X FILEعربي محمد أبي سمرا يكتب عن : الحريري وتحولات سيرته في مرآة اغتياله وانهيار لبنان by admin 3 مايو، 2023 written by admin 3 مايو، 2023 56 فيما كانت الزعامات السُّنّية التقليدية، ووجهاء العائلات والأحياء الشعبية، يختفون وتتفكّك الروابط العائلية والسكنية، ظهر رفيق الحريري، وراح يخاطب طموحات النخب المهنية الجديدة مجلة المجلة \ محمد أبي سمرا لم يبق شيء سوى أنقاض من ما أنجزه رفيق الحريري (1944- 2005) في حقبة “إعادة البناء والإعمار” (1992- 2004) التي أعقبت ما ترتب على الحروب الأهلية في لبنان (1975- 1990) من دمار الحروب. وفي الذكرى الـ18 لاغتياله في 14 فبراير/شباط 2005، حين إمعان النظر المتأمّل في مصير تلك الحقبة ورجلها، لا بد من أن يلمح خلف هذا الركام اللبناني الراهن (الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي، الإفلاس السياسي، خراب مؤسسات الدولة والبنية التحتية، وفرار الأجيال الشابة من الخواء والعتمة الماحقتين في الديار اللبنانية) طيف رفيق الحريري، سيرته وصوره الكثيرة المتعددة والمتحولة. وخلف هذه الصور تلحّ أسئلة كثيرة: ما السياسة وما العمل العام، حين يؤدّيان إلى القتل؟ هل لا تنفك السياسة من القتل والحرب والموت؟ وهل من سياسة واجتماع سياسي في ظل القتل والاغتيال والتهديد بالقتل؟ وما هي السياسة في مجتمعات الحرب والاغتيال السياسي؟ وما صلة صُوَر رفيق الحريري وسيرته ومسيرته السياسية بما فعله اللبنانيون بعد مصرعه؟ وكيف يمكن النظر إلى صُوَر الحريري وسيرته في مرآة اغتياله؟ في محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة نستعيد اليوم، في الذكرى الـ18 للاغتيال، شهادات ترصد سيرته وصوره المتحوّلة في مرآة تلك الانتفاضة اللبنانية المغدورة بين 14 فبراير/شباط و14 مارس/ آذار 2005، علّ هذه الشهادات تفيد في النظر إلى أحوال لبنان المظلمة الراهنة. وقد شارك في هذه الشهادات: – النائب السابق، ورئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي، الزعيم الدرزي وليد جنبلاط. – سيمون كرم، سفير لبنان السابق في الولايات المتحدة الأميركية. – داود الصايغ، المستشار السابق للرئيس رفيق الحريري. – زهير حطب، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية. – فرنك مرمييه، الباحث والمستعرب الفرنسي. Getty Images \ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ونجله النائب تيمور جنبلاط أمام ضريح الرئيس الراحل رفيق الحريري في الذكرى الـ 11 لوفاته في 14 شباط 2016 في بيروت. وليد جنبلاط: سيقتلونك أو يقتلونني.. قال قبل إعدامه بأسبوعين يقول جنبلاط “بين 14 فبراير و14 مارس 2005، صنع اللبنانيون صورة جديدة لهم ولبلدهم، كما صنعوا صورة وسيرة جديدتين لرفيق الحريري بعد مقتله. والسبب في ذلك أن حادثة الاغتيال والسنوات الأربع التي سبقتها كشفت عن صورة جديدة للحريري، وخصوصًا بعد فوزنا معًا في الانتخابات النيابية سنة 2000. وهو الفوز الذي جوبه بقرار سوري – لبناني في عهد إميل لحود الرئاسي الذي، منذ العام 1998، أراد إهانة رفيق الحريري وتحقيره وعرقلة إنجازاته كرئيس للحكومة. والأرجح أن قرار إعدامه السياسي بدأ يلوحُ بعد فوز الانتخابي سنة 2000، قبل القرار الذي جرى تنفيذه بإعدامه جسديًا في 14 شباط/ فبراير 2005”. “ورغم أنه أُرغم عن ترك الحكم في بدايات عهد إميل لحود، كان مرتاحًا إلى مغادرته وتفرّغه للتحضير إلى خوض الانتخابات سنة 2000. وهذه كانت حاله أيضًا في العام 2004، عندما ترك الحكم كي يحضّر لانتخابات 2005. وهنا ربما أخطأ الحريري في التقدير في اطمئنانه لسلامته، وخصوصًا بعد التحذير الأميركي – الفرنسي للنظام السوري عقب محاولة اغتيال النائب مروان حمادة، رغم أنني لم أشاركه الرأي في الاطمئنان إلى النظام السوري. والأرجح أن قرار إعدام الحريري جسديًا اتُّخذ قبل زيارة وزير الخارجية السورية وليد المعلم بيروت آنذاك، والتي كانت غايتها تطمينية، قبل أسبوعين من تنفيذ عملية الاغتيال. ولا أزال أذكر قوله الشهير لي آنذاك: “إما سيقتلونك وإما سيقتلونني”. لكن قوله ذاك كان مصدره حدس مفاجئ، آني وعابر، وفي غمرة انشغاله المتفائل في التحضير للانتخابات النيابية التي لم تحصل إلا بعد اغتياله. ولا أزال أفكّر ما الذي دفعه إلى قول تلك العبارة التي صدرت، على الأرجح، عن شعور داخلي يصعب جلاؤه وسبر أغواره لدى رجل مثله كان يتميّز بالصبر والصمت ويأنف المهاترات السياسية”. يتابع “تحمّل رفيق الحريري ما يصعب تحمّله إلا بصبر صامت جلود. وربما ساعده في ذلك إيمانه الشخصي، ويقينه بقدرته وقدرة لبنان واللبنانيين على الإنجاز، وخصوصًا في العام 2000 وبعده. ففي تلك السّنة توفّي حافظ الأسد، وتحرّر جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، وصدر بيان المطارنة الموارنة الذي يدعو إلى خروج القوات السورية من لبنان. وهنا لا مهرب من الاعتراف بأننا، رفيق الحريري وأنا، كنا ضمن نظام الوصاية السورية على لبنان، والتي ما عادت قابلة للاحتمال بعدما ورث بشار الأسد والده رئيسا على سوريا، وأمسى تدخّله مباشرا وأقوى من السابق في الشؤون اللبنانية. وعبثا حاول رفيق الحريري التخفيف منه على نحو هادئ”. ما صنعه اللبنانيون من لحظة اغتيال المدوي، كان مستحيلًا تحقيقه من دون تلك التعويذة التي اسمها رفيق الحريري سيمون كرم سيمون كرم: الحريري تعويذة اللبنانيين المأسوية أما السفير اللبناني السابق في واشنطن سيمون كرم فيقول “يتمثّل قدر رفيق الحريري في أنه بدأ حياته العامة كبيرًا في عيون كثرة من اللبنانيين، وانتهى كبيرا في عيون غالبية ساحقة منهم. لكن مشكلة سيرته وصورته تكمنُ في الحقبة الطويلة الممتدة بين بداية حياته العامة والسياسية ونهايتها المأسوية”. “وهناك عوامل ثلاثة لها دور راجح في تكوين تلك صورته في بداية حضوره في الحياة العامة: – صورة العصامي القادم من الاغتراب. واللبنانيون يقدّرون العصامية، لأنها تلابسُ السّير الاجتماعية لكثيرين منهم، وتنال تقديرهم وإعجابهم. – الكرم والعطاء ساهما في رفع شأن صورته وشهرته. فالناس في ثقافتنا المحلية يقدّرون الكرم والبذل. – صلته بالعلم والتعليم، وهما أيضا موضع تقدير اللبنانيين، بل هما ملحمة حداثتهم وارتقائهم الاجتماعي. وما لم يتسنّ لرفيق الحريري تحصيله من تعليم إلا على نحو صعب وغير مرموق، فتح دروب تحصيله وافرا ومرموقا للبنانيين كثيرين. هذه العوامل التي لابست سيرته وصورته في البدايات ازدادت قوّتها وتضاعفت على نحو غير مسبوق في نهايته المدوّية شهيدًا لبنانيًا جامعًا، استطاع اللبنانيون أن يصنعوا منها استقلالهم الوطني الثاني… الذي تبدّد أخيرا هباء وركاما. لكن بين صورة البدايات والنهاية المدوّية، هناك سيرة النزف السياسي والاجتماعي والأخلاقي التي تعرّض لها لبنان، وصورة الحريري ورصيده، حين رضي لنفسه وللبنان وللبنانيين أن يخوضوا في متاهة مدمّرة. لا أدري ما الذي حمله على الاعتقاد أن في استطاعته بناء دولة لبنانية في ظل سلطة الوصاية السورية، بذُلِّها ومهاناتها وتدميرها الذاتي والوطني، والتي راحت تتكشّف بعدما انفكّت عقدة الألسن عقب قتله. ويبدو أنه في آخر أيامه وحشرجاته الأخيرة، استشعر هول القعر الذي انحدر إليه مع بلده. والدليل تلك الجملة التي أصرَّ على ختام استقالته الأخيرة بها: “إني أستودع الله واللبنانيين هذا البلد الحبيب”. قال هذه الجملة الوجدانية لأنه أحسّ أن البلاد أمست في الرمق الأخير والحشرجة الأخيرة، فيما كانت خطة اغتياله قيد التنفيذ. وقد يكون الحريري فهم أخيرا أن لبنان يعيش في متاهة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، عبر التلاعب بمصيره ككيان سياسي وطني في المشرق. لكن قمة المأساة تتمثل في أن عزمه على الخروج من تلك المتاهة، أدى إلى سفك دمه. فهل يمكن القول إن صورة رفيق الحريري هي سيرة رجل ما إن بدأ يتصالح مع نفسه وبلده حتى جرى اغتياله؟ وما صنعه اللبنانيون من لحظة اغتياله المدوي، كان مستحيلًا تحقيقه من دون تلك التعويذة التي اسمها رفيق الحريري..” Getty Images \ موقع الانفجار الضخم الذي أودى بحياة رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري في 14 فبراير 2005. زهير حطب: حرّر السُّنّة من لبنانيّتهم المنقوصة وارتهانهم للعروبة الأسدية الاستاذ في العلوم الاجتماعية الدكتور زهير حطب يرى ان “في بدايات إطلالة الحريري على الحياة العامة في لبنان، كان الناس يرتابون من عطاءاته ومساعداته ومشاريعه وشركاته ونشاطه السياسي، متسائلين عن أهدافه الغامضة التي ربطوها بمصالحه أو بمصالح جهات خارجية. فأهل مجتمعاتنا لم يسبق أن عرفوا او خبروا شخصيات أو زعامات سياسية – لاسيما في الوسط السُّنّي البيروتي – تشبه رفيق الحريري في عطاءاته الكثيرة المتنوّعة. فهم تعوّدوا على سياسيين وزعماء يقدّمون الخدمات لـ”جمهورهم الخاص” من مؤسسات الدولة وأجهزتها، لا من مؤسساتهم وأعمالهم الخاصة، ووفق مبدأ الولاء والمحسوبية والاستزلام. ولربما كسر الحريري هذا النمط من علاقة الناس بزعمائهم وتجاوزه بتوسيع دوائر تلك العلاقة وتنويعها قبل وصوله إلى رئاسة الحكومة وخوضه الانتخابات النيابية”. ويضيف “لعل أعماله وشركاته العملاقة للبناء والإعمار وفي القطاع المصرفي، ثم في رئاسة الحكومة، وحضوره على صعيد العلاقات الدولية، كسرت مفهوم الزعامة السياسية التقليدية والمحلية في بيروت ولبنان تاليا. وهذا ما حمل شخصا مثل الراحل منح الصلح سليل العائلة السياسية البيروتية التقليدية العريقة، على القول إن “رفيق الحريري عتّقنا”، أي جعل تلك العائلات السياسية عتيقة أو قديمة”. ويتابع “هذا كله ما كان يحمل على التساؤل عن ماهية “البروفايل” الذي يناسب شخصية الحريري العامة في مجتمعاتنا. فما من شخص عرفته إلا دُعي إلى مآدب الإفطارات الرمضانية في دارة رفيق الحريري: إما بصفته المهنية، وإما بصفته العائلية، وإما بصفته وجهًا اجتماعيًا أو مفتاحًا انتخابيًا، أو منتسبًا إلى جمعية أهلية أو رياضية أو خيرية، أو بصفته موظفا في أي من القطاعات المتنوّعة. حتى أنني لم أكن أعرف شخصا مميّزا في كفاءته في الوسط البيروتي، إلا وكان على صلة ما بأعمال الحريري الذي عمل على تنمية هذه الكفاءات في طائفته وسواها من الطوائف. وهناك كثر استفادوا من منحه التعليمية كانوا يناوئون سياسته ومشاريعه. وأعرف سواهم ممّن عملوا في مؤسساته من دون أن يقيّد حرياتهم الشخصية وخياراتهم السياسية. وفيما كانت الزعامات السُّنّية التقليدية، ووجهاء العائلات والأحياء الشعبية، يختفون وتتفكّك الروابط العائلية والسكنية في المدى السُّني البيروتي في زمن الحروب الأهلية وبعدها، ظهر رفيق الحريري، وراح يخاطب طموحات النخب المهنية الجديدة وخياراتها السياسية. وربما هذا ما جعل حضوره في الوجدان السُّني الشعبي ضعيفا قبل اغتياله، لأن الحريري سوّر نشاطه بسور عال من التكنوقراطيين والنخب المهنية. ذلك أن العائلات السنّية المدينية على اختلاف مراتبها معتادة على السعي والتحصيل والعمل في أطر تغلب عليها العلاقات والروابط العائلية التي تجاوزها رفيق الحريري”. لكن حادثة اغتياله، والحراك السياسي العام والجامع والجديد الذي أطلقه الاغتيال، حرّرا صورة رفيق الحريري من الريبة والالتباس اللذين كانا يداخلانها طوال حياته العامة والسياسية. أما الجماعة السُّنّية اللبنانية فكانت في حاجة إلى حادثة في حجم ذاك الاغتيال المدوي، كي تشعر بأهمية الحريري ودوره كأب للجماعة التي شعرت بما يشبه اليُتم بعيد فقده وغيابه، فراحت تنظر حولها لتجد أنها خسرت حضوره الكبير ومبادراته وكرمه ومشروعه الذي كان ينفّذه بلباقة وذكاء كبيرين. فاغتياله أشعر الجماعة السنّية أنها أُصيبت في صميم مشروعها وتمثيلها، وخصوصًا حيال الجماعة الشيعية المرصوصة المتماسكة تماسكًا عضويًّا في اجتماعها وزعامتها. ولعل حادثة اغتيال رفيق الحريري حرّرت السُّنّة من أمرين: من ارتهانهم في عروبتهم إلى “سوريا الأسد”. ومن شعورهم بلبنانيّتهم المنقوصة بالمقارنة مع لبنانية المسيحيين. ذلك لأنهم شعروا أنهم قدّموا شهيدًا كبيرًا على مذبح العروبة وتحرير لبنان من الوصاية السورية. كان قدرهُ أن يُقتل كي لا تكتمل صورته كرجل دولة مستقلة في بلد مستقل. وكان قدره هذا فاجعا للبنان واللبنانيين داود الصايغ داود الصايغ: اغتيل لئلا يكتمل رجلَ دولة مستقلة يقول الصايغ “بعد اغتياله اكتشف الناس معاناة رفيق الحريري الصامتة. وطوال أشهر تلت اغتياله كان من يصادفني في أي مكان يسألني سؤالًا وحيدًا: لماذا ظل ساكتا، لماذا لم يقل شيئا، لماذا لم يدافع عن نفسه؟ كان الحريري يتميّز بعدم قدرته على الأذى، وباستنكافه عن الرد على التُّهم الافتراءات. فيما عددٌ كبير من السياسيين اللبنانيين جعل السياسة ميدانا للأذى والمكائد والضغائن، وللرد عليها بمثلها، سوى رفيق الحريري. واكتشف الناس صفته هذه بعد اغتياله، أكثر من ما في حياته السياسية”. ويرى انه “منذ حلّت المرجعية السورية محل اتفاق الطائف والدستور في لبنان، كانت علاقة الحريري بحافظ الأسد تسهّل تسيير الأمور في إطار ذلك الواقع القائم في البلاد. وتضخّم دور المرجعية السورية مع وصول إميل لحود إلى سدّة رئاسة الجمهورية سنة 1998، فراحت تتضخّم حملات تشويه صورة رفيق الحريري وسمعته، فآثر الاعتصام بالصبر والصمت. وحرص على التعريج على دمشق بعد تحرّكاته وزياراته الخارجية التي كانت سبيله إلى إنشاء سياسة خارجية لبنانية”. علاقاته الإقليمية والعربية والدولية الشاسعة الأرجاء، كانت تغنيه عن الغرق في الحزازات والمناكفات الداخلية في لبنان. وكانت علاقاته تلك صنيعة مبادراته الشخصية وجهده الشخصي اللذين كان يجيّرهما لمصلحة لبنان الذي أحبه بصفاء سريرة وترفّع عن العصبيات. وهذه ميزة قلَّ نظيرها بين أهل السياسة اللبنانيين في الحروب الأهلية وبعدها، وربما من سبقهم من القُدامى. قوة علاقاته الدولية مصدرها أنه أدخل أسلوب رجل الأعمال الذي يتقنه إلى العلاقات السياسية والدبلوماسية. وكرجل أعمال كان يتميّز بالفاعلية والسرعة في التنفيذ وبالواقعية. ورجل الأعمال الذي كانه، تطوّر إلى رجل دولةٍ حقيقي في هروبه من مسرح الضغائن المحلي الصغير في لبنان، إلى مسرح العلاقات الدولية. لكنه حرص على إنشاء صلات مباشرة بالمجتمع اللبناني عبر عطاءاته ومساعداته الاجتماعية والتعليمية والصحية وإعادة البناء والإعمار بعد الحرب. وحين شارف رفيق الحريري على الظهور على حقيقته كرجل دولة لبنانية، جرى اغتياله ذاك الاغتيال الثأري الحقود والمروّع الذي اغتال أيضًا رجل العلاقات الدولية الذي وظّف تلك العلاقات في صمت وبطء وأناة لصالح لبنان. وكان قدرهُ أن يُقتل كي لا تكتمل صورته كرجل دولة مستقلة في بلد مستقل. وكان قدره هذا فاجعا للبنان واللبنانيين”. Getty Images \ رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي ورئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة أمام ضريح رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري في وسط بيروت خلال احياء لبنان الذكرى الـ 17 لاغتياله في 14 فبراير 2022. ويقول “رأى اللبنانيون في رفيق الحريري القادم ناجحا من عالم الأعمال إلى الحياة السياسية، أملا جديدا. وهو كان على صلات واسعة بالمهندسين والمحامين ومديري المصارف والمهنيين والعمال والمهاجرين. وحتى المسؤولين الأوروبيين كانوا يستفيدون من خبراته لمعرفة ما يدور في الشرق الأوسط. لقد كان يمتلك ثقافة شفهية حيّة وعملية، لا تقل أهمية عن ثقافة الخبراء والثقافة المكتوبة. وحصّل ثقافته من قدرته على الاستماع والإصغاء إلى كبار الساسة ورؤساء الدول، وحتى إلى صغار المخبرين في الصحف. وكان يشعر بأهميته كفرد، وكذلك بدوره الشخصي الفاعل، مدركا أن فئات واسعة من اللبنانيين تراهن على حضوره في لبنان وفي العلاقات الدولية. وهذا ما كان يزعج كثيرين من أهل مسرح الضغائن السياسية المحلية”. وبعد شهرين على رئاسته الحكومة سنة 1992، أدرك مساوئ الحياة السياسية اللبنانية وفسادها المستشري. لكنه لم يكن يملك خيارا آخر سوى التعامل مع أمراء الميليشيات الذين دخلوا الحكومة ومؤسسات الدولة بقوة تصعب مقاومتها. وفي ظل تغييب رجال السياسة المسيحيين، كان يتمنى وجود شخصية مسيحية كريمون إدّه ليحالفها ويتعاون معها، فعوّض عن ذلك بسعيه الدائم في التواصل مع البطريركية المارونية والفاتيكان. وكان المسيحيون الواعون والعارفون ببواطن الأمور يرون فيه رجلًا ليبراليًا وصديقًا للغرب والعرب، ويؤمن بالنظام الحر والمبادرة الفردية. أما الآخرون الذين يؤخذون بالشائعات والتحريض في بلد تُصنّعُ فيه المخابرات الرأي العام، فراحوا يتّهمونه بأسلمة لبنان. وياما كان الحريري يخرج إلى حديقة دارته ليتسنّى له إجراء مكالمة هاتفية. عبّر تكرار مشهد 14 مارس المتلاحق عن دراما الساحة – الحصن الذي خاف الناس من الخروج منه خوفهم من المجهول. فمكثوا في مشهد موقوف في ساحة موقوفة، بعدما كانت ساحة مفتوحة ومشرّعة في المرة الأولى فرنك مرمييه فرنك مرمييه: لماذا فشلت انتفاضة اللبنانيين على حصون السياسة وأصنامها؟ يرى ميرمييه أننا “شهدنا في بلاد كثيرة سوابق لتجمع اللبنانيين في ساحة الشهداء في بيروت بعد اغتيال رفيق الحريري في 14 فبراير 2005. منها مثلًا تجمُّع الأوكرانيين في العام 2004 في ساحات مدنهم وعاصمتهم كييف لتوكيد وطنيتهم الأوكرانية في وجه روسيا. وهذا ما فعله الصينيون مرة قبل ذلك في تجمّعهم في ساحات بكين. واللبنانيون في اجتماعهم في بيروت في 14 مارس 2005، اجتمعوا لتوليد لبنانيتهم وتوكيدها في وجه النظام السوري. وهم توافدوا إلى ساحة الشهداء في العاصمة اللبنانية، حاملين معهم اختلافاتهم، فاستظلوا علما واحدا هو العلم اللبناني، تعبيرا عن إرادة فرحة بالخروج من مناطقهم وهويّاتهم الخاصة. لكن ما جرى بعد اجتماعهم ذاك بيّن أنهم لم يستطيعوا ترجمة تلك الإرادة إلى إرادة سياسية عامة ومشتركة. وما حدث في ساحة الشهداء البيروتية التي كنت خالية خاوية، تجاوز التوظيف السياسي الذي حدث بعد 14 مارس 2005، ذاك النهار التاريخي الضخم والعميق الدلالات في لبنان. لكن النتائج السياسية لتلك الاندفاعة الشعبية العارمة، جاءت ضئيلة بعد الخروج السوري من لبنان، والذي رسم الحدود الناجحة للانتفاضة اللبنانية”. Getty Images \ إحدى جلسات المحكمة الدولية الخاصة بلبنان والتي تم خلالها إعلان الحكم على سليم جميل عيّاش عضو تنظيم “حزب الله”، المتهم في التخطيط لاغتيال الحريري في 11 ديسمبر 2020. فبعد ذاك النجاح عادت الجماعات اللبنانية إلى ترسيم حدودها الداخلية وانقساماتها وعداواتها، فلم تستطع تجاوزها إلى أفق جديد يكسر استقاطاباتها الأهلية وولاءها لزعمائها، لتوليد اجتماع سياسي جديد. وقد بدت تلك الاستقطابات سريعًا في الانتخابات النيابية التي جرت بعد مدة قصيرة من اغتيال الحريري. وعنى ذلك أن التعدُّدية اللبنانية لم تجد ترجمتها السياسية، التمثيلية والدستورية، على نحو جديد. واللافت أن الطبقة الوسطى اللبنانية المستقلّة، كان حضورها قويا وواسعا في الاحتجاجات بين 14 فبراير و14 مارس 2005. والأرجح أنها كانت تقول إن ليس لديها من يمثّلها أو حزبها أو زعامتها التي تحمل مطالبها وتطلعاتها. وسرعان ما وجدت الطبقة الوسطى تلك أنها ضحية استقطابات الأحزاب وزعاماتها الطائفية. وذلك للمرة الثانية، بعدما كانت الضحية الصامتة طوال سنوات الحروب الأهلية (1975- 1990). والأرجح أن الطبقة الوسطى اللبنانية حضرت بتلك القوة والكثافة احتجاجًا على تغييبها وتحطيمها طوال أكثر من ثلاثة عقود متلاحقة. وفي ذكرى 14 فبراير التالية، احتشد اللبنانيون في مشهد متكرر، رغم بعض الاختلافات. لكن احتشادهم أشار إلى أنهم لا يزالون عالقين في المكان نفسه. أي في نوع من شلل سياسي يتعذّر الخروج منه إلى فعل جديد. كأنهم كانوا مكبلي الإرادة السياسية، فكرروا المشهد نفسه وتحصّنوا فيه، راسمين بذلك حدودا في وجه من لم يأتوا أصلا إلى الساحة، أي جمهور “حزب الله” الذي كان احتشد في ساحة رياض الصلح في 8 مارس 2005، تأييدًا للنظام السوري. والحدود نفسها طالت من خرجوا لاحقا من الساحة، أي جمهور التيار العوني. أفلا يمكن اعتبار أن ساحة الشهداء كانت في تلك الحال حصنًا أو قلعة لجمهور التحالف الذي صار يُعرف ب”قوى 14 آذار”؟ وهذا ما عبّر عنه زعيم القوات اللبنانية سمير جعجع في 14 فبراير 2006، حين قال في الجموع المتحصّنة في الساحة: “البحر من أمامكم والعدو من ورائكم”. ويقول ميرمييه “لقد عبّر تكرار مشهد 14مارس المتلاحق عن دراما الساحة – الحصن الذي خاف الناس من الخروج منه خوفهم من المجهول. فمكثوا في مشهد موقوف في ساحة موقوفة، بعدما كانت ساحة مفتوحة ومشرّعة في المرة الأولى. إنه شكل من أشكال التصنيم المكاني للسياسة. وإذا كان جامع محمد الأمين في ساحة الشهداء – الذي سبق أن أثار نعرات طائفية قبل اغتيال الحريري – قد تحول إلى جامع للوئام الطائفي بعد دفن الحريري في جانب من جنبات باحته وطوال الشهر الذي تلا اغتياله، فإن حسن نصر الله وميشال عون حوّلا كنيسة مار مخايل على خط التماس الحربي القديم في ضاحية بيروت الجنوبية، إلى مكان لـ”تفاهمهما” ضد جمهور” 14 آذار” الذي خرج منه الجمهور العوني، أي من ساحة الشهداء. وقد رسمت تلك الترسيمة المكانية والرمزية والسياسية للجماعات اللبنانية صورة لما حدث لاحقًا في لبنان. ويقول “ينسحب التصنيم المكاني للسياسة في كلام اللبنانيين وصحافتهم على تسميتهم الأماكن التي ينزل فيها زعماؤهم بأسماء هؤلاء الزعماء أنفسهم. وذلك حين يقولون: قريطم وسيد قريطم (أي رفيق الحريري). وعين التينة ورئيس عين التينة (أي نبيه بري). والرابية وجنرال الرابية (أي ميشال عون). والأرز وحكيم الأرز (كناية عن بشري وسمير جعجع). وحارة حريك وسيد حارة حريك (أي حسن نصر الله). وقصر المختارة وزعيم المختارة (أي قصر آل جنبلاط ووليد جنبلاط). ومنطق التصنيم المكاني للسياسة والزعامة، يوازيه صدور الزعامة السياسية عن الدم والنّسب والإرث والتوريث. ويوازيه كذلك استدخال القتل والاغتيال والموت والإلغاء والخوف والحرب في العمل السياسي. وهذا ما تعرّض له رفيق الحريري الذي كان اغتياله فاتحة اغتيالات سياسية لاحقة تعرضت لها شخصيات من قوى 14 آذار. وهذا ما انتفضت ضده فئات واسعة وكبيرة من اللبنانيين بعد اغتيال الحريري، حين خرجوا من مناطقهم رافضين القتل والاغتيال ومنطق التصنيم المكاني – الزعامي للسياسة والحياة السياسية. لكن منطق الحصون والقلاع ومؤسسات الزعامة الصنمية، عاد وتكرّس على نحوٍ أقوى من ذي قبل في السنوات اللاحقة. وقد يكون ذلك في صميم مأساة لبنان اليوم. المزيد عن : رفيق الحريري\ وليد جنبلاط\ النظام السوري 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post وعي قبل الموت.. دراسة تكشف تفاصيل “اللحظات الأخيرة” next post الآن بات بإمكان الذكاء الاصطناعي التكلم نيابة عنا You may also like جمال مصطفى: مشوا تباعاً إلى حبل المشنقة ولم... 24 نوفمبر، 2024 أحوال وتحولات جنوب لبنان ما بعد الهدنة مع... 24 نوفمبر، 2024 غسان شربل يكتب عن: صهر صدام حسين وسكرتيره... 24 نوفمبر، 2024 كارين هاوس: مساعدو صدام حسين خافوا من أن... 23 نوفمبر، 2024 حافظ الأسد كان قلقا من أن تلقى سوريا... 21 نوفمبر، 2024 غسان شربل يكتب عن: بن لادن استقبل مبعوث... 21 نوفمبر، 2024 من مول استهداف ملحق سفارة أميركا لدى بيروت... 17 نوفمبر، 2024 مرافق سفير بريطانيا لدى لبنان أنقذ الأميركيين من... 15 نوفمبر، 2024 بغداد: قصة مدينة عربية بُنيت لتكون عاصمة إمبراطورية... 15 نوفمبر، 2024 “إسرائيل الكبرى”… حلم صيف يميني أم مشروع حقيقي؟ 12 نوفمبر، 2024