ثقافة و فنونعربي “إكتشاف البطء” تستعيد الصراع الأوروبي في القرن 19 by admin 14 سبتمبر، 2022 written by admin 14 سبتمبر، 2022 21 الروائي الألماني ستين ناودلني يستلهم سيرة المستكشف الإنجليزي جون فرانكلين اندبندنت عربية \ نشوة أحمد ربما كان أحد أسرار عظمة الشمس سرعة ضوئها، ولكن لا أحد يمكنه لوم السحب لكونها بطيئة. أما الناس فعادة ما يلومون البطيء، لا سيما في عصر يلهثون فيه في سباق محموم، من دون أن يعرف أحدهم، ماذا يوجد عند خط النهاية، وبماذا سيفوز الأسرع بينهم! جون فرانكلين ضابط البحرية الملكية البريطانية، ومستكشف القطب الشمالي؛ كان الأكثر بطئاً وهو أيضاً الشخصية المحورية في رواية “اكتشاف البطء” للكاتب الألماني ستين ناودلني، الصادرة عن دار أطلس – سوريا، بترجمة الكاتب المصري سمير جريس، المقيم في ألمانيا. هذه الرواية حاول كاتبها، كما يشي العنوان؛ إعادة اكتشاف البطء، وتجسيد ما يعتبره العالمُ نقطة ضعف، بعد إلباسه ثوب الحكمة والقوة. اختار ناودلني منهجاً تقليدياً للسرد، فاعتمد الصوت المركزي “الراوي العليم”. وتدفقت الأحداث على نحو أفقي متتابع. فبدأت خلال فترة صبا جون فرانكلين. واستمر التسلسل المنطقي لها حتى وفاته. يتداخل الحقيقي والمتخيل، فلم تعق الحقائق الواقعية قدرة الكاتب على التخييل، وفي الوقت نفسه استفاد من تفاصيل لا حصر لها من القصة الحقيقية للضابط والمستكشف الانجليزي. تناقضات تشعل الصراع الرواية الألمانية بالترجمة العربية (نيل وفرات) تبدأ أحداث الرواية في مدينة سبيليسبي الإنجليزية، قبيل مطلع القرن التاسع عشر؛ بأزمة فرانكلين، الصبي الشديد البطء في الكلام والإدراك والحركة، وما تبع هذه الأزمة من تهكم أقرانه عليه، ونفاد صبرهم أمامه، وضرب الأب له وتقريعه إياه، مما دفع الطفل لمحاولة هروب فاشلة إلى البحر. وعبر مستويات متنوعة من الوصف؛ أتاح الكاتب وقفات واستراحات تتناسب مع طول رحلته السردية، التي امتدت نحو 470 صفحة. ورسم عبر الوصف الإبهاري، تلك البقاع البعيدة في المكان والزمان. كذلك استخدم ناودلني الوصف التفسيري ليحيل إلى مناخٍ من الفقر والجوع؛ كانت تعيشه القرى الإنجليزية في ذلك الوقت… “كانت الكلاب هناك تتسم بالهزال، الذي لم يكن واضحاً على الناس لأنهم يرتدون ملابس” ص 14. وأتاح مزيداً من الاستراحات السردية، عبر الديالوغ المسرحي، الذي عزَز من خلاله أيضاً حالة الإيهام بالحدوث. برزت المقابلة كأداة رئيسة للكاتب على طول خط السرد. ودفع عبرها بسيل من التناقضات، التي تسم النفس والعالم. فبرز في الواجهة تضاد بين السرعة والبطء، ثم توالت التناقضات، لاسيما بين رغبة العقل الواعي لجون في التدريب، كي يكون سريعاً، وما تسلل من عقله الباطن إلى أحلامه، فكشف عن رغبته الحقيقية في البقاء كما هو، بينما يتخلى العالم عن سرعته، وتوقف للإنصات له؛ “قال بصوت عال (سريع كالشمس) ثم ترك نفسه يهوي على وسائده، في الحلم رأى برغرين برتي، لورد ويلوبي المتحجر. كان يحكم قبضته على توم باركر حتى يصغي إلى جون” ص 22. كذلك برز العديد من الثنائيات الأخرى المتناقضة من اليأس والأمل، الشفقة والعنف، الخوف والشجاعة، السلام والصراع، تمجيد الحرب وكراهيتها. وكنتيجة لهذه التناقضات اللانهائية؛ اشتعلت جذوة الصراع. وتجلت له وجوه عديدة، بين فرانكلين وطبيعته البطيئة، بين الناس والفقر، الناس والآلة، بين الإنجليز والفرنسيين، بين البحارة وظروف قاسية من الجوع والبرد، بين فرانكلين أثناء حكمه بلدة فان دايمن، وأعوان سلفه “جورج أرثر” الذين حاولوا إبعاده من منصبه. فلسفة البطء الرواية الألمانية (أمازون) هذا الصراع الكثيف الذي هيمن على مفاصل السرد، أمد النسيج الروائي بجرعات من التشويق والترقب وحبس الأنفاس. وأسهم في تدافع الأحداث. أما الصراع على المستوى الداخلي للشخصية المحورية بالنص، فكان مع ما عمد إليه الكاتب من مونولوغ داخلي؛ وسيلة أنجع لسبر أغوار نفس فرانكلين، وكان كذلك طريقاً انتهجه ناودلني ليمنح بطله دوافع التحول. فرغم ولاء الشخصية لسمتها من البطء، فإنها طورت نقاط ضعفها لتستحيل إلى قوة، فصار الطفل الضائع وسط تهكم الصغار، وضرب الأب وتقريعه ؛ ضابطاً بحرياً مشهوداً له بالمهارة، والكفاءة، وحسن التصرف. يحترمه المجتمع الإنجليزي والصفوة من النبلاء. ومن خلال هذا التحول الذي نجم عن استثمار البطء؛ أبرز الكاتب الفلسفة التي يتكئ عليها النص، وهي اكتشاف البطء، وإظهار محاسنه، عبر التطور الدرامي للأحداث، حيث استفاد جون طفلاً من بطئه، في الاحتفاظ -في ذهنه- بمعالم الطريق، بينما لم يتسنَ ذلك لأقرانه الأسرع. وأتاح له البطء تفسيراً أدق لضحكات الهنود الحمر عند لقائهم بالبيض، واستخدم بطئه لتفادي الحرب بين سفينتين، إنجليزية وفرنسية. وتمكن أيضاً من إنقاذ طاقم سفينة إنفستغايتور فور تحطمها، بعد أن أقنع المتمردين منهم بفوائد التمرد البطيء. واستطاع التخلص من القناص الفرنسي الذي قتل الكثير من الجنود الإنجليز. كذلك استثمر بطئه في علاقته بماري روز، مما جعله يتفوق في الحب على كل الرجال. حمولات معرفية أتاح ما استخدمه الكاتب في بنائه، من تفاصيل تاريخية حقيقية لشخصية جون فرانكلين، وللحقبة الزمنية التي عايشها؛ تمرير حمولات معرفية كثيفة، انسابت كجزء أصيل من النص. نقل عبرها الصراع الإنجليزي الفرنسي، خلال القرن التاسع عشر، معركة كوبنهاغن، معركة طرف الغار، ومعارف أخرى عن المستعمرات البريطانية، قبائل الهنود الحمر، الإسكيمو، الحرب البريطانية الأميركية، الإثنولوجيا، مرض الأسقربوط، الأدوات التي تعتمد عليها الرحلات الاستكشافية مثل المنظار، وجهاز السدس. ومرر أيضاً بعض المعارف عن حيوان السلفاتور، الذي استخدمه في إطار من التماثل والتناظر مع جون فرانكلين، فهما ذكيان، لا يحبان القتال، كلاهما بطيء من الناحية الظاهرية، ويعاب عليهما البطء، رغم ما يتحليان به من حكمة وشجاعة. الروائي ستين ناودلني (دويتشه فيله الإنجليزية) كذلك مرر الكاتب بعضاً من مفردات الثقافة الشعبية في أوروبا، التي ميَّزت تلك الحقبة، من بينها الطقوس القديمة لمدينة لشبونة في احتفالاتهم بعيد القديس مرقس حيث كانوا؛ “يجلبون ثوراً إلى المذبح المقدس ويضعون إنجيلاً بين قرنيه، فإذا هاج فإن المدينة تنتظرها أوقات صعبة، أما إذا ظل ساكناً، فكل شيء سيكون على ما يرام، وعندئذ يذبحون الثور” ص 66. وموروثات أخرى مثل طرق النساء أبواب العرافات، وتطيّر البحارة من انطلاق أصوات أجراس السفينة، واعتبارها نذير شؤم ينبئ بأن الموت قادم لا محالة، وأنه نهاية الجميع. ومرر كذلك عادات الإنجليز في التداوي من الحمى، بضمادات الخردل وشراب البوصير وحبوب الكتان، واهتمامهم بطبق “الزولتسه”، أشهر أكلاتهم. كذلك رصد ناودلني التطور السياسي للحكم في بريطانيا، أثناء تلك الحقبة. وكذا تطور مكانة المرأة الإنجليزية واقتحامها مجال العمل العام، ومقاومتها نظرة الرجل الإنجليزي نحوها. وهذا ما بدا عبر “إليانور” الشاعرة، التي تقيم صالوناً ادبياً، و”جين” التي تناقش زوجها الحاكم وتقدم له مشورتها، وتجادل في أمور السياسة والحكم، و”فلورا ريد” التي تناضل من أجل حقوق الفقراء. عبثية الحرب أفرد الكاتب مساحة شاسعة من السرد، لتوثيق الحروب الدائرة في أوروبا في ذلك الوقت، لا سيما بين بريطانيا بقيادة نيلسون، وفرنسا بقيادة نابليون بونابرت. وبرر هذه المساحة؛ عمل الشخصية المحورية بالنص؛ جون فرانكلين، بالبحرية الملكية البريطانية، ومشاركته في تلك المعارك، التي نقل ناودلني عبرها تمجيد القادة للحرب، وقدرتهم على تخدير الجنود، وحتى البحارة الذين تم إكراههم للانضمام للسفن الحربية؛ باستخدام أوهام البطولة، والمجد، والشرف. ثم جسَّد الحقيقة التي تتكشف عبر ما تخلفه الحروب من دمار ودماء وقتلى، فتفضح عبثية الصراع ووحشية الحرب. وقد وفق الكاتب في توصيف المعارك عبر لغة مشهدية مكنته من إعادة إنتاج المأساة. ووضعت الدخان، والشظايا، والدماء، في مرمى العين. كما تمكن من تجسيد الذعر، والصدمة، واليأس، ووجهة النظر الأخرى، التي لا يدركها إلا الموتى! “كالعاصفة هجم مئتا رجل من سطح السفينة الفرنسية الأمامي وهم يزأرون، برقت النصال في الضوء، خلال ثوان تسببت الأمواج في ابتعاد كل سفينة عن الأخرى، فسقط المهاجمون في الهوة الفاصلة. تحركت أياديهم في عنف بحثاً عن شيء تمسك به، ثم اختفوا وقد أمسك كل منهم الآخر، مكونين عنقوداً بشرياً، نظرتهم مندهشة حتى وهم يسقطون …” ص 183. وقد ميَّزت هذه المشهدية لغة السرد في عمومها، لاسيما في وصف الرحلة الأولى لفرانكلين إلى القطب الشمالي. فنقلت أجواء الجوع والبرد، التي راح ضحيتها أكثر من نصف الفريق. ودفعت البقية – أثناء محاولاتهم البقاء أحياء- لأكل كل شيء حتى أحذيتهم! وتجلت أيضاً في رسم مشهد نجاة فرانكلين من رصاصة في الدماغ، أصابته خلال الحرب البريطانية الأميركية، إذ أتاح الكاتب عبر تكنيكه البصري، اختراق الحدث مجال الرؤية. وعزز جاذبية الصورة، بما أضفاه عليها من لمحة من الفانتازيا. سلك “ستين” تناصاً بأنواعه مع الموروث الديني المسيحي واستدعى من الأناجيل ما زاد من جمالية النص، وأبرز الرؤى التي أراد تمريرها. وأثار أسئلة جدلية عن اليقين، المصير، مفارقات الكون، والصدفة التي يسري قانونها على المقاتل، فينجو من الموت مرات، بينما يفقد الصيدلي حياته على يد قطاع الطرق. تتهشم جمجمة الأسرع، ويلدغ القنديل الوحيد في البحر؛ الرجل الذي لم يكن ينبغي له السقوط. ويمكن الجزم أن المترجم استطاع أن يقدم إبداعاً موازياً، انطلق من ثقافته الواسعة وإلمامه الكبير باللغة الألمانية. وتمكن في الوقت نفسه من الحفاظ على روح النص الأصلي، الأمر الذي يحقق للقارىء العربي المتعة ذاتها، التي يحققها النص الأصلي لقارئه بلغته الأم ولا بد ختاماً من الإشارة إلى الترجمة الجميلة والمتينة للرواية التي أنجزها الكاتب سمير جريس المقيم في ألمانيا، والمتمرس في فن الترجمة، خصوصا ترجمة الأعمال الروائية. وبات في مخزونه حتى الآن عدد كبير من الترجمات المتميزة. وقد نال جوائز عدة في حقل الترجمة من الألمانية الى العربية. ومن يقرأ هذه الرواية، يشعر حقاً أنه حيال نص معرب بقوة، يتمتع بالبساطة والمتانة في وقت واحد، لا سيما أن المعجم السردي هنا صعب لكونه ينتمي إالى عالم الحرب الأوروبية في القرن التاسع عشر. المزيد عن: رواية ألمانية\الزمن\الصراع الأوروبي\الحرب\القرن التاسع عشر\بريطانيا\فرنسا\نابوليون 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post حقنة أسبوعية تخفض خطر إصابة مرضى السمنة بداء السكري next post مستشرق ألماني يحلل ظاهرة نهاية عصر مصري في 6 روايات You may also like فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024