ثقافة و فنون عندما أنجز دي نرفال روايته عن “أوريليا” ثم انتحر كي يلتقيها by admin 18 يونيو، 2023 written by admin 18 يونيو، 2023 204 الشاعر الفرنسي أمضى حياته باحثاً عن المرأة – الشبح التي أطلت عليه حتى أمام أهرام مصر اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب حدث ذلك عند فجر أحد آخر أيام يناير (كانون الثاني) 1855، حين عثر الجيران بما يشبه الصدفة على الشاعر الفرنسي جيرار دي نرفال مشنوقاً في بيته بشارع فياي – لا نترن في باريس. بسرعة تبين أن الشاعر الذي اشتهر خصوصاً برحلته إلى الشرق التي وضع عنها واحداً من أغنى كتب الرحلات في تاريخ الأدب الفرنسي، مات منتحراً فكان أن أقفل التحقيق بسرعة ليدفن الراحل في مقبرة الأب لاشيز. ولئن كان دي نرفال وضع، عبر الانتحار، حداً لمعاناة طويلة، فإنه – في نظره – كان يسعى إلى لقاء أوريليا، حبه الخالد الذي رافق حياته، واتخذ لديه صور النساء جميعاً. أوريليا التي اخترعتها مخيلته، انطلاقاً من نظرة مبكرة في حياته، فرافقته طوال تلك الحياة. ولئن كنا نعرف، طبعاً، أن الأدب العالمي مليء بحكايات الحب، بل إن هذه الحكايات تكاد تكون المحرك الأساس للأشعار والروايات التي كتبها أدباء وشعراء كان الحب بالنسبة إليهم معاناة دائمة، لا بد أن نقول إن حكاية حب دي نرفال لأوريليا كانت مختلفة عن كل الحكايات. الحب المستحيل قبل ذلك لا مفر من أن نتوقف عند حكايات الحب بصورة عامة، إذ نعرف أنه ليس استثنائياً أن يكتب صاحب قلم عن الحب مهما كانت “جدية” كتاباته الأخرى. وليس استثنائياً أن يكون الحب رديفاً للمعاناة، بل رديفاً للحياة نفسها. ولعلنا لا نبتعد عن هذا كثيراً إن أشرنا إلى أن عملين خالدين في تاريخ البشرية، هما “الكوميديا الإلهية” لدانتي و”دون كيشوت” لثربانتس، انبنيا أساساً على الحب، وتحديداً على موضوعة البحث عن المحبوبة ومحاولة الالتقاء بها، واعتبارها نوراً يضيء وسط الظلمات. ومع هذا لا ريب أن في إمكاننا أن نقول عن رواية دي نرفال إنها ليست رواية عن الحب، بل رواية الحب بامتياز، رواية التوق إلى الحب، رواية الحب الذي يعطي صاحبه لذة الهبوط إلى الجحيم. ولعل ما يعزز هذا أن “أوريليا” كانت آخر ما كتب صاحب “رحلة إلى الشرق”، ولكن ليس هذا فقط، بل هي رواية التي ما إن خط دي نرفال آخر سطورها حتى رأى أن كل مبرر لوجوده قد انتهى، وأن الشيء الوحيد الذي يمكنه فعله الآن هو الذهاب إلى الما – وراء للقاء حبيبته، تماماً كما التقى دانتي بياتريس بعد الموت. صحيح أن دي نرفال كان، حين كتب ما كتبه من صفحات “أوريليا” وحين مات منتحراً، غائصاً في جنون لا برء منه، غير أن ذلك الجنون الذي رافقه خلال السنوات الأخيرة من حياته، لم يستطع منعه من أن يحب أوريليا، دون غيرها، وأن يعيد اختراعها من جديد في كل لحظة من حياته. إحدى طبعات رواية “أوريليا” (أمازون) نهاية وحيدة ممكنة قبل أسبوعين من انتحاره، كان دي نرفال تلقى الجزء الثاني من “أوريليا” مطبوعاً، وقبل ذلك كان تلقى الجزء الأول، وهو حين انتحر كان في صدد إنجاز جزء ثالث لم يكتمل أبداً. ولكن هل كان مقدراً حقاً لتلك الرواية أن تكتمل؟ دي نرفال وحده كان يعرف أن الوصول إلى نهاية لـ”أوريليا” مستحيل. النهاية الوحيدة الممكنة كانت نهايته هو: أن يضع حداً لحياته كان معناه بالنسبة إليه أن يضع نهاية لغياب أوريليا، ولكل تلك السنوات التي رأى فيها أوريليا، دائماً عبر الأخريات، وبات عليه أن يراها أخيراً: في عالم الموت. ومن هنا كانت نهاية دي نرفال نهاية الرواية، ولم يكن الرسام غوستاف دوريه بعيداً من الحقيقة حين رسم مشهد نهاية دي نرفال مشهداً للقائه أوريليا. أبواب عاجية بالنسبة إلى دي نرفال كانت كتابة “أوريليا”، “اختراقاً للأبواب العاجية التي تفصلنا عن العالم المرئي”، وكان السؤال الأساس بالنسبة إليه، وهو يكتب “أوريليا” في لحظات نادرة يفيق فيها من غرقه في الجنون ليكتب كما لو أنه يعيش أحلام يقظة “كيف يمكننا أن نفصل أنفسنا عن حقيقة الحلم المباغت هذه، نحن الذين نترك أنفسنا خلف المرأة، تلك القريبة الحلوة، نترك أنفسنا تغوص في حياة متخيلة؟ إننا، إذ نخضع هذه المرأة إلى منطق أحلامنا، نتمكن فقط عند ذاك من امتلاكها، ذلك أنها ليست امرأة بين النساء، بل هي المرأة – مع “ال” التعريف – تلك التي نحملها في داخلنا والتي تلهبنا بنيران حب لا يموت أبداً. أنتن أيتها النساء مهما كنتن: سيلفي أو أوكتافيا، أنجليك، أوجيني، لستن في الحقيقة سوى واحدة تسكن أحلامنا، هي تلك التي التقيناها ذات يوم – ولكن أين؟ – وتبقى تلك المرأة الأسطورية، الأخيرة، الوحيدة التي، بشكل مفاجئ، تعيد ارتباطنا بأسرار هذا العالم. إنها تلك التي تعيننا في هبوطنا نحو الجحيم، في الساعة التي يتكوكب فيها الليل بصور حيواتنا السابقة”. رؤية ابن الثالثة عشرة بدأ كل شيء حين كان الكاتب في الثالثة عشرة من عمره، يومها كان يتنزه في غابة ارمنوفيل غير بعيد من باريس، حين لمح فجأة، أدريان التي لا شك أنه قد خيل إليه أنها تشبه بياتريس دانتي. ومنذ تلك اللحظة لم يعد قادراً على نسيانها، ولا على العثور عليها. في كثير من أعماله كان سبق لدى نرفال أن عبر عن ذلك الترابط لديه بين الحلم والواقع، الحقيقة والذكرى الغامضة. والحال أن زيارته إلى الشرق (مصر وسوريا ولبنان وفلسطين) ورؤاه هناك، لم تزده إلا إمعاناً في ذلك، وكذلك إمعاناً في بحثه عن صورة الحب الوحيد والدائم، الذي قد يتخذ في كل مرة صورة مغايرة لامرأة جديدة، فيبحث دائماً عن المرأة الأولى نفسها، لكنه الآن في “أوريليا” يقوم بمحاولة أخيرة لانتزاع أدريان من الحلم والذاكرة. وهذا ما يفعله ليضفي على بطلة طفولته، ملامح هذه المرأة الخالدة: أوريليا. وهذه الأخيرة لن تولد إلا بفعل اختفاء أدريان، يجب على أدريان أن تتحول إلى شبح أبيض ووردي، لكي تولد أوريليا مرة وإلى الأبد. ودي نرفال يعرف أن هذه النقلة لا يمكن أن تتحقق إلا هناك في مملكة الموت، لكن الوصول إلى مملكة الموت وكما بالنسبة إلى الأقدمين لا يمكن أن يكون إلا عند نهاية الهبوط إلى الجحيم. والحال أن كثيرين من الذين كتبوا سيرة دي نرفال وحللوا أعماله يستهويهم أن يطرحوا هذا السؤال: إذا كانت “أوريليا” بالشكل الذي “انتهت” إليه تتبدى وليدة جنون الكاتب في أيامه الأخيرة، كيف كان يمكن لها أن تبدو لو أن دي نرفال كان حين كتبها ممتلكاً مقدراته العقلية كلها؟ نهاية مكتوبة؟ مهما يكن من الأمر، لا بد من القول إنه كان في طفولة دي نرفال ومسرى حياته ما يشي بالنهاية التي انتهى إليها. وسيرة حياته وما كتبه ليسا سوى فصول متعاقبة ومتمازجة من تلك المسيرة التي كانت، ومنذ البداية نوعاً من الهبوط إلى الجحيم. ولعل علينا هنا أن نعود إلى كتابه “الأكثر عقلانية” وهو “الرحلة إلى الشرق” لنلمح دي نرفال واقفاً أمام الأهرام في مصر، يتذكر الإلهة إيزيس ويخلط بين صورتها وصورة حبيبته الأخيرة في ذلك الحين، جيني كولون، التي بعد أن رأى فيها، على عادته، صورة أدريان، تركته مفضلة عليه عازف ناي في “أوبرا باريس الهزلية”. ولعل علينا أيضاً أن نعود إلى واحدة من أولى وأجمل رواياته “صورة الشيطان” لكي تطالعنا حكاية رسام يبحث في البندقية عن عزاء لحبه المفقود، فإذا به يكتشف في قبو كنيسة هناك لوحة، سرعان ما يرى أنها تحمل صورة لحبيبته مرسومة بيده هو! فيضطرب وينتحر، هذا كله لم يكن أكثر من تمهيد متواصل لـ”أوريليا” ولنهاية ذلك الكاتب الذي بدأ منذ طفولته يهتم بالسحر وضروب الخيال، تلميذاً لتيوفيل غوتييه، معجباً بالأدب الألماني “الذي هو أم الآداب جميعاً” مبجلاً “فاوست” غوته، حالماً بالشرق. ونعرف أنه حقق حلمه إذ زار هذا الشرق في عام 1843، وكتب عن “نساء لبنان” نصوصاً مدهشة تشي بما سيحل به بعد ذلك بسنوات قليلة. وجيرار دي نرفال ولد في باريس عام 1808 لأسرة ثرية، مما وفر له حياة رغد سرعان ما “دمرتها” أفكاره المبكرة، وغوصه منذ طفولته في الآداب الغرائبية وما إلى ذلك. المزيد عن: جيرار دي نرفالالأدب الفرنسيرواية أوريليا 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post مهى سلطان تكتب عن : الذكاء الاصطناعي والفن على مفترق الشك والجدل! next post الروائي الأميركي كورماك مكارثي راعي بقر تمرس بسحر الكلام You may also like شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: ماجان القديمة …أسرارٌ ورجلٌ... 27 نوفمبر، 2024 «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد 27 نوفمبر، 2024 محمد خيي ممثل مغربي يواصل تألقه عربيا 27 نوفمبر، 2024 3 جرائم سياسية حملت اسم “إعدامات” في التاريخ... 27 نوفمبر، 2024 سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024 فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024