ثقافة و فنونعربي فيلليني ينهل من الأدب الروماني ليدين الأخلاق المعاصرة سينمائيا by admin 29 أكتوبر، 2022 written by admin 29 أكتوبر، 2022 20 عندما اكتشف المايسترو “ساتيريكون” بيتروني وتحول إلى مصلح أخلاقي ساخر اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب في تلك السنوات التي أتت لتتوسط مسار المخرج السينمائي الإيطالي الكبير فيديريكو فيلليني الملقب بـ”المايسترو”، أي خلال الأزمان التالية لانتفاضات شبيبة العالم خلال النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين، انشغل بال هذا المبدع الكبير بما لاحظه من تدهور أخلاقي استشرى تحت ذريعة استعادة الفرد حريته في وجه مجتمع صارم يكبله. ومهما يكن من أمر فإن فيلليني لم يكن من عادته أن يقدم النصائح الأخلاقية ولا حتى مواربة في أفلامه أو في تصريحاته، لكنه هذه المرة وجد نفسه، كما لو بفعل الصدفة راغباً في التصدي بشكل أو بآخر لموجات الخلاعة والفوضى العارمة فكان أن خدمته الصدفة. فهو عثر من دون إعداد مسبق منه على النص الذي وجده مناسباً له. وكان ذلك النص عبارة عن حكايات مترابطة بشكل فوضوي كتبها مؤلف ساخر من عصر النهضة الإيطالية المبكر بعنوان “ساتيريكون”. قراءة على ضوء الحاضر وهكذا تبدأ حكاية فيلم “فيلليني ساتيريكون” وحسب ما يروي مخرج الفيلم نفسه، قبل عام 1969 حين حدث أن وقعت بين يديه نسخة قديمة من كتاب “ساتيريكون” الذي يعتبر عادة، من أطرف نصوص الأدب اللاتيني وينسب إلى الكاتب بتروني. يومها، وعلى رغم أن فيلليني كان، كمعظم المتعلمين الإيطاليين، قد قرأ الرواية مرات عديدة من قبل فإنه وكما يقول “فتنت بشدة لدى تلك القراءة الجديدة، بتفاصيل لم أكن قد تمكنت من ملاحظتها من قبل: فتنت تحديداً بالأجزاء المفقودة، التي سقطت من النص مع مرور الزمن، مما خلق على مدى العصور نوعاً من غموض بات طاغياً ومتفاقماً بين حلقة وأخرى. لقد فتنتني هذه المرة حقاً قصة الشظايا”، حيث إن النص الذي راح فيلليني يقرأه كما لم يفعل في السابق بهذه الدرجة من العناية “جعلني أفكر في الأعمدة، والرؤوس، في العيون المفقودة، كما في الأنوف المكسورة. فكرت في كل سينوغرافيا النعي في ما تبقى لنا من الآبيا أنتيكا (ما تبقى من التراث المغرق في القدم)، وفكرت حتى في المتاحف الأثرية بشكل عام: شظايا متناثرة، أشلاء تظهر مرة أخرى في ما كان يمكنه أيضاً أن يكون حلماً، تم تحريكه ونسيانه إلى حد كبير”، وتنبه فيلليني هنا إلى أن الأمر لا علاقة له هذه المرة باستعادة حقبة تاريخية، يمكن إعادة بنائها من خلال الوثائق، التي يتم إثباتها بشكل إيجابي، “بل له علاقة بمجرة عظيمة شبيهة بالحلم، غارقة في الظلام، وسط بريق القطع العائمة التي نزلت إلينا. وربما أعتقد اليوم أن ما أغراني في تلك اللحظة هو تفكيري بإمكانية إعادة بناء هذا الحلم، وشفافيته الغامضة، بل حتى وضوحه الذي لا يمكن فهمه. وقلت لنفسي إن العالم القديم لم يكن موجوداً، كل ما في الأمر أننا حلمنا به”. صراع حول مشروع يومها كان بين هذا “الاكتشاف” الذي حققه المايسترو وتحويل “ساتيريكون” إلى مشروع فيلم سينمائي، خطوة خطاها فيلليني من دون تردد وبات واثقاً من أنه سيحقق الفيلم بالعنوان الأصلي للكتاب “ساتيريكون”، لكنه سرعان ما اكتشف أن مخرج أفلام جماهيرية إيطالية هو بوليدورو، كان قد سبقه إلى تحقيق فيلم عن الكتاب نفسه، لكنه لم يكن أكثر من “فيلم إباحي لجمهور الدرجة الثالثة”. ومع ذلك استخدم بوليدورو حقه القانوني في كونه سبق فيلليني إلى أفلمة الكتاب وأقام دعوى على المايسترو أجبرت هذا الأخير على تبديل العنوان ليصبح “فيلليني ساتيريكون”، فيما اشترت الشركة الأميركية الفرنسية المنتجة لفيلم فيلليني حقوق توزيع الفيلم الآخر وأودعته مخازنها، مما عبد طريق صاحب “الحياة اللذيذة” و”لاستردا” و”ثمانية ونصف” ليحقق ذلك “الحلم الجديد” الذي لم يكن في حسبانه بل لم يتوقع له النجاح منذ أول يوم اشتغل فيه على السيناريو، فإذا به يجتذب في عروضه الأولى في إيطاليا وحدها قرابة مليوني متفرج ويصبح من أنجح أفلام فيلليني في مساره المهني، حتى عام 1969 الذي ظهر فيه الفيلم. “المايسترو” فيديريكو فيلليني خلال التصوير (ويكيبيديا) أنوف وأطراف مقطوعة ولكن عمَّ يحكي ساتيريكون، وكيف تمكن فيلليني ككاتب للفيلم ومخرج له من الاستحواذ على موضوع روماني قديم ليجعله جزءاً كبيراً من مشروعه الفني المتواصل؟ سنعود إلى هذا بعد أن نذكر باختصار بما يحكيه الكتاب نفسه، علماً بأننا لسنا هنا أمام حكاية متكاملة ومتواصلة، بل أمام فقرات عديدة وحكايات متفرقة، لا شك أن فيلليني عرف كيف يعثر لها على ذلك البعد السينمائي المتكامل والذي جهد فيه، بشكل رائع على أية حال، كي يضفي عليه وحدة تمكنه من “العثور” على تلك التفاصيل وضروب النقص من رؤوس وأنوف وأطراف، جاعلاً منها ليس فقط المحور الرئيس لإضافاته، بل كذلك صلة الوصل الحتمية بين الماضي الروماني والحاضر الإيطالي كما سوف نرى. مهما يكن فنحن الآن في روما القديمة، حيث يتنافس الطالبان إنكولبوس وأسكلتوس اللذان يعيشان معاً في منطقة سوبور الواقعة تحت الأرض حيث يرتزقان من شتى أنواع الموبقات بما فيها ممارسة السرقة والنهب، وكل ذلك في سبيل نيل رضا عبدهما الشاب الوسيم جيتون. ويشكل الثلاثة على أية حال، صحبة مفككة فلا يلتئم شملهم إلا في السهرات الإباحية، وهم الذين يعيشون مغامرات وقصصاً مختلفة وفقاً لأسلوب احتيال ونذالة كل منهم. ملصق “فيلليني ساتيريكون” (موقع الفيلم) بين الأزقة والجزر ولئن كانت الرواية تترك جيتون على حاله على اعتبار أنه بعد كل شيء ليس أكثر من محور المنافسة بين الرفيقين، تتبع هذين في ارتيادهما حفلات المجون ولا سيما لدى التاجر السوري الثري، تريمالسيون وفي حضور ليتشاس الذي لا يخرج من السجن إلا ليعود إليه وغالباً بتهمة تدبير المؤامرات والمشاركة في الحراكات السياسية حتى اللحظة التي يدبر فيها اغتياله، وفي الترابط مع تلك السهرة التي تشغل مكانة مركزية في حكايات “ساتيريكون” كما ستشغل مكانة مركزية في الفيلم على رغم أنها مجرد فصل من فصول تلك الحكايات البيكارية التي بالكاد تبدو حلقاتها مترابطة إلا من خلال البطلين الرئيسين. ولاحقاً بعد اغتيال ليتشاس وسقوط القيصر، نعود إلى إنكولبوس وأسكلتوس وقد أفرج عنهما بعد تهم سياسية وجهت إليهما وها هما الآن يقضيان لحظة راحة في منزل مهجور يملكه ثري من معارفهما قبل أن يختطفا، بصحبة أحد اللصوص، شخصاً سيتبين لهم أنه مثلي يعتقد أنه يتمتع بسلطات معينة. ومن ثم تتوالى سلسلة مغامرات متفرقة تقود بطلينا إلى أزقة عتمة وجزر غامضة لا نجد مبرراً لوجودهما فيها ولكن للوهلة الأولى فقط. ففي النهاية يمكن للقارئ أن يربط كل تلك التنقلات والتبدلات والأمور الغامضة التي تحدث وفق نوع من “منطق فوضوي” هو في الحقيقة ما جذب فيلليني إلى تحقيق هذا العمل الذي سيكون استثنائياً في مسيرته الفنية، بل الفكرية أيضاً، ولا سيما إذ وفر له فرصة اتضحت تدريجاً، للتوقف عند آفات عصرنا الراهن، مؤمناً بهذا الربط المنطقي بين زمنين تاليين اجتماعياً لأحداث مفصلية، بل مركزاً من خلال الحوارات بخاصة على الزمن الراهن وما راح يسوده من زوال للقيم وانهيار للمبادئ ودائماً باسم الحرية والفردية، علماً بأن فيلليني كان دائماً وسيبقى، من قبل “ساتيريكون” ومن بعده مدافعاً عن الحرية والفردية ولكن بعيداً من فوضوية وانحلال جعل من فيلمه هذا وسيلته لمحاربتهما. إعادة اعتبار غير متوقعة وهكذا، في هذا الفيلم المفصلي تمكن فيلليني، الذي لم يكن قد سبق له أن استعان بالأدب القديم أو الجديد خلفية لأفلامه، تمكن من أن يعيد الحياة وشيئاً من البعد الأخلاقي إلى نص كلاسيكي، كان دائماً ما يعتبر ملعوناً تمجه الأذواق السليمة وتحاربه الرقابات اجتماعية كانت أو سياسية، لكن المايسترو عرف كيف يعطيه أوسمة نبل من المؤكد أن بتروني نفسه (واسمه المفترض هو تيتوس بترونيوس نيغر، الراحل عام 65/66 الميلادي)، لم يكن ليحلم بأن يأتي مبدع كبير بعد ألفيتين ليغدقها عليه، محولاً خلاعته إلى فعل أخلاقي! المزيد عن: فيديريكو فيلليني\الأدب اللاتيني\السينما الإيطالية\الأدب الروماني 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post هذه حيلة نقابة الموسيقيين المصرية لحل أزمة مطربي المهرجانات next post مارسيل بروست أبدع فنا جديدا في الكتابة الروائية والقراءة You may also like استعادة كتاب “أطياف ماركس” بعد 20 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 تحديات المخرج فرنسوا تروفو بعد 40 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 21 قصيدة تعمد نيرودا نسيانها فشغلت الناس بعد... 28 نوفمبر، 2024 الرواية التاريخية النسوية كما تمثلت لدى ثلاث كاتبات... 28 نوفمبر، 2024 بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: ماجان القديمة …أسرارٌ ورجلٌ... 27 نوفمبر، 2024 «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد 27 نوفمبر، 2024 محمد خيي ممثل مغربي يواصل تألقه عربيا 27 نوفمبر، 2024 3 جرائم سياسية حملت اسم “إعدامات” في التاريخ... 27 نوفمبر، 2024