ثقافة و فنونعربي يوم منح فاسبندر الشاشة الصغيرة سحرا أوسع من طموحاتها by admin 21 نوفمبر، 2022 written by admin 21 نوفمبر، 2022 11 انتحار المبدع الكبير حرم عشاق أدب توماس مان من مشاهدة تحفته “آل بودنبروك” متلفزة اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب قبل 40 عاماً من الآن انتحر المخرج الألماني رانر فرنر فاسبندر وهو في عز شبابه وتألق مساره المهني، لكن انتحاره لم يتسبب في خسران الشاشة الألمانية سينمائياً كبيراً، والحياة الثقافية الألمانية مشاكساً من طراز رفيع، بل إنه تسبب بموته في حرمان التلفزة في بلده والعالم من التفاتة نحو الشاشة الصغيرة ندر أن تمتعت بما يماثلها، وهو الذي حقق حلماً فنياً كبيراً يتمثل في الربط بين الشاشتين والأدب الكبير، أي الأدب الذي كان قد اعتاد أن يبدو عصياً على الأفلمة، حين حول واحدة من أكبر الروايات الألمانية الصادرة في القرن الـ20 “برلين ألكسندر بلاتز” إلى 14 حلقة تلفزيونية من أهم ما فعلته أنها برهنت على أن في إمكان الشاشة الصغيرة أن تقدم أعمالاً كبيرة عدا عن كونها أداة لإعادة عرض كلاسيكيات السينما العالمية. فحين عرض فاسبندر عمله الكبير بدت الدراما التلفزيونية فجأة أقرب ما تكون إلى السينما، بل بدت السينما والتلفزيون أقرب ما يكونان في تاريخيهما إلى بعضهما بعضاً عبر 15 ساعة تلفزيونية مدهشة. وبعد ذلك بأكثر من ربع قرن، وربما فجأة ومن دون مقدمات، عادت هذه الحال من جديد لمناسبة مرور ربع قرن على انتحار ذلك المخرج الذي كان يعتبر “أسرع مخرج في تاريخ السينما الألمانية” (نحو 33 فيلماً في أقل من 30 سنة إلى جانب إنتاجات مسرحية وأدبية)، بعد أن تقدم مسلسل فاسبندر إلى الواجهة. ولعل الفضل في ذلك كان للمنطق التجاري. ومن المنطقي أن تكون استعادة ذكرى صاحب العمل هي ما أملى عودته. ولعل الأسباب غير هذا وذاك، لكن المهم أن مسلسل “برلين ألكسندر بلاتز” عاد على شكل أسطوانات مدمجة، كما عرض في الصالات ليستعيد ذكرى هذا العمل الذي حققه للتلفزة مخرج ما كان أحد ليتصور أن من شأنه أن يخوض مثل هذه التجربة. ولنتذكر هنا أن فاسبندر قد رحل عن عالمنا منتحراً في وقت كان فيه كثر يتوقعون منه، بعد النجاح الهائل الذي حققه عرض “برلين ألكسندر بلاتز” على شاشات تلفزيون بافاريا، أن يكرر التجربة مع عمل تلفزيوني آخر مأخوذ عن رواية أدبية، إذ كان الهمس قد جرى بأن فاسبندر سيحقق 14 حلقة جديدة عن رواية “آل بودنبروك” لمواطنه الكبير توماس مان. ونعرف أن هذا المشروع الأخير لم يتحقق. وأن اهتمام فاسبندر بالعمل للتلفزيون قد توقف مع تلك الساعات الـ15 التي يتشكل منها “برلين ألكسندر بلاتز”. دهشة غريبة مهما يكن فإن الذين أدهشهم انكباب فاسبندر على تحقيق ذلك العمل للتلفزة لم يكونوا محقين في دهشتهم. كانوا، لفرط احتفالهم بسينمائية فاسبندر، ولفرط حديثهم عن وتيرته السريعة في إخراج أفلامه (كان يخرج أحياناً خمسة أفلام في السنة الواحدة)، نسوا أنه سبق أن حقق أعمالاً أخرى للتلفزيون مباشرة، أو أعمالاً للسينما من إنتاج محطات تلفزيونية. غير أن “المشكلة” مع فاسبندر كمنت في أن الأمور كانت دائماً مختلطة لديه، إذ كان في جملة أحاديثه الاستفزازية يعلن دائماً عن حب للسينما يستبعد فرضياً أي اهتمام بالتلفزة لديه، لكننا اليوم مع نظرة تراجعية ترصد مسار فاسبندر من خلال عمله الرائع “برلين ألكسندر بلاتز” سنتنبه إلى أن بعض أعمال فاسبندر الأساسية والكبرى إنما حققت أصلاً للتلفزة. يصدق هذا على “الرحلة إلى نيكلاسهاوزن”، وعلى “رواد في أنغلشتادت”، وهما العملان اللذان تحققا في 1970، كما على خماسية “8 ساعات لا تصنع نهاراً” الذي تحقق عام 1972. وعلى “نورا هلمر” الذي صوره عام 1973 بالفيديو مباشرة، فكان تجربة رائدة. بدلاً من الاختصار في إمكاننا طبعاً أن نواصل هذه السلسلة لنقسم عمل فاسبندر ككل إلى ثلاثة أنواع: أفلام للسينما، وأفلام للتلفزة، وأعمال صنعت للوسيلتين معاً، أو كان يمكن عرضها في الوسيلتين، لكن المهم هنا أن نتوقف عند العمل الأكبر والأهم “برلين ألكسندر بلاتز”. فهذا العمل مأخوذ عن واحدة من أشهر الروايات الألمانية بالسم نفسه لألفريد دوبلن. الرواية تقع أصلاً في قرابة ألف صفحة. وفي البداية أحب فاسبندر أن يختصر الأحداث لتملأ فيلماً سينمائياً واحداً في ساعتين، لكنه بعد تفكير طويل وبعد تردد، وإذ كان في وعيه الباطني يريد أن يتحدى التلفزة بخوض تجربة ما كانت مؤهلة أصلاً لاستقبالها بسبب كآبة الموضوع وحضور تيار الوعي غير القابل للأفلمة فيه ضمن إطار استفزازيته الدائمة، أجرى من الاتصالات ما مكنه من الحصول على عقد سخي من تلفزة بافاريا أتاح له أن يصور 13 حلقة بسرعة قياسية، مضيفاً إليها حلقة عنوانها “ملحق: بصدد حلم فرانز بيبركوبف”. أحوال حثالة برلين وبيبركوبف المذكور هنا هو بطل الرواية -ثم المسلسل- الذي تتحدث الرواية عن مرحلة ما بعد خروجه من سجن كان أودع فيه لأربع سنوات عقاباً على قتله زوجته. وهو إذ يخرج يفاجئه صخب العالم الخارجي وتنكر الجميع له. إنه الآن يريد أن يعيش على رغم كل شيء، ويريد أن يبقى نزيهاً من دون أن يقدم أي تنازلات، لكنه على رغم قيامه بكثير من المهن الصغرى ومن محاولاته الدؤوبة، بتشجيع من صديقة بولندية يتعرف إليها في إحدى الحانات ويرتبط بها، يجد نفسه تحت وطأة ضغط المجتمع والظروف وقسوة البشر، مساقاً إلى درب الجريمة من جديد، كما يجد نفسه دمية في يد الآخرين هذا هو، باختصار، منطلق موضوع هذه الرواية وهذا المسلسل. وللوهلة الأولى قد يستغرب القارئ أن يكون موضوع كهذا قد تمكن من أن يملأ 14 حلقة تلفزيونية. وقد يتوقع أن يكون العمل، وقد حول إلى هذا المسلسل بطيئاً مملاً صعباً، ولكن أبداً على الإطلاق. بين يدي فاسبندر اتخذ العمل سماته الحية والحيوية ليصبح، لمن يعرف كيف يشاهده، واحداً من أجمل وأقوى الأعمال التلفزيونية التي قدمها مخرج سينمائي أوروبي، تعامل مع التلفزة بجدية تعامله مع السينما، وأدرك باكراً أن الوسيلتين لا بد أن تلتقيا يوماً، بشرط أن يكون الإبداع رائد ذلك اللقاء. بين الحربين لعل ما يمكن قوله اليوم وقد رحل فاسبندر من دون أن يثني على تحفته التلفزيونية الكبرى، أن القراء الجديين لرواية توماس مان “آل بودنبروك” الأكثر وعياً واهتماماً بتحويل الأعمال الروائية الكبرى إلى أفلام تلفزيونية أو سينمائية ليس لهم بعد أن حرموا من عمل لفاسبندر كان في مقدوره أن يسير على خطى مسلسله المأخوذ عن دوبلن، إلا أن يكتفوا بتخيل ما كان يمكن أن يسفر عنه ذلك العمل الذي لم يتحقق، بالنسبة إلى علاقة الأدب الروائي بالتلفزة، كما بالنسبة إلى “أفلمة” مرحلة أساسية من مراحل التاريخ الألماني الحديث -وكانت تلك هي على أي حال الغاية الأساسية التي توخاها فاسبندر من خلال اقتباسه “برلين ألكسندر بلاتز”، حيث قدم صورة مدهشة لبرلين والحياة العامة الألمانية خلال فترة ما بين الحربين العالميتين- علماً أن “آل بودنبروك” تقدم صورة رفيعة المستوى لطبقات أخرى من طبقات المجتمع الألماني خلال الفترة السابقة على ذلك ما يجعل الروايتين في نهاية الأمر متكاملتين، وربما بشكل يذكر بالصورتين المتقابلتين اللتين رسمهما لنيويورك القرن الـ18، المخرج مارتن سكورسيزي في فيلميه اللذين اقبس أحدهما عن إديث وارتون “زمن البراءة”، فيما رسم في الثاني ولادة أميركا في أحياء الحثالة النيويوركية “عصابات نيويورك”. ونعرف طبعاً أن التلفزة وحدها وبين يدي مبدع من وزن فاسبندر كان من شأنها أن تؤفلم “آل بودنبروك” على شكل حلقات تلفزيونية. في ركاب الكبار أخيراً، مهما يكن من أمر فإننا عن تلك الخسارة التي تسبب فيها انتحار فاسبندر على رغم النجاح الهائل الذي حققه اقتباسه التلفزيوني لـ”برلين ألكسندر بلاتز” نتحدث في ما نفكر بدورنا بالمكسب الهائل الذي كان من شأن العمل غير المتحقق والمتمثل في اقتباس “آل بودنبروك” أن يمثله لو أنه خرج للنور، وتحديداً على يد مبدع سينمائي كبير غزا بلغته السينمائية البديعة عالم البلادة التلفزيونية سائراً في ذلك على خطى سينمائيين كبار، من طينة غودار وروسيلليني، ومن بعدهما لارس فون ترير، ناهيك بسبيلبرغ، الذين لم يجدوا غضاضة ذات زمن في خرق المحظورات ليعطوا العمل التلفزيوني قيمة كبرى لم يكن أهله ليحلموا بها. المزيد عن: راينر فاسبيندر\آل بودنبروك\برلين ألكسندر بلاتز\السينما الألمانية\توماس مان\عصابات نيويورك\تراث الإنسان 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post هل يعتمد المغرب “الدفن الأفقي” لحل أزمة المقابر؟ next post شغف المعنى والخلود يقود فنانا سعوديا إلى “البصمة” You may also like استعادة كتاب “أطياف ماركس” بعد 20 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 تحديات المخرج فرنسوا تروفو بعد 40 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 21 قصيدة تعمد نيرودا نسيانها فشغلت الناس بعد... 28 نوفمبر، 2024 الرواية التاريخية النسوية كما تمثلت لدى ثلاث كاتبات... 28 نوفمبر، 2024 بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: ماجان القديمة …أسرارٌ ورجلٌ... 27 نوفمبر، 2024 «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد 27 نوفمبر، 2024 محمد خيي ممثل مغربي يواصل تألقه عربيا 27 نوفمبر، 2024 3 جرائم سياسية حملت اسم “إعدامات” في التاريخ... 27 نوفمبر، 2024