ثقافة و فنون هنري زغيب: أردت أن أنقل «النبي» إلى عربية حديثة تراعي نبض اليوم بمناسبة مرور مائة سنة على صدور الكتاب by admin 7 أغسطس، 2023 written by admin 7 أغسطس، 2023 337 إذا تستحيل ترجمةُ عبقريةِ اللغة الأَصلية فمن الضروري الترجمةُ بعبقرية اللغة الجديدة الشرق الاوسط\ بيروت : سوسن الأبطح يحتفل لبنان بمرور مائة سنة على صدور «النبي» لجبران خليل جبران الذي صار عالمياً، ومن بين الأكثر انتشاراً وقراءة، ويشارك كل بما يراه مناسباً لتكريم هذا الأديب الكبير وكتابه الذي عدّه هو نفسه في حياته، المدماك والأساس في مسيرته الأدبية. ومن بين المفاجآت السعيدة، صدور ترجمة جديدة للكتاب إلى العربية وضعها هذه المرة الشاعر هنري زغيب. وإذ يسأل واحدنا ما فائدة ترجمة جديدة، لكتاب لم نعد نعرف كيف نحصي ترجماته. وعن هذا السؤال يجيبنا المترجم نفسه قائلاً: «من زمان وأنا أفكر في ترجمة هذا الكتاب، بعد عقود على صدور ترجماته السابقة في لغة كانت بنت عصرها وعليها أن تتجدد. فاللغة، كأيّ كائن حي، تتجدَّد قاموساً وأُسلوباً كل فترة. ومن هنا فإن لغةَ اليوم الرشيقةَ غيرُ تلك التي كانت سائدة في عشرينات القرن الماضي. من هنا رأيتُ أن أنقل (النبي) إلى عربية حديثة تراعي نبض اليوم مع كل الأمانة للُغة جبران الأصلية». غلاف النبي كتاب جاء بعد حرب عالمية وضع جبران كتابه في العقد الثاني من القرن العشرين، والعالَم خارج من ويلات الحرب العالمية الأُولى وما صاحبَها من نكباتٍ ومآسٍ وفواجعَ، فجاء «النبي» بمضمونه ولَهجته وحُبه الإِنساني لا الفردي. وجبران، في جميع فصول الكتاب، اعتمد لغةً تبشيرية تُناسب ما يريد إِيصاله من أَفكار، سكَبَها في إِيقاع عصره بلُغةٍ لا تخلو من البطْء والتراكيب والاستعارات الْتي كانت فترتئذٍ رائجةً بين القراء. لذا يقول زغيب: «سكبتُ النص العربي في لغة رشيقة هي بنتُ عصريَ اليوم لا عصر جبران. اللغة كائن حيٌّ يتطوَّر مع العصور والأَجيال المتعاقبة، حتى إِنجليزية جبران في كتابه تطوَّرت عما كانت عليه قبل 100 سنة (1923)، وإِخاله لو كان له أَن يكتبه اليوم لاتَّخذ لها إِيقاعاً آخر يناسب عصرَنا. لذا ترجمتُ إِنجليزيةَ جبران الأَمس بعَربية اليوم ورشاقتها وإِيقاعها العصري، بإِيجازٍ بليغٍ أَمينٍ لمبناها وأَمينٍ للمعنى الجبراني في نسيجه التأْليفي لا اللُغوي». ويضيف زغيب: «بذلك أَنقذْتُ ترجمتي من تراكيب النص الأَصلي بإِيقاعها العتيق، ومن غبار العربية العتيقة وما يعتَورها من تراكيبَ مأْلوفةٍ ومفرداتٍ مكرَّرةٍ وحواشٍ عتيقة مستعمَلة تُثْقل انسياب النص». يقول الشاعر إنه راضٍ عن الطريقة التي بها ترجم الكتاب في مراحلَ ثلاثٍ. بدأ بترجمة المعنى، التي هي نقْل أَمين لمضمون النص، لا شكله ولا أُسلوبه. وفي مرحلة ثانية، الدخولُ إِلى معنى المعنى: وهو اختراق حجُب الكلمات بلوغاً لمدلولها الداخلي، عمقها الآخَر. وفي هذا الدخول ترجمةُ فكْر جبران لا نصِّه، أَي خدمة أَفكاره لا لغتِه. فهو شاعر في نثره الجميل، ولا يجوز نقْل شاعريته في ظاهرها بل فيما يرمز بها من معتقداتٍ لأَجلها أَو لأَجل أَكثرها وضَع هذا الكتاب. فالسفينة في الكتاب رمز، والبحر رمز، وجزيرة مولده رمز، وأُورفليس رمز، والميترا رمز. ومن يعرف إِيمان جبران بالتقمُّص ودورات الحياة المتتالية التي يُلْمِحُ إليها، يسْهل عليه اكتناهُ تلك الرموز وسواها في الكتاب. «من هنا وجبَ أَن يكون النصُّ المنقولُ على المستوى الأَقرب إِلى تلك الشاعرية الجبرانية. وهذا هو الدخول إِلى معنى المعنى. فالترجمةُ الحرفية غالباً ما تكون كاريكاتورية في مؤَدَّاها حين تَنقل حتى الصياغةَ من اللغة الأَصلية. الترجمة تنقُل فكرةَ كاتبِها لا أُسلوبَه ولا صياغتَه». وفي المرحلة الثالثة كان تنصيع اللغة والأُسلوب: «كنتُ أُغلق النص الأَصلي وأَعمل على نصِّيَ العربي صقْلاً وتنصيعاً دون أَيِّ ابتعادٍ عن الأَصل، معتبراً أَني نقلتُ مضمونَه بالإِنجليزية، أَما الأُسلوب بالعربية فمسؤُوليتي، لأَن ترجمة الأُسلوب الجبراني الأَصلي يفكِّك نصَّه مترجَماً إِلى خلل واضح في العربية. لكل لغة عبقريتُها الخاصة. وإِذا تستحيل ترجمةُ عبقريةِ اللغة الأَصلية، فمن الضروري الترجمةُ بعبقرية اللغة الجديدة. من هنا، في هذه المرحلة الثالثة، أَمام نصِّي العربيّ دون جواره الإِنجليزي، لا تعود الكلماتُ حروفاً أَمامي بل مَلامسَ پــيانو أَصوغُ بها أَنغاماً أَسمعها وأَنا أَتنقَّل من سطر إِلى سطر، أُزغردُها بما يفي جبران معناه ويرضي مبناي». الاحتفالات بكتاب «النبي» يتأسف زغيب لأن أياً من المؤسسات الأَكاديمية الكبرى في لبنان لم تحتفِ بمئوية «النبي» مخصِّصَة حدثاً مستقلّاً، كما احتفلَت الجامعة اللبنانية الأَميركية (LAU) بقسْمَين أَعدَّهما فيها «مركز التراث اللبناني»: المؤْتمر الدوَلي نهاراً، والقراءات المسرحية مساءً. وكان ذلك لافتاً، إذ لم يكن مأْلوفاً في سياق المؤْتمرات – أَن ينتهي المؤْتمر في جلسته الأَخيرة (الخامسة) بجمهور كثيف كان حضَر الجلسة الافتتاحية مالئاً كامل قاعة المحاضرات بمن جاءوا يُصغون إِلى 14 محاضرة مُتَتَالية عن جبران عُمُوماً و«النبي» خصوصاً – يعلق زغيب: «طالعَني التساؤُل: هل جبران – في عام 92 على غيابه – لا يزال يستقطب مريديه بعدَ ما حصد غيابُه حتى اليوم من كتُب عنه ودراسات وأَبحاث ومؤْتمرات وندوات؟ أَم هو كتاب (النبي) ما زال يستقطب مهتمِّين، هو الكتاب الآتي من الغدِ البكْر لا من ماضٍ بلغ اليوم 100 سنة؟ أَم هُمُ محاضرُون ممتازون تنوَّعَتْ مواضيعُ أَوراقهم على مساحة جديدة بمعالجات لم تبلُغْها دراسات سابقة في مؤْتمرات آنفة ومؤَلفات كثيرة؟ لذا لا أتوقف عند تقصير (برنامج رسمي في لبنان) يتعاطى في هذا الشأن لأن الدولة غائبة في جميع القطاعات، ومن هنا أتعاطى مع لبنان الوطن المبدع وأشيح عن هذه الدولة الفاشلة». أي جرأة، أن يقدم هنري زغيب على ترجمة جديدة، تضعه في منافسة مع ترجمات كثيرة سابقة، بينها ما هو ممتاز؟ «نعم تساءلت، ولكنْ لم يعُد يؤَرِّقْني هذا التساؤُل حين بدأتُ بالترجمة. فالنصُّ المترجَم ليس ابنَ حقيقةٍ علمية ثابتة لا حيادَ عن صوابيَّتها، بل هو وليدُ احتمالات في النص الأَصلي يتَّسع لها النص المنقول إِلى اللغة الجديدة، خصوصاً حين هذه تكون، كالعربية، لغةً غنية بالمفردات والمرادفات والتورية والمجازات والاستعارات، ما يغْني المترجم حين هو متمكِّنٌ من لغته الأُم ومن لغة النص الأَصلي، فيُعطيه فسحةَ انطلاقٍ لا تتحدَّد بالحَرفيّ ولا تَجنح إِلى خيانة الأَصل. من هنا اعتباري أَنَّ الترجمة ليست (ماذا نترجم؟) بل (كيف نترجم ماذا؟)». وماذا لو جاءت ترجمة أخرى بعدك؟ نقول له: «طبعاً سيأتي من يترجم بعدي في لغة عصره، وسيكون أفضل مني لأنه سيترجم في لغة طازجة تبدو لغتي أمامها عتيقة. قاموس اللغة يتغير، يتطوّر، وعلى كاتبه أن يكون من مستوى هذين التطوُّر والتغيُّر». هل اعتمد زغيب على ترجمات سابقة؟ أم وضعها جميعها جانباً واشتغل على النص الإنجليزي كمادة خام؟ «لأَجل أَمانةٍ متشدِّدة في ترجمتي (النبي)، تعمَّدْتُ أَلَّا أَطَّلع على أَيِّ ترجمةٍ سابقة، كي لا أَكون متأَثراً بأَيِّ صيغةٍ لسواي، مع إِدراكي رصانةَ مَن ترجموا قبلي، وأَنني قد أَلتقي معهم ببعض المفردات، ربما أنأى عنهم في أَكثرها. هذا هو النهج الذي اتَّبعتُه وأنا وجهاً لوجه مع النص الإنجليزي مباشرةً كمادة خام. من هنا التمايز الذي في ترجمتي عن سواها عند مفاصل عدة، منها اعتمادي كلمة (الإله) بدل كلمة الله التي راجت في سائر الترجمات، وهي صحيحة في المطلق ديناً ومعتقَداً. غير أَنها لا تنطبق إِلَّا على المؤْمنين بأَديان إبراهيمية محدَّدة، ولا تشمل مَن عباداتُهم تناجي أُلوهيات أُخرى. من هنا استعملتُ كلمة (الإِله) لشموليتها إِيماناً (نؤْمن بإِله واحدٍ آبٍ ضابطٍ الكل، ولا إِله إِلَّا الله)، ومعتقداتٍ مختلفةً (لشعوبٍ متعددة في أَصقاع أُخرى من العالم) وميثولوجياتٍ (فيها طبيعيٌّ تَعَدُّدُ الآلهة). وجبران، في إِيمانه بالعالَم الواحد والإِنسان الكوني والحقيقة الأَزلية ووحدة العلاقة الشاملة المترابطة بين جميع الأَديان، إِنما يرمي إِلى (الإِله) في معنى الأُلوهة المطلَق». اعتمد زغيب في ترجمته أيضاً كلمة «الحب» لا «المحبة»، ولو أن هذه الأخيرة راجَت في الأَوساط العربية، نصوصاً منشورةً، وغناءً بصوت فيروز. لكنّ في كلمة «المحبة»، في رأيه، ابتعاداً عن فكرة جبران الذي يقصد «الحب» لا «المحبة». المحبة طوباوية إِنسانية حَنون، فيما جبران يقصد ذاك الذي «يومَ يَندَهُكُمُ انقادوا لَه، ولو أنَّ دروبَه وعْـرةٌ شائكة… ويوم يَغمُرُكُم بِجناحَيه استسلِموا إِليه، ولو أنَّ السيف بين ريشِهما قد يجرَحُكُم… وهذا ما لا تفعله المحبة بل هو الحب بكل عَصْفِه». يضيف زغيب: «هنا الفارقُ بين ترجمة المعنى والدخول إِلى معنى المعنى. وهنا تكمن كل الصعوبة في الترجمة. مؤسف جدّاً أن تكون ترجمات (النبي)، في أكثرها، لم تبلُغ سوى المعنى المباشر فقط، دون معنى المعنى، ونقلت أسلوب جبران الإنجليزي كما هو، فبقيت بعيدةً عن روح جبران». لكن هل أسعف الشعر هنري زغيب في تحقيق ترجمة هفهافة لكتاب عده البعض تدشيناً لقصيدة النثر؟ «أسعفني الشعر كثيراً في ترجمة (النبي)، لأن جبران في الأصل الإنجليزي شاعر في لغته قبل مضمونه وأفكاره. لذا حاولتُ أَن أَنقل إِلى العربية أَصداءَ جَوّ جبران بالإِنجليزية في تحليقها إِلى فضاءاتٍ من الخيال نقَلَتْها إِنجليزيتُه بأُسلوب حاذى السرديةَ حيناً والشاعريةَ حيناً آخَر، في لغة جاءَت سليمةً أُصولاً وقواعدَ لأَن ماري هاسكل نقَّتْها حتماً من شوائبَ وسقطات. غير أَن ماري هاسكل عملَت على اللغة مُدَرِّسة لغةٍ إِنجليزية لا كاتبة. ولو قُدِّر لجبران أَن تُراجعَ نصَّه كاتبة أَو شاعرة، كما حال باربرة يونغ لاحقاً في حياته، لربما كان أُسلوبُه مُوَشًّى أَكثرَ بعطر الشعر الذي يليق بجوِّ الكتاب. لكنه جاء في لغة عادية بنْتِ عصره، وإِخالُ مترجميه الأُوَل وضعوا نصوصهم بلغةٍ عربيةٍ بنتِ عصرهم بتراكيبها العادية وبعضها الباروكيّ المتحذلق، وهي غير ما هي اليوم، ما يجعلها في حاجة إِلى ترشيق». لا يعرف هنري زغيب عدد الترجمات العربية لـ«النبي» الصادرة قبل ترجمته. ففي كلٍّ منها خصائص لمترجمها تقترب أو تبتعد عن الأصل. ويصف ترجمة ميخائيل نعيمة بأنها «أمينة ودقيقة، لأن نعيمة عاش أفكار جبران فترجمها أفضل من سواه كأنه يسمعها من جبران مباشرة لا كأنه يقرأُها في نصه، لكنه وضع نصه المترجَم بِلُغته الأدبية الخاصة في عصره، وهي ابتعدت اليوم عن لغة العصر الرشيقة». يستطرد زغيب: «إيماني راسخٌ أَن الترجمة ثمرةُ احتمالات، فلا رضا كاملاً عن ترجمةٍ تظلُّ تحتملُ بعدُ صيَغاً أُخرى قد تكون جميعها صالحةً وصحيحةً في النص الواحد». ويروي زغيب أنه كان غالباً ما يبتعد عن ترجمته أَياماً طويلةً حتى يعود إِليها فيقرأَها بعين دون ذاكرة، ما يُتيحُ له تعديلاً وجدهُ ضروريّاً. و«أَنا واثقٌ بأَنني، بعد مدةٍ من صدور هذه الترجمة، سأَعود إِليها وأَجد ما يَجمُل بي بعدُ أَن أُعدِّل أَو أُبدِّل، خصوصاً في التراكيب لا المعاني. لأَن المعاني تكون انسكبَت في لغتي ويبقى أَن أُنصِّعَها بعدُ أَكثر. لا صحيحَ حاسماً في الترجمة بل احتمالات ضمن النص الواحد أَو المعنى الواحد. وهنا يكمُن العمل الإِبداعي». المزيد عن : أدب كتب لبنان 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post غسان شربل يكتب عن : موعد جدة الأوكراني next post استخبارات بريطانيا تستعين بالذكاء الاصطناعي لكشف الإرهابيين You may also like فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024