالم هو عدو له؛ لأنه كل ما كرر ذلك وجعله مبرراً لسلوكه لا بد أن يكون على حق في النهاية.

في طبيعة النسق العقلي للقادة السوفيات، وفي طبيعة أيديولوجيتهم أيضاً، لا يمكن الاعتراف رسمياً بأي معارضة على أنها ذات فائدة أو مبرر على الإطلاق. بالنسبة إليهم، لا يمكن لمثل هذه المعارضة، من الناحية النظرية، أن تأتي سوى من القوى المعادية الميؤوس منها والمتمثلة في الرأسمالية المحتضرة. وطالما يعترف رسمياً بوجود بقايا الرأسمالية في روسيا، يمكن تحميلها، كعنصر داخلي، جزءاً من اللوم للحفاظ على أسلوب ديكتاتوري للمجتمع. لكن مع تصفية هذه البقايا، شيئاً فشيئاً، يتلاشى هذا التبرير، وعندما تم الإعلان رسمياً عن تدميرها ]أي المعارضة الرأسمالية[ أخيراً، اختفى التبرير تماماً. وقد خلقت هذه الحقيقة واحداً من أبسط الهواجس التي أثرت في النظام السوفياتي: فبما أن الرأسمالية لم تعد موجودة في روسيا وبما أنه لا يمكن الاعتراف بوجود معارضة جادة أو واسعة النطاق تنبثق تلقائياً من الجماهير المحررة تحت سلطة الكرملين، أصبح من الضروري تبرير الاحتفاظ بالديكتاتورية من خلال تأكيد خطر الرأسمالية في الخارج.

ولقد بدأ هذا في وقت مبكر. ففي عام 1924، دافع ستالين تحديداً عن الاحتفاظ بـ”أجهزة القمع” المتمثلة في الجيش والشرطة السرية، على أساس أنه “طالما كان هناك تطويق رأسمالي [للبلاد] فسيكون هناك خطر التدخل مع كل ما يحمله من عواقب”. ووفقاً لهذه النظرية، ومنذ ذلك الوقت فصاعداً، تم تصوير جميع قوى المعارضة الداخلية في روسيا باستمرار على أنها عملاء لقوى ردة الفعل الأجنبية المعادية للقوة السوفياتية.

وفي السياق نفسه تم التركيز بشكل كبير على الأطروحة الشيوعية الأصلية للعداء الأساسي بين العالمين الرأسمالي والاشتراكي. من الواضح، من خلال العديد من المؤشرات، أن هذا التركيز لا أساس له في الواقع. لقد تم خلط الحقائق المتعلقة به مع الاستياء الحقيقي الموجود في الخارج من الفلسفة والتكتيكات السوفياتية، وفي بعض الأحيان مع مراكز قوة عسكرية كبيرة، لا سيما النظام النازي الموجود في ألمانيا والحكومة اليابانية في أواخر الثلاثينيات، والتي كانت لديها بالفعل مخططات عدوانية ضد الاتحاد السوفياتي. لكن هناك أدلة كثيرة تفيد بأن إصرار موسكو على الادعاء بوجود خطر يحدق على المجتمع السوفياتي من الخارج لا أساس له في واقع العداء الخارجي ولكن في ضرورة تفسير الحفاظ على السلطة الديكتاتورية في الداخل.

إن الحفاظ على هذا النمط من القوة السوفياتية، أي السعي وراء سلطة مطلقة على الصعيد المحلي، مصحوباً بالترويج لما يشبه أسطورة العداء الأجنبي العنيد، قد ذهب بعيداً في تشكيل الآلة الفعلية للسلطة السوفياتية كما نعرفها اليوم. ماتت المؤسسات الداخلية للإدارة التي لم تخدم هذا الغرض في حين ازدهرت إلى حد كبير المؤسسات التي خدمت هذا الغرض. لقد بني أمن السلطة السوفياتية على أساس الانضباط الحديدي للحزب، وعلى شدة وانتشار الشرطة السرية، وعلى الاحتكار الاقتصادي الذي لا هوادة فيه من قبل الدولة. أصبحت “أجهزة القمع،” التي استخدمها القادة السوفيات لتأمين أنفسهم ضد القوى المنافسة لهم، إلى حد كبير أسياداً على أولئك الذين صممت لخدمتهم. اليوم، ينصب اهتمام الجزء الأكبر من هيكل القوة السوفياتية بتعزيز الديكتاتورية والحفاظ على مفهوم روسيا كما لو كانت في حالة حصار، في مواجهة عدو يتوارى خلف الجدران. لذا كان ينبغي للملايين من البشر الذين يشكلون ذلك الجزء من هيكل القوة الدفاع بأي ثمن عن هذا المفهوم الخاص بموقف روسيا، لأنهم من دونه سيصبحون هم أنفسهم غير ضروريين.

كما تبدو الأمور اليوم، لم يعد بإمكان الحكام أن يحلموا بالفراق مع أجهزة القمع هذه. إن السعي وراء السلطة المطلقة، الذي تم انتهاجه منذ ما يقرب من ثلاثة عقود بقسوة منقطعة النظير (من حيث النطاق في الأقل) في العصر الحديث، أنتج مرة أخرى داخلياً، كما خارجياً، ردة فعل خاصة. لقد أدت تجاوزات جهاز الشرطة إلى زيادة المعارضة المحتملة للنظام إلى ما هو أكبر وأخطر بكثير مما كان محتملاً قبل تلك التجاوزات.

لكن في الأقل، يمكن للحكام الاستغناء عن الخيال الذي تم من خلاله الدفاع عن ضرورة الحفاظ على السلطة الديكتاتورية، لأن هذا الخيال قد تم تقديسه في الفلسفة السوفياتية من خلال التجاوزات التي ارتكبت بالفعل باسمها، وهو الآن راسخ في بنية الفكر السوفياتي بروابط أكبر بكثير من تلك التي تنتمي إلى مجرد أيديولوجية.

ثانياً

إنها خلفية تاريخية طويلة، لكن كيف تفسر طبيعة الشخصية السياسية للقوة السوفياتية كما نعرفها اليوم؟

من الأيديولوجية الأصلية، لم يتم التخلص من أي شيء رسمياً. لا يزال هناك اعتقاد بأن الرأسمالية نظام سيئ في جوهره وأنها ستنهار لا محالة وأن الطبقة العاملة (البروليتاريا) ملزمة بالمساعدة في تدميرها والاستيلاء على السلطة. لكن يتم تأكيد بشكل أساسي تلك المفاهيم التي تتعلق بشكل خاص بالنظام السوفياتي نفسه: على موقعه باعتباره النظام الاشتراكي الحقيقي الوحيد في عالم مظلم وضال، وعلى علاقات القوة بداخله.

  • من الواضح أن العنصر الرئيس لأي سياسة أميركية تجاه الاتحاد السوفياتي يجب أن يكون هو احتواء الميول الروسية التوسعية على المدى الطويل

يتمثل أول هذه المفاهيم في التناقض الفطري بين الرأسمالية والاشتراكية. لقد رأينا إلى أي حد ترسخ هذا المفهوم في أسس القوة السوفياتية، وينطوي على تداعيات عميقة بالنسبة إلى سلوك روسيا كعضو في المجتمع الدولي. هذا يعني أن موسكو لا يمكن أن تفترض أبداً بشكل صادق وجود أهداف مشتركة بين الاتحاد السوفياتي والقوى التي تعتبر رأسمالية. لا بد أن تفترض موسكو دائماً أن أهداف العالم الرأسمالي هي معادية للنظام السوفياتي، وبالتالي معادية لمصالح الشعوب التي تسيطر عليها. وإذا كانت الحكومة السوفياتية تضع توقيعها بين الحين والآخر على وثائق تشير إلى عكس ذلك، فإن ذلك يعتبر مناورة تكتيكية مسموحاً بها في التعامل مع العدو (الذي يفتقد لأي شرف) مع ضرورة الحذر. لذا فإن العداء لا يزال قائماً في الأساس. إنه أمر مفترض، ومنه تنبع العديد من الظواهر التي نجدها مزعجة في سلوك الكرملين في السياسة الخارجية، ومنها السرية، وانعدام الصراحة والازدواجية والتشكيك والحذر وغياب المصادقة الأساسية لتحقيق الأهداف المشتركة. ستبقى هذه الظواهر موجودة في المستقبل المنظور، وقد يكون هناك اختلافات في حدتها وتركيزها. مثلاً، عندما يريد الروس أمراً ما منا، فقد يدفعون إحدى ميزات سياستهم هذه مؤقتاً إلى الخلف. عندما يحدث ذلك، سيكون هناك دائماً أميركيون يقفزون إلى الواجهة بإعلانات مبهجة تشير إلى أن “الروس قد تغيروا،” وسيحاول البعض منهم حتى أن ينسب إلى نفسه الفضل في إحداث مثل هذا “التغيير”. لكن لا ينبغي أن ننخدع بالمناورات التكتيكية. إن هذه الخصائص التي تتميز بها السياسة السوفياتية، مثل الافتراضات التي تنبع منها، هي أساسية في الطبيعة الداخلية للسلطة السوفياتية، وستظل معنا، سواء في الواجهة أو في الخلفية، حتى تتغير الطبيعة الداخلية للسلطة السوفياتية.

هذا يعني أننا سنستمر لفترة طويلة في معاناة صعوبة في التعامل مع الروس. لا يعني ذلك أنه ينبغي اعتبارهم منهمكين في برنامج “حياة أو موت” لإطاحة مجتمعنا في تاريخ معين. إن نظرية حتمية السقوط النهائي للرأسمالية توحي لحسن الحظ بعدم الحاجة إلى التسرع بشأن ذلك. يمكن لقوى التقدم أن تأخذ وقتها في التحضير للانقلاب الضخم الأخير. في غضون ذلك، ما هو أساسي هو أن “الوطن الاشتراكي الأم” -واحة القوة التي تم كسبها بالفعل للاشتراكية في شخص الاتحاد السوفياتي- يجب أن يعتز به ويتم الدفاع عنه من قبل جميع الشيوعيين الجيدين في الداخل والخارج، ويجب أن يتم تعزيز ثرواته وإزعاج أعدائه وإرباكهم. إن الترويج للمشاريع الثورية “المغامرة” والسابقة لأوانها في الخارج التي قد تحرج السلطة السوفياتية بأي شكل من الأشكال سيكون عملاً غير مبرر، بل وحتى معادياً للثورة. إن هدف الاشتراكية هو دعم وتعزيز القوة السوفياتية، كما تحددها في موسكو.

يقودنا هذا إلى ثاني المفاهيم المهمة من وجهة النظر السوفياتية المعاصرة، إنه عصمة الكرملين. يتطلب المفهوم السوفياتي للسلطة، الذي لا يسمح بتنظيمات محورية خارج الحزب نفسه، أن تظل قيادة الحزب من الناحية النظرية المستودع الوحيد للحقيقة، لأنه إذا ظهرت الحقيقة في مكان آخر، سيكون هناك مبرر للتعبير عنها في نشاط منظم. لكن هذا هو بالضبط ما لا يستطيع الكرملين أن يسمح به ولن يسمح به.

وبالتالي، فإن قيادة الحزب الشيوعي محقة دائماً، وكانت دائماً على حق منذ عام 1929 عندما قام ستالين بإضفاء الطابع الرسمي على سلطته الشخصية من خلال الإعلان عن اتخاذ قرارات المكتب السياسي بالإجماع.

فيما يخص مبدأ العصمة، فإنه الأساس الذي يستند إليه النظام الحديدي للحزب الشيوعي. في الواقع، يدعم المفهومان بعضهما بعضاً، إذ يستلزم الانضباط المثالي الاعتراف بالعصمة، فيما تتطلب العصمة مراعاة الانضباط. ويذهب الاثنان معاً بعيداً لتحديد سلوكية جهاز السلطة السوفياتي بأكمله. لكن لا يمكن فهم تأثيرهما ما لم يؤخذ عامل ثالث في الاعتبار: أي حقيقة أن القيادة تتمتع بالحرية في تقديم أي أطروحة معينة لأغراض تكتيكية إذا وجدتها مفيدة للقضية في أي لحظة معينة، وتطلب القبول المخلص والمطلق للأطروحة من قبل أعضاء الحركة ككل. هذا يعني أن الحقيقة ليست ثابتة ولكنها في الواقع مبتدعة، لجميع المقاصد والأغراض، من قبل القادة السوفيات أنفسهم، وقد تتغير من أسبوع لآخر ومن شهر لآخر. فلا شيء مطلق ولا شيء ثابت – لا شيء ينبع من الواقع الموضوعي. إنها فقط أحدث تمظهر لحكمة أولئك الذين من المفترض أن يكونوا أهلاً للحكمة المطلقة، لأنهم يمثلون منطق التاريخ. ويكمن الأثر التراكمي لهذه العوامل في إضفاء صلابة لا تتزعزع على كامل الجهاز التابع للسلطة السوفياتية ومنحه ثباتاً في التوجه. ويمكن للكرملين وحده أن يغير هذا التوجه متى شاء. فبمجرد وضع خط حزبي معين حول قضية معينة من السياسة القائمة، فإن الآلة الحكومية السوفياتية بأكملها، بما في ذلك آليتها الدبلوماسية، تتحرك بقوة على طول المسار المحدد، مثل سيارة لعب أطفال تسير في ثبات في اتجاه معين ولا يتوقف إلا عندما تعترضها قوة لا يمكن تجاوزها. يكون أفراد هذه الآلة عصيين عن الإقناع وعن المنطق الذي يأتيهم من مصادر خارجية. لقد علمهم تدريبهم الكامل عدم الثقة واستبعاد الحجج السطحية للعالم الخارجي. إنهم مثل الكلب الأبيض يجلس أمام الفونوغراف ولا يسمع سوى “صوت سيده”. وإذا ينبغي إعفاؤهم من المهام الموكلة إليهم آخر مرة، فإن السيد هو الذي يجب أن يعفيهم. لذا لا يمكن لأي مسؤول أجنبي أن يأمل في أن تترك كلماته أي انطباع في نفوسهم. إن أكثر ما يمكن أن يأمله هو أن يتم نقل كلماته إلى من هم في القمة، القادرين على تغيير خط الحزب. ولكن حتى هؤلاء ليس من المرجح أن يتأثروا بأي منطق عادي قد يكمن في كلام الممثل البرجوازي. فنظراً إلى استحالة وجود أي مقاصد مشتركة، لا يمكن أن تكون هناك أي مقاربات عقلية مشتركة. لهذا السبب، تلقى الحقائق آذاناً مصغية أكثر من الكلمات لدى الكرملين، ويكون للكلمات وزن أكبر عندما تقترن بحلقة انعكاس، أو تدعمها، حقائق لا تقبل الطعن.

لكننا رأينا أن الكرملين ليس تحت أي إكراه أيديولوجي لتحقيق أهدافه بسرعة. إنه، مثل الكنيسة، يتعامل مع مفاهيم أيديولوجية طويلة الأمد والصلاحية، ويمكنه أن يتحلى بالصبر. ليس في صالحه المخاطرة بالإنجازات الحالية للثورة من أجل أحلام براقة في المستقبل. وتتطلب تعاليم لينين نفسه قدراً كبيراً من الحذر والمرونة في السعي لتحقيق أهداف الشيوعية. وتجدر الإشارة مرة أخرى إلى أن هذه المبادئ محصنة بدروس التاريخ الروسي: بقرون من المعارك الغامضة بين القوات البدو الرحل على امتداد سهل شاسع وغير محصن، حيث الحيطة والحذر والمرونة والخداع هي صفات مهمة، تكتسي قيمتها تقديراً طبيعياً في العقل الروسي أو الشرقي. وبالتالي فإن الكرملين لا يبدي أي ندم عند التراجع في مواجهة قوة متفوقة. ولكونه غير خاضع لإكراهات أي جدول زمني، فإنه لا يرتبك عندما يجد نفسه مضطراً إلى التراجع. يشبه نشاطه السياسي تياراً مائعاً يتحرك باستمرار، حيثما يسمح له بالتحرك، نحو هدف معين، وشاغله الرئيس هو التأكد من ملء كل زاوية وركن متاح له في حوض القوة العالمية. ولكن إذا قابل في طريقه حواجز لا يمكن تجاوزها، فإنه يتقبلها فلسفياً ويتكيف معها، الشيء المهم هو أن يكون هناك دائماً ضغط، وضغط متواصل نحو الهدف المنشود. لا يوجد أي أثر لأي شعور في علم النفس السوفياتي بوجوب الوصول إلى هذا الهدف في أي وقت.

هذه الاعتبارات تجعل التعامل مع الدبلوماسية السوفياتية أسهل وفي الوقت نفسه أكثر صعوبة من حيث التعامل معها مقارنة بدبلوماسية القادة العدوانيين الفرديين مثل نابليون وهتلر. من ناحية أخرى لا يمكن هزيمتها بسهولة أو تثبيط عزيمتها بانتصار واحد من جانب خصومها. إن المثابرة المتأنية التي تستمد منها نشاطها تعني أنه يمكن مواجهتها بشكل فعال ليس من خلال الأفعال المتفرقة التي تمثل النزوات اللحظية للرأي الديمقراطي ولكن فقط من خلال السياسات الذكية البعيدة المدى من جانب خصوم روسيا – أي من خلال سياسات لا تقل ثباتاً في أهدافها، ولا تقل تنوعاً وسعة في تطبيقها، من سياسات الاتحاد السوفياتي نفسه.

في ظل هذه الظروف، من الواضح أن العنصر الرئيس لأي سياسة أميركية تجاه الاتحاد السوفياتي يجب أن يكون هو احتواء الميول الروسية التوسعية على المدى الطويل، والتحلي بالصبر والحزم واليقظة. من المهم أن نلاحظ، مع ذلك، أن مثل هذه السياسة لا علاقة لها بالمسرح الخارجي: أي بالتهديدات أو الصراخ أو الإيماءات الزائدة على الحاجة من “الصلابة” الخارجية. فعلى الرغم من أن الكرملين يتحلى بالمرونة بشكل أساسي في رد فعله على الحقائق السياسية، فإنه لا يقبل المساس بهيبته. مثله تقريباً مثل أي حكومة أخرى، يمكن دفعه عن طريق إيماءات التهديد إلى وضع لا يمكنه فيه تحمل التراجع وإن كان هذا التراجع قد يمليه عليه إحساسه بالواقعية. إن القادة الروس هم قضاة حريصون على علم النفس البشري، وبالتالي فهم يدركون جيداً أن الغضب وعدم ضبط النفس ليسا أبداً من صفات القوة في الشؤون السياسية، وهم يسارعون في استغلال مظاهر الضعف هذه. لهذه الأسباب، فإن الشرط الأساسي للتعامل الناجح مع روسيا هو أن تظل أي حكومة أجنبية معنية (بالخلاف مع روسيا) هادئة ورزينة في جميع الأوقات وأن تطرح مطالبها بشأن السياسة الروسية بطريقة تتيح مجالاً للمساومة. من دون الإضرار بهيبة روسيا.

ثالثاً

في ضوء ما سبق، سيتبين بوضوح أن الضغط السوفياتي على المؤسسات الحرة في العالم الغربي هو أمر يمكن احتواؤه من خلال التطبيق البارع والحذر للقوة المضادة في سلسلة من النقاط الجغرافية والسياسية المتغيرة باستمرار، بشكل يتوافق مع التحولات والمناورات السياسية السوفياتية التي لا يمكن استهواؤها أو منعها. يتطلع الروس إلى مبارزة لا نهاية لها، ويرون أنهم قد حققوا بالفعل نجاحات كبيرة فيها. في هذا الصدد، ينبغي ألا يغيب عن الأذهان أن الحزب الشيوعي كان في وقت من الأوقات يمثل أقلية في الحياة القومية الروسية أكبر بكثير من الأقلية التي تمثلها القوة السوفياتية اليوم في المجتمع العالمي.

لكن إذا أقنعت الأيديولوجية حكام روسيا بأن الحقيقة تكمن في صفهم وأنهم بالتالي قادرون على الانتظار، فإن أولئك من الذين لا يدعون هذه الأيديولوجية يتمتعون بالحرية في تمحيص صحة هذه الفرضية بموضوعية. إن الأطروحة السوفياتية لا توحي فقط بأن الغرب يفتقر بشكل تام إلى السيطرة على مصيره الاقتصادي، بل تفترض أيضاً استمرار الوحدة الروسية والانضباط والصبر لفترة لا متناهية. دعونا نعيد هذه الرؤية المروعة إلى الواقع، ونفترض أن العالم الغربي وجد القوة والمقدرة لاحتواء القوة السوفياتية على مدى فترة تتراوح بين عشرة و15 عاماً. ماذا سيعني ذلك لروسيا نفسها؟

لقد استفاد القادة السوفيات من مساهمات التقنية الحديثة في فنون الاستبداد، ووجدوا حلاً لمسألة الطاعة ضمن حدود سلطتهم. لذا لا يتحدى سلطتهم سوى القلة، وحتى أولئك الذين يفعلون ذلك، غير قادرين على جعل هذا التحدي صالحاً ضد الأجهزة القمعية للدولة.

أثبت الكرملين أيضاً قدرته على تحقيق غرضه المتمثل في بناء روسيا، بغض النظر عن مصالح السكان. لقد شيد أساساً صناعياً للتعدين الثقيل، وهو بالتأكيد لم يكتمل بعد، لكنه يواصل النمو ويقترب من الدول الصناعية الكبرى الأخرى. مع ذلك، فإن الحفاظ على الأمن السياسي الداخلي وبناء الصناعات الثقيلة قد تم بتكلفة باهظة في حياة البشر وآمالهم وطاقاتهم، حيث تطلب ذلك استخدام العمالة القسرية على نطاق غير مسبوق في العصر الحديث في ظروف السلم. كما انطوى هذا العمل على إهمال أو إساءة استخدام جوانب أخرى من الحياة الاقتصادية السوفياتية، ولا سيما الزراعة وإنتاج سلع الاستهلاك والإسكان والنقل.

علاوة على ذلك كله، أضافت الحرب خسائرها الهائلة من الدمار والموت والإرهاق البشري. لذا، هناك اليوم في روسيا شعب مرهق جسدياً وروحياً. لقد خاب أمل الجماهير وأصبحوا متشككين ولم يعودوا منفتحين كما كانوا في السابق على الجاذبية السحرية التي ما زالت القوة السوفياتية تشعها لأتباعها في الخارج. كان الشغف الذي رحب به الناس بتخفيف القيود على الكنيسة لأسباب تكتيكية أثناء الحرب شهادة بليغة على حقيقة أن قدرتهم على الإخلاص والتفاني لم تجد تعبيراً يذكر في مقاصد النظام.

في هذه الظروف، هناك حدود لقدرة الأشخاص أنفسهم على التحمل جسدياً وعصبياً، وهذه الحدود هي حدود مطلقة، وهي ملزمة حتى لأقسى الديكتاتورية، لأن الناس لا يمكن دفعهم إلى ما وراءها. توفر معسكرات العمل القسري والهيئات القسرية الأخرى وسائل مؤقتة لإجبار الناس على العمل لساعات أطول مما قد تمليه إرادتهم أو الضغط الاقتصادي البسيط. وإذا نجا أناس من هذه الظروف، فإنهم يصبحون كباراً في السن قبل الأوان، وينبغي اعتبارهم ضحايا بشرية لمطالب الديكتاتورية. وفي كلتا الحالتين، لم تعد أفضل سلطاتهم متاحة للمجتمع ولم يعد من الممكن تجنيدها في خدمة الدولة.

في هذه اللحظة، لا يمكن أن يقدم المساعد سوى جيل الشباب، الجيل الأصغر الغفير والنشط على الرغم من كل التقلبات والمعاناة، والروس هم شعب موهوب. لكن من غير الواضح ماهية الآثار المترتبة على الأداء الناضج للسلالات العاطفية غير الطبيعية للطفولة التي خلقتها الديكتاتورية السوفياتية والتي زادت بشكل هائل بسبب الحرب. لقد اختفت أشياء مثل الأمن الطبيعي وهدوء البيئة المنزلية من الوجود عملياً في الاتحاد السوفياتي خارج المزارع والقرى النائية، والمراقبون ليسوا متأكدين بعد ما إذا كان ذلك لن يترك بصمته على القدرة الكلية للجيل المقبل الآن على مرحلة النضج.

بالإضافة إلى ذلك، فإن التنمية الاقتصادية السوفياتية، على الرغم من تحقيقها بعض الإنجازات الهائلة، كانت متقطعة ومتفاوتة بصورة مثيرة للقلق. لذا ينبغي على الشيوعيين الروس الذين يتحدثون عن “التطور غير المتكافئ للرأسمالية” أن يخجلوا من النظر إلى اقتصادهم القومي. لقد تم تطوير بعض فروع الحياة الاقتصادية، مثل صناعات التعدين والآليات، بشكل بعيد كلياً عن قطاعات الاقتصاد الأخرى. إنها أمة تسعى جاهدة لتصبح في فترة قصيرة واحدة من الدول الصناعية الكبرى في العالم بينما لا تتوفر على شبكة طرق سريعة جديرة بهذا الاسم وتمتلك فقط شبكة سكك حديدية بدائية نسبياً. لقد تم عمل الكثير لزيادة كفاءة العمال وتعليم الفلاحين البدائيين كيفية تشغيل الآلات. لكن الصيانة لا تزال مشكلاً كبيراً في مجمل الاقتصاد السوفياتي. كما أن البناء متسرع وضعيف الجودة، ولا بد أن قيمته تتدنى بسرعة. وفي قطاعات واسعة من الحياة الاقتصادية، لم يكن ممكناً حتى الآن غرس تلك الثقافة العامة للإنتاج واحترام الذات بصورة فنية كما يميز العامل الماهر في الغرب.

من الصعب رؤية كيف يمكن تصحيح أوجه القصور هذه في وقت مبكر من قبل شعب مرهق ومحبط يعمل إلى حد كبير في ظل الخوف والإكراه. وطالما لم يتم التغلب عليها، فإن روسيا ستظل ضعيفة اقتصادياً، وبمعنى ما، دولة عاجزة، قادرة فقط على تصدير حماسها والترويج للجاذبية الغريبة التي تتمتع بها حيويتها السياسية البدائية، من دون القدرة على دعم تلك الصادرات بدلائل حقيقية حول القوة المادية والازدهار.

في غضون ذلك، تخيم حالة غموض كبيرة على الحياة السياسية للاتحاد السوفياتي، وهذا الغموض يكتنف انتقال السلطة من فرد واحد أو مجموعة من الأفراد إلى آخرين.

ويعود هذا، بالطبع، إلى مشكلة الموقف الشخصي لستالين. يجب أن نتذكر أن خلافة لينين في ذروة تفوقه في الحركة الشيوعية كانت الانتقال الوحيد للسلطة الفردية الذي شهده الاتحاد السوفياتي. لقد استغرق هذا الانتقال 12 عاماً لترسيخه، وكلف أرواح الملايين من الناس وزعزع أسس الدولة. وقد شعرت الحركة الثورية العالمية بالهزات المصاحبة لذلك وهو ما كان في غير صالح الكرملين.

من الممكن دائماً أن يحدث انتقال آخر للسلطة من شخصية بارزة بهدوء خلف الأضواء، من دون أي تداعيات في أي مكان. ولكن في هذه الحالة، يمكن أن تؤدي الأسئلة المطروحة، إذا استخدمنا بعض كلمات لينين، إلى واحدة من تلك “التحولات السريعة بشكل لا يصدق” من “الخداع الناعم” إلى “العنف الجامح” الذي يميز التاريخ الروسي، وقد يزعزع أسس القوة السوفياتية.

لكن هذه ليست مشكلة ستالين وحده فقط. لقد كان هناك منذ عام 1938 تخثر مقلق للحياة السياسية في الدوائر العليا للسلطة السوفياتية. لقد كان من المفترض أن يجتمع مؤتمر السوفيات لعموم الاتحاد، وهو من الناحية النظرية الهيئة العليا للحزب، في الأقل مرة واحدة كل ثلاث سنوات. لكن مرت ثماني سنوات كاملة على آخر اجتماع. وخلال هذه الفترة تضاعفت عضوية الحزب عددياً، وكانت وفيات الحزب خلال الحرب هائلة، واليوم أكثر من نصف أعضاء الحزب هم أشخاص انضموا للحزب منذ انعقاد مؤتمره الأخير. في غضون ذلك، استمرت المجموعة الصغيرة نفسها من الرجال في القمة من خلال سلسلة مذهلة من التقلبات الوطنية. من المؤكد أن هناك سبباً ما جعل تجارب الحرب تحدث تغييرات سياسية أساسية في جميع الحكومات الغربية الكبرى. ومن المؤكد أيضاً أن أسباب هذه الظاهرة أساسية بما يكفي لتكون حاضرة في مكان ما في دهاليز الحياة السياسية السوفياتية أيضاً. ومع ذلك، لم تحظَ هذه القضايا بأي اعتراف في روسيا.

يجب أن نفترض من هذا أنه حتى داخل مؤسسة شديدة الانضباط مثل الحزب الشيوعي لا بد أن يكون هناك تباين متزايد في العمر والتوقعات والاهتمامات بين الكتلة الكبيرة لأعضاء الحزب، الذين تم تجنيدهم حديثاً في الحركة، والزمرة الصغيرة من الرجال التي تعيد إنتاج نفسها في القمة، والتي لم يلتقِ بها معظم أعضاء الحزب من قبل، ولم يتحدثوا إليها من قبل، ولا يمكن أن تكون لهم معها علاقة سياسية حميمية.

من يستطيع أن يقول، في هذه الظروف، إن التجديد الحتمي لمستويات السلطة العليا (والذي يمكن أن يكون فقط مسألة وقت) يمكن أن يتم بسلاسة وسلمية، أو ما إذا كان المنافسون في البحث عن سلطة أعلى لن يتواصلوا في النهاية مع هذه الجماهير غير الناضجة سياسياً وعديمة الخبرة في القاعدة من أجل الحصول على دعم لمطالبهم؟ إذا حدث هذا في زمن ما، فقد تكون له عواقب غريبة على الحزب الشيوعي، الذي يقتصر نشاط العضوية فيه بشكل عام على الانضباط والطاعة الصارمة لا على فنون التسوية والتوافق. وإذا سيطر الانقسام على الحزب وشله، فإن فوضى وضعف المجتمع الروسي سوف تنكشف بأشكال لا توصف، لأننا رأينا أن القوة السوفياتية ليست سوى قشرة تخفي كتلة غير متناسقة من البشر لا يسمح لهم بأي هيكل تنظيمي مستقل. لا يوجد في روسيا حتى ما يسمى بحكومة محلية. كما لم يعرف الجيل الحالي من الروس أبداً عفوية العمل الجماعي. وبالتالي، إذا حدث أي شيء يزعزع وحدة وفعالية الحزب كأداة سياسية، فقد تتغير روسيا السوفياتية بين عشية وضحاها من واحدة من أقوى المجتمعات الوطنية إلى واحدة من أضعف المجتمعات الوطنية وأكثرها إثارة للشفقة.

وبالتالي، فإن مستقبل القوة السوفياتية قد لا يكون آمناً بأي حال من الأحوال بالقدر الذي ستجعله قدرة روسيا على خداع الذات يبدو لرجال الكرملين. لقد أثبتوا أنهم يستطيعون الاحتفاظ بالسلطة لأنفسهم، لكن لا يزال يتعين إثبات قدرتهم على تسليمها للآخرين بهدوء وسهولة. في غضون ذلك، ألحقت مصاعب حكمهم وتقلبات الحياة الدولية أضراراً كبيرة على قوة وآمال الشعب العظيم الذي تستند إليه سلطتهم. من الغريب أن نلاحظ أن القوة الأيديولوجية للسلطة السوفياتية هي الأقوى اليوم في مناطق خارج حدود روسيا، بعيداً عن متناول قوتها البوليسية. وتعيد هذه الظاهرة إلى الأذهان مقارنة استخدمها توماس مان في روايته العظيمة “بودنبروك”، إذ لاحظ أن المؤسسات البشرية غالباً ما تظهر عبقريتها الخارجية عندما يكون انحلالها الداخلي في الواقع متقدماً للغاية. فقد قارن عائلة بودنبروك، في أيام بريقها الأعظم، بواحدة من تلك النجوم التي يسطع نورها بشدة على هذا العالم بعد أن تكون في الواقع قد ماتت منذ فترة طويلة. فمن يستطيع القول بثقة أن الضوء القوي الذي لا يزال يلقي به الكرملين على الشعوب المستاءة في العالم الغربي ليس ذلك الشفق القوي لكوكبة من النجوم التي يتضاءل نورها في الواقع؟ لا يمكن إثبات ذلك، كما ولا يمكن دحضه. لكن الاحتمال قائم (وفي رأي هذا الكاتب هو احتمال قوي) بأن القوة السوفياتية، مثل العالم الرأسمالي في مفهومها، تحمل في داخلها بذور اضمحلالها، وأن نمو هذه البذور متقدم بشكل جيد.

رابعاً

من الواضح أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تتوقع في المستقبل المنظور التمتع بعلاقة سياسية حميمية مع النظام السوفياتي. لذا، ينبغي أن تستمر في اعتبار الاتحاد السوفياتي غريماً لها وليس شريكاً في الساحة السياسية. يجب أن تتوقع باستمرار بأن السياسات السوفياتية لن تعكس أي شغف مجرد للسلام والاستقرار، ولا أي إيمان حقيقي بإمكانية التعايش السلمي الدائم بين العالمين الاشتراكي والرأسمالي، ولكن بالأحرى يجب أن تتوقع ضغطاً حذراً ومستمراً من أجل تعطيل وإضعاف جميع التأثير المنافس والقوى المنافسة.

  • في ضوء هذه الظروف، لن يجد المراقب المتأني للعلاقات الروسية الأميركية أي سبب يدعوه للشكوى من تحدي الكرملين المجتمع الأميركي

ومع ذلك فإن الحقائق تظهر أن روسيا، على عكس العالم الغربي بشكل عام، لا تزال إلى حد بعيد الطرف الأضعف، وأن السياسة السوفياتية مرنة للغاية، وأن المجتمع السوفياتي قد يحتوي على أوجه قصور ستضعف في النهاية إمكاناته الإجمالية. وهذا بحد ذاته يبرر تبني الولايات المتحدة بثقة معقولة سياسة الاحتواء الحازم، المصممة لمواجهة الروس بقوة مضادة غير قابلة للتغيير في كل مكان يظهرون فيها علامات التعدي على صالح عالم يسوده السلام والاستقرار.

لكن في الواقع، لا تقتصر احتمالات السياسة الأميركية بأي حال من الأحوال على الثبات في موقعهم والأمل في الأفضل. من الممكن تماماً للولايات المتحدة أن تؤثر من خلال إجراءاتها في التطورات الداخلية، سواء داخل روسيا أو عبر الحركة الشيوعية الدولية، التي يتم من خلالها تحديد السياسة الروسية إلى حد كبير. هذه ليست فقط مسألة تدبير متواضع للنشاط المعلوماتي الذي يمكن لهذه الحكومة أن تمارسه في الاتحاد السوفياتي وفي أي مكان آخر، على الرغم من أن ذلك مهم أيضاً. إنه بالأحرى مسألة مدى قدرة الولايات المتحدة على خلق انطباع بين شعوب العالم بأنها بلد يعرف ما يريد، ويتعامل بنجاح مع مشاكل شؤونه الداخلية ومع مسؤوليات قوة عالمية تتمتع بالحيوية الروحية القادرة على الحفاظ على قوتها بين التيارات الأيديولوجية الرئيسة في ذلك الوقت. وإذا نجحت في خلق مثل هذا الانطباع والحفاظ عليه، ستبدو أهداف الشيوعية الروسية عقيمة وخيالية، وسيتضاءل آمال وحماس مؤيدي موسكو، ما سيفرض ضغوطاً إضافية على سياسات الكرملين الخارجية، ذلك لأن فكرة عجز العالم الرأسمالي هو حجر الزاوية في الفلسفة الشيوعية. إن حتى نجاة الولايات المتحدة من عواقب الكساد الاقتصادي المبكر الذي توقعته غربان الميدان الأحمر بثقة تامة منذ توقف الاضطرابات ستكون لها تداعيات عميقة ومهمة في جميع أنحاء العالم الشيوعي.

وعلى المنوال نفسه، فإن مظاهر التردد والانقسام والتفكك الداخلي في هذا البلد لها تأثير مفرح على الحركة الشيوعية برمتها. عند كل تمظهر لهذا الوضع، يكتسح العالم الشيوعي شعور من الأمل والإثارة. ويمكن ملاحظة سرور جديد في أروقة موسكو، مع انضمام فرق جديدة من المؤيدين الأجانب لما يمكنهم فقط رؤيته كقطار السياسة الدولية؛ والضغط الروسي يزداد في التدخل على خط الشؤون الدولية.

سيكون من المبالغة القول إن السلوك الأميركي يمكن من دون مساعدة ولوحده أن يمارس سلطة التحكم في مصير الحركة الشيوعية وإسقاط القوة السوفياتية في روسيا مبكراً. لكن للولايات المتحدة تملك القدرة على زيادة الضغوط على السياسة السوفياتية، وفرض درجة من الاعتدال والحذر على الكرملين أكثر مما كان معتاداً عليه في السنوات الأخيرة. بهذه الطريقة، يمكن الترويج للنزعات التي يجب أن تجد نافذة لها في نهاية المطاف إما في تفكك القوة السوفياتية أو التراجع التدريجي لها. لأنه لا يمكن لأي حركة روحية – نضالية -ولا سيما حركة الكرملين- أن تواجه الإحباط إلى أجل غير مسمى من دون أن تتكيف في النهاية بطريقة أو بأخرى مع منطق تلك الحالة.

وبالتالي فإن القرار سوف يقع إلى حد كبير على عاتق هذا البلد نفسه. إن قضية العلاقات السوفياتية الأميركية هي في جوهرها اختبار للقيمة الإجمالية للولايات المتحدة كأمة بين الأمم. ولتجنب الدمار، تحتاج الولايات المتحدة فقط إلى الالتزام بأفضل تقاليدها وإثبات أنها تستحق الحفاظ عليها كدولة عظيمة.

بالتأكيد، لم يسبق أن كان هناك اختبار أكثر عدلاً للجودة الوطنية من هذا. وفي ضوء هذه الظروف، لن يجد المراقب المتأني للعلاقات الروسية الأميركية أي سبب يدعوه للشكوى من تحدي الكرملين المجتمع الأميركي. إنه بالأحرى سيشعر ببعض الامتنان للقدر الذي وضع الشعب الأميركي أمام هذا التحدي العنيد، وجعل أمنهم الشامل كأمة رهين وحدتهم وقبولهم مسؤوليات القيادة الأخلاقية والسياسية التي أناطهم بها التاريخ بجلاء.

[1] “حول شعارات الولايات المتحدة الأوروبية”، أغسطس (آب) 1915. الطبعة السوفياتية الرسمية لأعمال لينين.

[2] تشير عبارة “الاشتراكية” في هذه الورقة إلى الماركسية أو الشيوعية اللينينية، وليس إلى الاشتراكية الليبرالية من النوع الدولي الثاني.

مجموعة من المقالات نشرت في عدد يوليو 1947 من فورين أفيرز

المزيد عن: فورين أفيرز \ االاتحاد السوفياتي \ أسلوب الرقابة السوفياتيا \ لإمبراطورية السوفياتية \ الاحتلال السوفياتي \ اخترنا لكم

 

 

You may also like

128 comments

RalphdEree 4 يونيو، 2022 - 9:26 ص

free shipping for cialis cialis

Reply
IverSar 5 يونيو، 2022 - 8:36 م

stromectol order buy ivermectin online

Reply
StromMek 7 يونيو، 2022 - 7:18 م

stromectol ivermectin 12

Reply
Stevenunise 10 يونيو، 2022 - 8:48 م

https://drwithoutdoctorprescription.online/# pet meds without vet prescription

Reply
Cameroncip 11 يونيو، 2022 - 9:11 م

buy prescription drugs canadian drug pharmacy

Reply
Stevenunise 11 يونيو، 2022 - 10:20 م

https://drwithoutdoctorprescription.com/# pet meds without vet prescription

Reply
ThomasRaw 12 يونيو، 2022 - 6:19 ص

canadian drugs canadian drugstore online

Reply
Michaelrox 17 يونيو، 2022 - 9:55 ص

https://sildenafilmg.shop/# best place to buy viagra online

Reply
Michaelrox 18 يونيو، 2022 - 8:54 ص

https://sildenafilmg.shop/# viagra cost per pill

Reply
BrandonFlini 19 يونيو، 2022 - 12:29 ص

where can i buy viagra over the counter viagra shop

Reply
Michaelrox 19 يونيو، 2022 - 7:44 ص

https://sildenafilmg.com/ viagra from canada

Reply
BrandonFlini 20 يونيو، 2022 - 10:59 م Reply
GeorgeSmori 21 يونيو، 2022 - 7:35 م

prednisone 20mg nz prednisone 10mg online

Reply
RobertShiet 28 يونيو، 2022 - 8:01 ص

https://diflucan.icu/# diflucan generic

Reply
Jefferyutera 28 يونيو، 2022 - 8:11 ص

diflucan tablet price diflucan best price

Reply
Jefferyutera 30 يونيو، 2022 - 6:43 ص

buy ciprofloxacin over the counter cipro 500mg best prices

Reply
RobertShiet 1 يوليو، 2022 - 12:18 ص

https://diflucan.icu/# diflucan 150 tablet

Reply
Jefferyutera 1 يوليو، 2022 - 2:26 م

best treatment for ed best over the counter ed pills

Reply
RobertShiet 2 يوليو، 2022 - 8:31 ص Reply
Jefferyutera 2 يوليو، 2022 - 10:05 م

buy diflucan cheap diflucan singapore pharmacy

Reply
IsiahMolla 3 يوليو، 2022 - 12:09 ص

diflucan 400mg where to get diflucan

Reply
Georgejed 3 يوليو، 2022 - 4:39 ص

https://erectionpills.best/# pills for erection

Reply
Michealmic 3 يوليو، 2022 - 6:23 ص

ed medications mens erection pills

Reply
RobertShiet 3 يوليو، 2022 - 4:52 م Reply
Jefferyutera 4 يوليو، 2022 - 6:32 ص Reply
IsiahMolla 4 يوليو، 2022 - 12:58 م

diflucan 200 mg daily diflucan 200mg

Reply
RobertShiet 5 يوليو، 2022 - 1:35 ص

https://withoutprescription.store/# non prescription erection pills

Reply
Jefferyutera 5 يوليو، 2022 - 2:22 م

diflucan 200mg tab diflucan 110 mg

Reply
IsiahMolla 6 يوليو، 2022 - 2:01 ص

п»їcipro generic ciprofloxacin 500mg buy online

Reply
Michealmic 6 يوليو، 2022 - 8:07 ص

ed medications online otc ed pills

Reply
RobertShiet 6 يوليو، 2022 - 10:30 ص Reply
Georgejed 6 يوليو، 2022 - 7:25 م Reply
Jefferyutera 6 يوليو، 2022 - 9:52 م

neurontin pill neurontin pills for sale

Reply
StevenKem 7 يوليو، 2022 - 8:23 ص

https://doxycyclineonline.store/# can you buy doxycycline online

Reply
StevenKem 8 يوليو، 2022 - 5:02 م Reply
Frankhyday 8 يوليو، 2022 - 6:35 م

mens erection pills best treatment for ed

Reply
DanielHak 8 يوليو، 2022 - 8:25 م

where to buy ivermectin ivermectin cream cost

Reply
StevenKem 10 يوليو، 2022 - 1:39 ص Reply
Frankhyday 10 يوليو، 2022 - 4:18 ص

viagra vs cialis bodybuilding over the counter ed treatment

Reply
Michaelwhich 10 يوليو، 2022 - 5:37 ص

best cure for ed natural drugs for ed

Reply
StevenKem 11 يوليو، 2022 - 10:26 ص Reply
Darrellwoops 11 يوليو، 2022 - 12:46 م

clomid for sale generic clomid for sale

Reply
Frankhyday 11 يوليو، 2022 - 2:06 م

do i have ed cheap ed medication

Reply
DanielRurse 11 يوليو، 2022 - 4:34 م

erection pills the best ed pills

Reply
Michaelwhich 12 يوليو، 2022 - 2:07 ص

google viagra dosage recommendations natural ed

Reply
StevenKem 12 يوليو، 2022 - 6:50 م

https://edpills.best/# new treatments for ed

Reply
Davidbutle 12 يوليو، 2022 - 7:03 م Reply
Frankhyday 12 يوليو، 2022 - 11:41 م

cheap doxycycline cheap doxycycline

Reply
Darrellwoops 13 يوليو، 2022 - 5:03 ص

order stromectol over the counter stromectol 3mg tablets

Reply
PhillipSnose 13 يوليو، 2022 - 4:28 م

stromectol 3 mg tablets price stromectol 3mg tablets

Reply
BrandonBiock 13 يوليو، 2022 - 8:09 م Reply
BrandonBiock 14 يوليو، 2022 - 8:52 ص

stromectol 12 mg tablets stromectol 12 mg tablets

Reply
PhillipSnose 15 يوليو، 2022 - 2:25 ص

stromectol for humans for sale stromectol

Reply
LarryEnata 16 يوليو، 2022 - 7:50 ص

https://pharmacyizi.com/# comfortis for dogs without vet prescription

Reply
Jefferylap 17 يوليو، 2022 - 3:30 ص

https://pharmacyizi.com/# buying ed pills online

Reply
LarryEnata 17 يوليو، 2022 - 5:23 م

https://pharmacyizi.com/# erectal disfunction

Reply
Douglasfadly 17 يوليو، 2022 - 8:58 م

https://pharmacyizi.com/# comfortis without vet prescription

Reply
LarryEnata 19 يوليو، 2022 - 2:39 ص

https://pharmacyizi.com/# can ed be cured

Reply
SteveBus 19 يوليو، 2022 - 4:52 ص

ed treatment natural anti fungal pills without prescription

Reply
Jefferylap 19 يوليو، 2022 - 1:25 م

https://pharmacyizi.com/# buy prescription drugs without doctor

Reply
Arthurreack 20 يوليو، 2022 - 9:50 ص

https://pharmacyizi.com/# best canadian online pharmacy

Reply
LarryEnata 20 يوليو، 2022 - 11:35 ص

https://pharmacyizi.com/# homeopathic remedies for ed

Reply
SteveBus 20 يوليو، 2022 - 1:25 م

vacuum pump for ed pharmacy medications

Reply
Jefferylap 21 يوليو، 2022 - 2:08 ص Reply
Pillenash 22 يوليو، 2022 - 8:34 م

erectile dysfunction medications compare ed drugs

Reply
RichardMyday 23 يوليو، 2022 - 3:01 ص Reply
Geralddidly 23 يوليو، 2022 - 10:21 ص

Indocin Prozac

Reply
Pillenash 24 يوليو، 2022 - 1:13 ص

Imuran Yasmin

Reply
GeorgeMof 24 يوليو، 2022 - 10:21 م

https://onlinepharmacy.men/# cialis canada online pharmacy

Reply
Pillenash 25 يوليو، 2022 - 6:00 ص

canadian pharmacy meds canada pharmacy

Reply
Matthewchusa 25 يوليو، 2022 - 9:18 م Reply
Geralddidly 26 يوليو، 2022 - 4:26 ص Reply
Pillenash 26 يوليو، 2022 - 10:48 ص

canadian pharmacy 24h com п»їcanadian pharmacy online

Reply
RichardMyday 26 يوليو، 2022 - 5:29 م

https://onlinepharmacy.men/# rate online pharmacies

Reply
Pillenash 27 يوليو، 2022 - 1:36 م

herbal ed treatment pills for ed

Reply
Geralddidly 27 يوليو، 2022 - 1:37 م

cheap erectile dysfunction pill best treatment for ed

Reply
ThomasMup 27 يوليو، 2022 - 8:17 م

https://onlinepharmacy.men/# what’s the best online pharmacy

Reply
GeorgeMof 28 يوليو، 2022 - 12:06 ص Reply
KeithEnume 28 يوليو، 2022 - 9:05 م

canadian pharmacy india pharmacy mail order

Reply
Geralddidly 28 يوليو، 2022 - 10:43 م

canadian drugs online cvs prescription prices without insurance

Reply
JeffreyjEx 29 يوليو، 2022 - 6:44 م

https://stromectolbestprice.com/# how long does ivermectin last

Reply
Robertquini 30 يوليو، 2022 - 2:01 م

stromectol dosage chart in pounds stromectol dosing

Reply
JeffreyjEx 31 يوليو، 2022 - 4:08 ص Reply
Robertquini 31 يوليو، 2022 - 6:50 م

п»їwhere to buy stromectol online Stromectol

Reply
Jamesnag 1 أغسطس، 2022 - 5:17 ص

pumps for ed ed meds online

Reply
Jamesnag 2 أغسطس، 2022 - 10:06 ص Reply
Michaelkah 2 أغسطس، 2022 - 3:47 م

medicine for ed do i have ed

Reply
GerardDibra 2 أغسطس، 2022 - 10:48 م Reply
DarnellBek 3 أغسطس، 2022 - 1:23 م

buy prescription drugs online legally canadian drug pharmacy

Reply
DarnellBek 4 أغسطس، 2022 - 6:20 م

pain meds online without doctor prescription best canadian pharmacy online

Reply
DustinVak 5 أغسطس، 2022 - 7:47 ص

https://medrxfast.com/# non prescription erection pills

Reply
DarnellBek 5 أغسطس، 2022 - 10:59 م

cvs prescription prices without insurance prescription drugs

Reply
Thomastix 6 أغسطس، 2022 - 11:23 م

https://medrxfast.com/# best canadian online pharmacy

Reply
DarnellBek 7 أغسطس، 2022 - 4:04 ص

canadian drugstore online non prescription ed drugs

Reply
DustinVak 7 أغسطس، 2022 - 10:29 م

https://medrxfast.com/# legal to buy prescription drugs from canada

Reply
DarnellBek 8 أغسطس، 2022 - 9:20 ص Reply
DustinVak 9 أغسطس، 2022 - 1:45 ص Reply
DavidRoano 9 أغسطس، 2022 - 8:44 ص

buy cheap prescription drugs online buy prescription drugs without doctor

Reply
DarnellBek 9 أغسطس، 2022 - 2:03 م

legal to buy prescription drugs without prescription cheap pet meds without vet prescription

Reply
DustinVak 10 أغسطس، 2022 - 5:04 ص

https://medrxfast.com/# canadian medications

Reply
Thomastix 10 أغسطس، 2022 - 6:24 ص

https://medrxfast.com/# buy prescription drugs online legally

Reply
DarnellBek 10 أغسطس، 2022 - 6:47 م

discount prescription drugs legal to buy prescription drugs from canada

Reply
DavidRoano 10 أغسطس، 2022 - 9:48 م

canadian drug pharmacy buy prescription drugs online

Reply
DustinVak 11 أغسطس، 2022 - 7:57 ص

https://medrxfast.com/# ed meds online without doctor prescription

Reply
DarnellBek 11 أغسطس، 2022 - 11:17 م

how to get prescription drugs without doctor buy prescription drugs without doctor

Reply
DustinVak 12 أغسطس، 2022 - 10:43 ص

https://medrxfast.com/# dog antibiotics without vet prescription

Reply
DavidRoano 12 أغسطس، 2022 - 12:57 م

cat antibiotics without pet prescription pet meds without vet prescription

Reply
DarnellBek 13 أغسطس، 2022 - 3:45 ص

amoxicillin without a doctor’s prescription pet meds without vet prescription

Reply
Thomastix 13 أغسطس، 2022 - 5:52 ص

https://medrxfast.com/# canadian pharmacy

Reply
DarnellBek 14 أغسطس، 2022 - 8:26 ص

buy prescription drugs discount prescription drugs

Reply
DarnellBek 15 أغسطس، 2022 - 1:09 م

meds online without doctor prescription prescription drugs without prior prescription

Reply
DavidRoano 15 أغسطس، 2022 - 2:14 م

buy anti biotics without prescription pain meds without written prescription

Reply
DustinVak 15 أغسطس، 2022 - 6:43 م

https://medrxfast.com/# buy anti biotics without prescription

Reply
JordanReita 19 أغسطس، 2022 - 1:44 م

https://valtrex.icu/# valtrex 500 mg daily

Reply
Williamawani 20 أغسطس، 2022 - 10:25 ص

neurontin 300mg neurontin 900

Reply
JordanReita 20 أغسطس، 2022 - 10:10 م

https://diflucan.life/# diflucan drug coupon

Reply
TommyMot 21 أغسطس، 2022 - 3:00 م

https://glucophage.top/# metformin 250 mg

Reply
ThomasDon 22 أغسطس، 2022 - 3:25 ص

https://finasteride.top/# can you get propecia without a prescription

Reply
TommyMot 23 أغسطس، 2022 - 12:16 ص

https://finasteride.top/# buy propecia no prescription

Reply
Thomaskib 23 أغسطس، 2022 - 12:20 ص

buy zithromax online zithromax tablets for sale

Reply
TommyMot 24 أغسطس، 2022 - 9:23 ص

https://paxil.tech/# paxil for ocd

Reply
ThomasDon 24 أغسطس، 2022 - 8:51 م

https://glucophage.top/# metformin script

Reply
Adrianglync 25 أغسطس، 2022 - 6:26 م

zithromax for sale cheap zithromax online usa no prescription

Reply
ThomasDon 26 أغسطس، 2022 - 5:31 ص

https://glucophage.top/# generic metformin 10 mg tablet

Reply
ThomasBup 26 أغسطس، 2022 - 8:19 م Reply
Peterporse 27 أغسطس، 2022 - 1:00 م

https://hydroxychloroquine.icu/# hydroxychloroquine oral

Reply
PerryBaino 28 أغسطس، 2022 - 8:33 ص Reply
Peterporse 28 أغسطس، 2022 - 10:01 م

https://amoxicillin.pro/# buy amoxicillin canada

Reply

Leave a Comment

Editor-in-Chief: Nabil El-bkaili

CANADAVOICE is a free website  officially registered in NS / Canada.

 We are talking about CANADA’S international relations and their repercussions on

peace in the world.

 We care about matters related to asylum ,  refugees , immigration and their role in the development of CANADA.

We care about the economic and Culture movement and living in CANADA and the economic activity and its development in NOVA  SCOTIA and all Canadian provinces.

 CANADA VOICE is THE VOICE OF CANADA to the world

Published By : 4381689 CANADA VOICE \ EPUBLISHING \ NEWS – MEDIA WEBSITE

Tegistry id 438173 NS-HALIFAX

1013-5565 Nora Bernard str B3K 5K9  NS – Halifax  Canada

1 902 2217137 –

Email: nelbkaili@yahoo.com 

 

Editor-in-Chief : Nabil El-bkaili
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00