ثقافة و فنونعربي “تل أبيب – بيروت” يسترجع مأساة لبنانيين مهجرين إلى إسرائيل by admin 3 أبريل، 2023 written by admin 3 أبريل، 2023 18 تانيا اللبنانية وميريام اليهودية أمام كاميرا الإسرائيلية المغربية ميشيل بوغنايم وموضوعيتها اندبندنت عربية \ هوفيك حبشيان بعد مرور أكثر من عقدين على انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان وتحرير ما يسمى “الشريط الحدودي”، لم تتجرأ السينما اللبنانية على فتح ملف اللبنانيين الذين تعاملوا مع إسرائيل، وهم من سكان تلك القرى المحررة، المتعددة الطوائف، الذين وصموا بالعمالة. أسباب الامتناع عن تناول هذه القضية عديدة، فالحديث عن موضوع شائك ومعقد وحساس كهذا يتطلب كثيراً من الوعي والجرأة والشجاعة والتخلص من المزايدات السياسية. ويبدو أن السينمائيين اللبنانيين ليسوا مستعدين للسير في حقل ألغام مثل هذا، خصوصاً أن المناخ السياسي العام في البلاد لا يسمح بذلك، بل وقد يشكل تهديداً لحياة من يتجرأ على تناول مسألة وطنية مهمة، محاولاً فهم ما حدث من دون إدانة. لنتذكر قليلاً المعاناة التي عاشها المخرج زياد دويري بعد تصويره فيلمه “الصدمة” داخل إسرائيل والحملة التي شنت ضده إثر ذلك. ما امتنعت عنه السينما اللبنانية، بادرت إليه المخرجة الإسرائيلية التقدمية (من يهود المغرب) ميشيل بوغانيم في فيلمها الروائي “تل أبيب – بيروت” الذي عرض أخيراً في الصالات الفرنسية والأوروبية بعد جولة في عدد من المهرجانات. بوغانيم التي سبق أن أنجزت عدداً من الأفلام الوثائقية، تعرف جيداً الأرض التي غامرت فيها، فهي إضافة إلى كونها ابنة جندي شارك في “حرب أكتوبر”، عاشت أيضاً الصراعات والبحث عن الهوية والنزاعات والهجرة منذ الطفولة. وعندما أنجزت عملها الجريء هذا، تأليفاً وإخراجاً، تسلحت بمعرفة عميقة بالقضية التي عالجتها، وحاولت إنصاف اللبنانيين الذين وقعوا ضحايا الظروف، ووجدوا أنفسهم بين سندان إسرائيل ومطرقة حزب الله. سينما جادة جنوب لبنان تحت الإحتلال الإسرائيلي (ملف الفيلم) من السهل إطلاق أحكام مبرمة على هؤلاء ووصفهم بالعملاء أو الخونة لبلادهم، لكن السينما الجادة لا تستفيد شيئاً من هذا النمط، لأنها فن أن يحفر المخرج عميقاً في الأحداث للخروج في حقائق قد لا تظهر على سطح الأشياء. وعلى رغم أنها تحمل الجنسية الإسرائيلية فلم تنتصر بوغانيم لبلاد تتحدر منها، إنما حاولت أن تقدم رؤية موضوعية جداً لفصل من فصول التاريخ، منتقدة النحو الذي عاملت فيه إسرائيل هؤلاء اللبنانيين الذين أكلتهم لحماً ورمتهم عظاماً، كاشفة عن المصير الذي حظوا به عندما أرغموا على الفرار إلى إسرائيل عند انسحاب جيشها من الجنوب اللبناني، خوفاً على أنفسهم من العواقب والثأر. في مقاربة بوغانيم كثير من السعي إلى فهم القضية بكل وجوهها الاجتماعية والعاطفية وأبعادها السياسية والأيديولوجية. ثمة تسجيل موقف وشجاعة وتعالٍ على الوطنية انتصاراً للمصائر الفردية، وهذا يحسب لها كسينمائية حرة بعيدة من التعصب الديني والانغلاق الهوياتي. خلافاً لكثر لا ينبشون في الواقع ما يكفي، لكتابة سيناريو متماسك، فإن بوغانيم استمعت إلى شهادات عديد من اللبنانيين الذين غادروا لبنان إلى إسرائيل عقب تحرير الجنوب، قبل الشروع في التأليف، ولهذا اتكأ فيلمها على أرض متينة. يتمحور “تل أبيب – بيروت” على ثلاثة تواريخ دالة هي 1984 (الحرب والاحتلال) و2000 (الانسحاب) و2006 (حرب تموز)، متنقلاً بين إسرائيل وجنوب لبنان طوال عقدين من الزمن. فالحكاية تبدأ في منتصف الثمانينيات وتنتهي مع حرب 2006 التي استغرقت 33 يوماً، وكانت آخر الحروب بين البلدين. نتعرف من الجانب اللبناني إلى عائلة تتألف من فؤاد وزوجته وأولادهما. يتعامل فؤاد (يونس بواب) مع الجيش الإسرائيلي من خلال الضابط يوسي (شلومي القبص) المقرب منه جداً والذي لا يتوانى عن استقباله في بيته، هذا الضابط نتابع حياته أيضاً من الجانب الإسرائيلي مع عائلته. من خلال سرد متقطع، يتنقل بنا الفيلم من جبهة إلى أخرى، لنكتشف وقع الحروب المتكررة التي تعصف بشخصيات هشة والأقدار المتشابكة التي تجعل الأعداء يلتقي بعضهم بعضاً. النزاع الإنساني يصر الفيلم على تكرار المواقف والحالات التي تزج بشخصيات لا حول لها ولا قوة، في دوامة عنف لا فكاك منها. لا يقارب السيناريو الأحداث مقاربة سياسية ولا يتحول درساً في التاريخ والنضال، ولا يناقش تفاصيل النزاع المسلح، بل يرينا تأثير هذا كله في الإنسان، جيلاً بعد جيل. فالجميع خاسر، سواء في لبنان أو في إسرائيل، لكن الفيلم يعطي مساحة أكبر للجيل الذي ولد خلال الحرب والاحتلال، وعاش فصولهما ولم يعرف سوى العنف. وهذه حال تانيا (زلفا سورا) ابنة العميل فؤاد التي ترحل مع والدها إلى إسرائيل عند التحرير، تاركة خلفها حياتها الماضية ومن تحب، لتعيش معاناة من نوع آخر هذه المرة: العنصرية الإسرائيلية. تهرب تانيا من جحيم لتجد نفسها في جحيم آخر. عندما تلتقي تانيا اللبنانية ميريام الإسرائيلية (سارا أدلر – زوجة الضابط يوسي)، تمنحاننا الإحساس بأن الأحداث بأكملها من وجهة نظرهما. ويبلغ الفيلم مستويات أخرى من الجمال، سواء على صعيد المشهديات، إذ إنها تأخذ من الديكورات الطبيعية مسرحاً لها، أو على صعيد الخطاب الذي يسعى دائماً إلى إيجاد وحدة حال بين امرأتين عانتا طويلاً من الآثار النفسية للحروب، وسمحت الظروف إلى أن تستريحا للحظة للنظر في حقيقة الأشياء وربما للتصالح مع أقدارهما. الفيلم يستجوب كذلك مسألة الحدود في منطقة رسم الاستعمار الغربي خطوطاً فاصلة. وما عنوان الفيلم “تل أبيب – بيروت” (مدينتان لا نراهما في الفيلم) سوى سفر متخيل بين بقعتين جغرافيتين لا يمكن التنقل بينهما، خلافاً لحقبة ماضية، حين كانت سكة قطار تربط الأولى بالثانية. منذ ذلك الحين، أصبحت الحدود مرادفة للموت والخراب. اللبنانيون الموجودون خلف حدود إسرائيل والمتهمون بالعمالة لا يستطيعون عبور الحدود في اتجاه الوطن إلا بعد وفاتهم ووضعهم داخل نعش، في حين أن جندياً إسرائيلياً مخطوفاً في لبنان يعود إلى بلده جثة هامدة، ما تود بوغانيم قوله هنا هو أن المعابر في هذه المنطقة تفتح أبوابها للأموات وتغلقها في وجه الأحياء. هذا واحد من أنقى الأفلام التي تحاول الحديث عن أفراد داخل الصراعات، ولملمتهم من تحت أنقاض الحروب. لا يوجد أدنى استغلال لقضية أو تدليس سياسي أو بروباغندا أو تبرير. تتجه بوغانيم إلى نقطة بعيدة في مشروعها القائم على إعادة الاعتبار إلى من خانتهم إسرائيل، فتعطيهم حضوراً على الشاشة باعتبارهم ضحايا صراع لا يزال مستمراً حتى اليوم. لا تبرئ أفعالهم ولا تدين خياراتهم بقدر ما تنكأ الجراح، هذا الفيلم أنجزته بوغانيم بضميرها قبل أن تنجزه بعقلها، وهو أولاً وأخيراً إدانة للكيفية التي استخدمت فيها إسرائيل اللبنانيين، قبل أن تزجهم في مجاهل النسيان. من خلال هذه الحكاية، تواصل بوغانيم مشروعها السينمائي في إظهار عواقب الانقلاع من الأرض ومعاناة النفي، كما أنه يكشف عن تداعيات التاريخ والأحداث الكبيرة على مصائر الأفراد وكيف تسحقهم وصولاً إلى القضاء عليهم. المزيد عن: سينما إسرائيلية\فيلم\لبنانيون مهجرون\الحرب\إسرائيل\الصداقة\الهوية\النزوح 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “ميدجورني” لتصميم الصور بالذكاء الاصطناعي يوقف التجارب المجانية next post رحيل التشكيلي المغربي محمد بناني فيلسوف اللون You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024