ثقافة و فنونعربي كاندينسكي الذي غادر بلاده وأحلامه الثورية قبل قرن من دون رجعة by admin 18 أغسطس، 2022 written by admin 18 أغسطس، 2022 148 حكايتان من تاريخ “مخترع” الفن التجريدي تقولان على بساطتهما كل شيء اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب منذ وقت مبكر كان يحلو للرسام الروسي الأصل فاسيلي كاندينسكي (1866 – 1944) المعروف بكونه واحداً من أوائل الرسامين التجريديين في تاريخ الرسم، أن ينتزع من سياق ذكرياته حكايتين ليرويهما لمن يحب أن يعرف شيئاً عن تلك الظروف التي حددت في الماضي مسار حياته وكذلك مساره الفني. وكان كاندينسكي يعتبر أن لكل من الحكايتين أهميتها القصوى في حياته حتى وهو ينبه مستمعيه بأنهم ربما لن يعثروا على تلك الأهمية للوهلة الأولى. وتعود أولى الحكايتين إلى العام 1908 وكان قد تجاوز الأربعين من عمره لكنه كان، بعد، عاجزاً عن الوصول إلى بداية مساره الفني الحقيقي “كنت حينها، كما يروي، أتخبط بين التيارات والمذاهب حتى وإن كنت مفتتناً بالألوان والخطوط الواضحة. كنت أريد أن أجدد ولكني عاجز عن معرفة كيف؟ وفي أي اتجاه؟. كنت أحبذ التعبيرية لكنها لا تكفيني، وأتشوق للسير في ركاب المستقبلية لكنها لا تشبع رغباتي وكذلك حال التكعيبية التي كانت قد بدأت تطل برأسها. وكنت ذات يوم قد وصلت في حيرتي وتساؤلاتي إلى حد يكاد يدفعني إلى الابتعاد عن الرسم ولو لفترة. ولكني ذات بعد ظهر دخلت محترفي حزيناً ساهماً واستلقيت على الأرض مسنداً رأسي إلى جدار. وفجأة لاحت في مواجهتي لوحة مركونة على الجدار المقابل خيّل إليّ أنها غريبة وأن أحداً ما قد وضعها هناك. استقمت في جلستي ورحت أتأمل فيها مشدوهاً وقد خيّل إلي أنني عثرت فيها على أجوبة على عدد كبير من الأسئلة التي كنت أطرحها على نفسي. وقلت: لعل شيطان إلهامي هو من وضعها هناك! لكن بعد دقائق اكتشفت حقيقتها. فهي لم تكن سوى لوحة من رسمي جعلت فيها على سبيل البدء في إنجاز رسمة جديدة، مجموعة من الخطوط واللطخات اللونية المائية التي يبدو أنها قد سالت على بعضها البعض وتمازجت في بعضها البعض بحيث كانت النتيجة عملاً متكاملاً رائعاً أو بدت كذلك لأني كنت قد أسندتها مقلوبة على جنبها. وهكذا ولد لديّ الفن التجريدي عبر تلك اللوحة التي سأعرضها للمرة الأولى عام 1910 بعنوان “لوحة مائية تجريدية”. فكانت منطلقاً لي على درب النوع الفني الذي لم يفارقني طوال حياتي! حكاية المزارعين الثلاثة هذا بالنسبة إلى الحكاية الأولى أما الحكاية الثانية فربما تكون أكثر تعقيداً كما كانت أكثر تأثيراً في مسار كاندينسكي الحياتي وربما الفني أيضاً الذي تلا حدوثها. وبالتحديد منذ صيف العام 1922 العام الذي تخلى فيه كاندينسكي عن أحلامه الثورية وتطلعاته الأيديولوجية وتمكن من العثور على طريقة تقوده إلى ألمانيا بعد أن انتهت بالنسبة إليه تلك المرحلة من حياته التي جعلته مشاركاً في “القرارات” الفنية التي راح البلشفيون يتخذونها في الاتحاد السوفياتي من خلال توظيفه رسمياً في مهمة مكنته من أن يؤسس خلال السنوات الأولى التي تلت الثورة، ما يزيد على 23 مؤسسة فنية وتربوية جماهيرية حاول فيها كما حاول رفاق مبدعون آخرون له أن يزاوجوا بين تطلعاتهم الفنية الثورية، وتطلعات الحزبيين الذي باتوا أركان الدولة الآن بمن فيهم لينين وتروتسكي ولوناتشارسكي من القادة الذين كانوا لفترة يسيرة من السنين يشاركونهم تطلعاتهم وآراءهم الفنية – الثورية، لكنهم باتوا يزجرونهم الآن. وكاندينسكي في روايته للحكاية الثانية هذه، سيشير إلى أنها هي التي حددت له مسار حياته المقبلة، لا الخلاف مع السياسيين الحزبيين. وذلك بالتحديد “لأنها كشفت لي بالفعل أننا في واد والشعب في واد آخر، كما يقول. فما العمل؟” ولنستمع إلى الحكاية قبل أن نجيب كاندينسكي على سؤاله. الحكاية تتعلق هنا بالمعرض الأخير الذي أقامه في وطنه لأعماله أوائل عام 1922 وكان ذلك في وقت كانت الخلافات قد اشتدت بينه وبين المسؤولين السياسيين ما أدى إلى استبعاده من إدارة أكاديمية الفنون التي كانت له اليد الطولى في تأسيسها ليصبح نائباً لرئيسها ولشهور قليلة صاحب القرار فيها. “ففي ذلك المعرض وكنت جالساً جانباً أرصد ردود فعل الزوار الذين بالكاد يعرف ملامحي عدد منهم ويعرفون بالتالي أنني أنا الرسام، شاهدت ذات لحظة ثلاثة مزارعين بسطاء وطيبين بدا لي على الفور أنهم دخلوا إلى المكان صدفة وهم غير واعين بأنه معرض فني. وهم إذ راحوا يتجولون بين اللوحات محاولين التأمل فيها وإدراك معنى هذا الذي يحدث من حولهم، صرخ أحدهم ضاحكاً: يخيل إلي أننا قد دخلنا على سبيل الخطأ إلى كنيسة. هلموا بنا نخرج بسرعة قبل أن يلتقطنا القسيس”. فاسيلي كاندينسكي (1866 – 1944) (أ.ف.ب) عالم آخر ويتابع كاندينسكي الحكاية وقد أغرق بضحك من الواضح أنه لم يكن هو نفس رد فعله حين حدثت قبل روايته لها بسنوات طويلة: “تنبهت من فوري إلى أن ما أدركه المزارعون البسطاء لم يكن بعيداً على الإطلاق عما يشعر به قادة البلاد السياسيين من الذي كانوا قد بدأوا منذ حين بإبداء العداء تجاه الكنائس وتوجيه الاتهام إلى كل فن روحي بأنه ممالئ للكنيسة معاد لمصالح الطبقة العاملة. وهكذا من خلال رد فعل المزارعين فهمت كل شيء. بل فهمت كيف أنني وفني بتنا غير مرغوب فينا في هذا البلد حتى ولو كان الاتهام تبسيطياً. فالأخطر من موقف السياسيين الحزبيين كان موقف الناس البسطاء الذين رغم البون الشاسع بينهم وبين الحزبيين فهموا حقيقة كانت غائبة حتى عني أنا، الفنان الذي كان يخيّل إليّ أنني إنما أُنتج فناً لهؤلاء الناس البسطاء”. وعلى هذا النحو اتخذ كاندينسكي قراره بإما أن يتابع حياته الفنية هنا بصورة تتناسب مع تطلعات دهاة السياسة الحزبية وبسطاء الشعب “التي اكتشفت أنها التطلعات نفسها وإن كان كل فريق منهما يعبر عنها بطريقة ولغايات مختلفة جذرياً”، وإما أن يرحل “تلمساً للحصول على ما يمكنني من حرية فنية”. وهكذا كان: في مثل هذه الأيام بالذات قبل قرن تماماً، أي في صيف 1922 وصل كاندينسكي إلى ألمانيا كخطوة أولى على طريق مناف طويلة قادته خاصة إلى فرنسا كما إلى سويسرا، كما قادته في السياق الموازي إلى متابعة مساره في تحقيق تلك الأعمال الرئعة التي كانت بدايتها في الحكاية الأولى يوم “اكتشف” أنه إن لم يكن “اخترع” الفن التجريدي، فقد اكتشفه ليكون مرتبطاً نهائياً بحياته، من خلال الحكاية الثانية التي مكنته من اكتشاف أنه لم يعد له مكان في البلاد التي تحكمها ثورة كان من أبرز مؤيديها كما من أخلص العاملين معها أول الأمر، وليس فقط لأن قادتها السياسيين الحزبيين راحوا يكشرون عن أنيابهم أكثر وأكثر، بل أهم من هذا لأن “الشعب” الذي كان يريد لفنه أن يعبر عنه ويسهم في تطويره، كان في مكان آخر تماماً معتقداً أن من يرسم تلك اللوحات يشتغل لحساب الكنيسة لا أكثر ولا أقل! في البوهاوس مهما يكن، من المؤكد أن كاندينسكي الذي لن يندم على اكتشافه التجريدية ذات بعد ظهر مضجر في محترفه، لن يندم كذلك على مبارحته موسكو بعد لقائه بالمزارعين الطيبين. فهو الذي كان خلال سنوات ما بين الحكايتين قد عاش ردحاً في ألمانيا واطلع على فنونها المتقدمة، وشارك بعد فترة باريسية في تأسيس جمعية للفنون الجديدة في ميونيخ، سيتوجه فوراً إلى فايمار حيث كان صديقه المعماري الفنان غروبيوس يؤسس مدرسة “البوهاوس” ويتطلع إلى التعاون فيها مع كبار المجددين في العديد من الفنون ومن بينها الهندسة والرسم وتصميم الأدوات وغيرها مما ينتمي إلى الفن الجديد. فوجد في كانينسكي غايته وضمه إلى البوهاوس لتبدأ بالنسبة إلى الفنان مسيرة إبداعية جديدة في حياته، مسيرة بات الآن من الجرأة بحيث يمكنه، ومن دون ندم أو أسى، يروي حكايات لا تنتهي عنها وعما أوصله إليها. حكايات كانت تينك الحكايتان من أقربها إلى قلبه. المزيد عن: فاسيلي كاندينسكي\الفن التشكيلي الروسي\المدرسة التعبيرية\المدرسة التكعيبية\الحركة التجريدية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “فنتانيل” أخطر مخدرات أميركا والذعر المحيط به لا يساعد على مكافحته next post “أولاد القطار يعودون”: يخلو من الكلام المفيد في مسألة التمييز العرقي You may also like سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024 فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024