ثقافة و فنونعربي السينما تعيد إلى الياباني هوكوزاي صورته وجوهر لوحاته الغارقة في الدماء by admin 9 مايو، 2023 written by admin 9 مايو، 2023 14 محطات حاسمة في حياة فنان الجمال المطلق والالتحام الصوفي بالطبيعة وعناصرها انذبنذنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب منذ المعرض الذي أقيم لأعماله الفنية الكبرى عام 2014 في “القصر الكبير” وسط العاصمة الفرنسية، تعرف زوار المعرض من كثب إلى ذلك الفنان الياباني كاتسوشيكا هوكوزاي، الذي كانوا يعرفون فقط مدى تأثيره في الانطباعيين وما بعد الانطباعيين في فرنسا، من إدوارد مانيه إلى فنسنت ويليم فان غوخ على سبيل المثال، بفضل لوحاته التي وصلت خلال النصف الثاني من القرن الـ19، ولاحقاً بات هوكوزاي جزءاً من الحياة الفنية العالمية في فرنسا وغيرها، ومع ذلك لم يكونوا كثراً أولئك الذين عرفوا أموراً كثيرة عن حياته التي دامت حتى سن الـ89، ولا سيما عن نضاله ضد الرقابة في بلاده وفي سبيل حداثة فنية كانت أشبه بمعجزة تحقيقها في بلد كاليابان. ولعل اللافت أن حداثة هوكوزاي تمثلت في سيره على خطى الفنون الهولندية التي سادت خلال القرنين السابقين على زمنه مرتبطة بالحياة الاجتماعية وبالمشاهد المنزلية، بل إن لوناً معيناً هو “الأزرق البروسي” كان يصله من تلك البلاد الأوروبية البعيدة فاستخدمه في لوحاته التي تصور أمواج البحر تصويراً لا يزال فريداً من نوعه حتى اليوم ومدار تساؤلات حائرة. اختلاف ومهما يكن، فإن هذا كله وسواه من أمور عن فن هوكوزاي وحياته لم تلبث أن عرفت من قبل الجمهور العريض، وتعرف أكثر وأكثر في هذه الأيام ولكن بفضل السينما. ففي الصالات الفرنسية وغيرها يعرض اليوم فيلم عنوانه “هوكوزاي”، يلقى إقبالاً من الجمهور وإعجاباً من أهل السينما ويتحدث تحديداً بلغة أخاذة وصورة أقرب إلى الروعة بل إلى الكمال عن حياة هوكوزاي وفنه، لكنها في نهاية الأمر صورة تكاد تكون مختلفة جذرياً عن الصورة المعهودة عنه والتي كان معرض 2014 قد رسخها. فالصورة التي يقدمها الفيلم حتى وإن كانت لا تتوقف إلا عند أربع محطات من حياته التي استمرت طويلاً لا تركز على الأبعاد الجمالية والتلوينية المدهشة التي لطالما أدهشت الفنانين ولا سيما فان غوخ الذي وصل الأمر به إلى محاكاته، بل على تلك الحياة الصاخبة الاستفزازية التي عاشها الفنان منذ كان شاباً يافعاً حتى بلغ أواخر سنوات حياته. وخلال المحطات الأربع يطالعنا هوكوزاي، الذي من المعروف أنه بدل اسمه ست مرات ومكان إقامته وعمله نحو 93 مرة، مجدداً في الفن، خائضاً في لغته، منفتحاً على العالم الخارجي، ولكن أيضاً مناضلاً ضد الظلم الذي تمارسه الرقابة لصالح السلطات الحاكمة والتخلف الاجتماعي. “مادادايو” ومن هنا، لم يكن أمراً عشوائياً أن يفتتح الفيلم أحداثه بجنود من الحرس الإمبراطوري يقتحمون مرسماً جماعياً في أحد أحياء إيدو، وهو الاسم القديم للعاصمة طوكيو، ليعتقلوا شباناً رسامين يعملون تحت إشراف معلميهم على إنجاز لوحات وإسطمبات وحتى صفحات من كتب، موجهين إلى الرسامين تهمة الفسوق وإفساد الشباب (أي تلك التهمة نفسها الجاهزة الخالدة التي لا تتوقف السلطات عن توجيهها للمبدعين الذين لا يسيرون على هدى تعاليمها منذ سقراط إلى محاكمات موسكو الستالينية وصولاً إلى اللجنة الماكارثية – الأميركية الشهيرة). صحيح أن هوكوزاي سينفد بجلده باذلاً بعض دمه في معمعة الهجوم، لكنه سيواصل دربه لنعود ونلتقي به في محطات تالية من الفيلم، قبل أن نصل معه إلى المحطة الأخيرة من تلك الحياة، وهو خلال ذلك كله يواصل الرسم والتلوين، رسم الطبيعة وجبل فوجي وأمواج البحر وتقلبات الفصول ولا سيما تلك المشاهد الرائعة التي لطالما فتنت الفنانين الأوروبيين حين كانت تصل إليهم على صورة إسطمبات تمثل مشاهداته وهو في طريقه متنقلاً على دروب مختلفة ومتنوعة بين إيدو والمدن الأخرى، التي مرة تكون ساحلية ومرة جبلية، لكن عين الرسام تتوقف خلالها لتلتقط عشرات المشاهد وهي حريصة دائماً على أن تكون الغلبة في المشاهد للون الأحمر القاني، لون الدم الذي كان قد صبغ المشهد الأول في الفيلم عبر تلك الدماء الحقيقية التي سالت من هوكوزاي ورفاقه، ولعل من أروع ما يمكن التوقف عنده هنا هو هيمنة ذلك اللون على الفيلم كله وتأثيره في الجزء الأخير من حياة هوكوزاي، على رغم أنه في كل مرة يلتف حوله حواريوه وتلامذته معتقدين أن نهايته قد حانت ينظر إليهم مبتسماً وهو يردد تلك العبارة التي بالتأكيد يتذكرها مشاهدو واحد من آخر أفلام أكيرا كوروساوا “مادادايو” وتعني في العربية “أنا لست مستعداً بعد!”. أسماء متنوعة مهما يكن، فإن مما لا شك فيه هو اهتمام الفيلم الذي يمكن القول عن تشكيله الجمالي إنه يضاهي جماليات فن هوكوزاي نفسه. إنه يحاول للمرة الأولى على الشاشة أن يكشف عن مقدار ما كان هوكوزاي يملك من رؤية جذرية وثورية، ولعل اللافت أكثر من أي أمر آخر هنا هو ما يرسمه مخرج الفيلم للفنان من صورة لها في الظاهر هدوء فنه وفي الباطن عنفه ولهيبه الداخليان، وفي هذا المعنى من الواضح أن الصورة التي يطلع بها المتفرج وقد غرق في زمن الفيلم وزمن اليابان وزمن الفن والألوان هي صورة فنان بالغ الحداثة، يطل على الأزمنة الجديدة وكله وعي بعمق إطلالته كفنان حر إلى أقصى حدود الحرية ومستقل إلى أبعد حدود الاستقلال، ومن هنا لم يكن غريباً أن يقول مخرج الفيلم إنه وبعد أن أنجز العمل على تحضير فيلمه وشرع في تصويره بات على دراية تامة “بما لم يكن واضحاً بالنسبة إليَّ قبل ذلك، وهو أن هوكوزاي عاش حياته كلها وهو على قناعة بأن الرسم يمكنه أن يغير العالم، وإلى الأفضل طبعاً”، وهو “للتوصل إلى ذلك، لم يعش طوال حياته إلا من أجل فنه”، وبالنسبة إلى المخرج هاجيمي هاشيموتو “لم يكن من قبيل الصدفة أن يختار هوكوزاي لنفسه ألقاباً جذرية تنم عن رغبته كفنان في إحداث ذلك التغيير الجذري الذي سعى إلى تحقيقه عبر فنه. فهو لقب نفسه مرات بأحمق الرسم العجوزـ ومرة بالنجم القطبي، وعلى غرار ذلك أتت بقية الألقاب كإشارة إلى ارتباطه الذي لم يرد له أن ينفصم بالطبيعة وتغيراتها. ذكرى الدماء والطريف، الذي يصوره لنا الفيلم في مرحلته الأخيرة على أية حال، هو ما يقوله هوكوزاي وقد تجاوز الـ70 من عمره، من أنه الآن غير راض عن كل ما أنجزه قبل هذه السن، وهو أضاف في تلك المناسبة أنه حتى وإن كان في فنه قد رسم الطبيعة والأسماك والطيور والنباتات بإتقان فإنه يشعر الآن بأنه قد عجز عن التقاط جوهرها في عمق أعماقه “لذلك أقول لكم إنني أتغير جذرياً الآن، ولا شك أنني حين سأصل إلى سن الـ80 سأكون قد وصلت إلى ذلك الجوهر”، والحقيقة أن ذلك ما عبر عنه في الواقع، وعلى سبيل المثال، في اللوحات الـ36 التي رسمها لجبل فوجي وغالباً ملوناً إياها بلون الدم الذي التقطته عيناه للجبل ذات غروب، فأيقظ في مخيلته ذكرى الدماء التي كانت صبغت كل ما حوله في الربع الأول من الفيلم. وعلى هذه الشاكلة نفسها غرق هوكوزاي في حديثه عن رسمه تلك الموجة البحرية الصاخبة الملونة بالأزرق والأبيض والتي قال عنها متخيلاً، وبعد أن رسمها في تطور بصري مذهل ودلالي بديع في عشرات اللوحات “تخيلوا ما الذي سيكون عليه شأن رسمي لهذه اللوحة لو عشت حتى سن الـ110 وبقيت قادراً على رسمها. لو فعلت سأكون قد أحرزت قدراً عظيماً من التقدم وأصل إلى جوهر الأمور”، ولكنه لم يفته أن يؤكد، على أية حال، أن الموجة “موجة كاناوا العظيمة” كما سماها بنفسه، حتى في هذه المرحلة “تتميز بقوتها المذهلة ولكن أكثر من هذا بقدرتها على تحفيز الناس وربط قوتهم بقوة الطبيعة”. ويمكننا أن نقول هنا إن شاشة فيلم هاشيموتو قد عرفت حقاً كيف توصل هذا الشعور وتلك المقدرة ولكن في مرحلة من عمر هوكوزاي لم تصل به إلى سن الـ110 لكنها أوصلت فنه إلى جوهر عرف الفيلم كيف ينقله مقدماً عن الفن الياباني صورة تبدو مناقضة تماماً للصورة المعهودة، وهو أمر جعل كثراً يثنون على هذا الفيلم ومن خلاله على فن الصورة المتحركة، الذي عرف هنا كيف يبرر انتظارنا الطويل لفيلم يأتي أخيراً ليقدم لنا صورة مختلفة تماماً لفنان كثيراً ما أشدنا بوداعة الأبعاد البصرية في فنه غير متنبهين إلى جوهر هذا الفن. المزيد عن: كاتسوشيكا هوكوزاي\إدوارد مانيه\فينسنت ويليم فان غوغ\فيلم مادادايو\الصالات الفرنسية\فيلم هوكوزاي\أكيرا كوروساو\االلجنة الماكارثية الأميركية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post مغني الراب أفيلينو: المتوقع لشخص مثلي هو الذهاب إلى السجن أو الموت next post رحيل فيليب سولرس رائد العصر الأدبي الفرنسي الجديد You may also like مستقبل مقاومة هوليوود الليبرالية بوجه ترمب 29 نوفمبر، 2024 نظرية فوكوياما عن “نهاية التاريخ” تسقط في غزة 29 نوفمبر، 2024 لماذا لا يعرف محبو فان غوخ سوى القليل... 29 نوفمبر، 2024 جائزة الكتاب النمساوي لرواية جريمة وديوان شعر ذاتي 29 نوفمبر، 2024 طفولة وبساطة مدهشة في لوحات العراقي وضاح مهدي 29 نوفمبر، 2024 استعادة كتاب “أطياف ماركس” بعد 20 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 تحديات المخرج فرنسوا تروفو بعد 40 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 21 قصيدة تعمد نيرودا نسيانها فشغلت الناس بعد... 28 نوفمبر، 2024 الرواية التاريخية النسوية كما تمثلت لدى ثلاث كاتبات... 28 نوفمبر، 2024 بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024