بأقلامهمعربي دلال البزري من تورنتو : عيد المرأة، تحية إلى العجوز الشمْطاء by admin 17 مارس، 2022 written by admin 17 مارس، 2022 63 الرجال لا يفقدون شيئاً مع تقدّم العمر، إلا تضاؤل قدراتهم الجنسية والصحية العربي الجديد \ دلال البزري – كاتبة وباحثة لبنانية بقيتُ فترة طويلة أعتقدُ بأن صفة “العجوز الشمطاء” تُرمى على نساءٍ متصابيات، طاعناتٍ في السن، يشبهن الساحرة الشريرة المكلّفة بإخافة الأولاد: باللؤم المتطاير من عينيها، بفظاعة قبحها، بشعرها المبعثر، وأسنانها المكسّرة، وأنفها المعكوف المشدود طرفه إلى الأسفل، ومثله خدودها الجوفاء المتساقطة .. ذلك أن صفة “العجوز الشمطاء” كانت وما زالت تقترن بشتيمة أو تعيير، أو أيٍّ من أنواع التقبيح بحق نساء جمعنَ صفتين: بلوغ “سنّ معين”، والتصرّف بغير ما تقتضيه متطلبات أيٍّ من أشكال “الصواب”. أيضاً: ما ساعد وقتها على هذا الاعتقاد أنه، بلغتي العربية الناشئة، كنتُ أعتمد القاموس العربي – الفرنسي، وكانت الترجمة لصفة “الشمطاء”، هي، حرفياً، تلك “الساحرة الشريرة”. وفي يوم، وبالقاموس أيضاً، العربي – العربي هذه المرّة، بحثتُ عن معنى “شمطاء”، وباندفاع، بعدما سمعته بحق سيدة أعرفها شخصياً. ذلك أن المنعوتة بـ”الشمطاء”، لم تكن، لا في عمرها، ولا في مظهرها، ولا في تصرّفاتها تشبه الساحرة الشريرة. فماذا وجدتُ في القاموس؟ “الشمطاء” تُقال عن المرأة التي “اختلط سواد شعرها ببياضه”. وهنا كان سؤالان. الأول سهل: وما مذكّر “شمطاء”، في القاموس نفسه؟ إنه “الأشمط”. وهذه صفة لم أسمع عن رجلٍ شُتم بها. فمُرْتكِب أي حماقة أو مخالفة من الرجال، يُنعت بالخرفان، أو المتخاذل، أو الخائن، أو حتى الكافر… ولكن، على حدّ علمي، لا ينبري أحد ليصفه بـ”الأشمط”. حسناً، وماذا يقول القاموس عن رجلٍ ابْيَضَّ شَعره؟ يقول إنه “أشْيب”. وصِفة “الأشيب” رائجة، لدى وصف الرجال ذوي المكانة، الذين غزا الشيب شعرهم، فحلّ عليهم “سحرٌ ما”. أما مؤنث “أشيب” فهو “شيْباء” (على وزن “عنْقاء”). وهي مفْردة لم أقرأ، ولم أسمع أنها طُبِّقت على امرأة، أية امرأة .. ربما تفوتني هذه النقطة. ربما وردت “الشيباء”، في قولٍ أو نص… عن امرأة “كبرت” في السن، محترمة، محصَّنة، ومكانتها لا تسمح بتعييرها بشيء .. ولكن الأكيد أن “شيباء” ليست رائجة في لغتنا المحكية والمكتوبة. صفة “العجوز الشمطاء” كانت وما زالت تقترن بشتيمة أو تعيير، أو أيٍّ من أنواع التقبيح بحق نساء جمعنَ صفتين: بلوغ “سنّ معين”، والتصرّف بغير ما تقتضيه متطلبات أيٍّ من أشكال “الصواب” أما السؤال الثاني، فكان عن “العمر” المعتمَد لتحديد الصفات التي تستحقها أية امرأةٍ لرشقها بـ”العجوز الشمْطاء”. السنّ طبعاً في البداية. متى تُعتبر “عجوزاً”؟ باكراً جداً، إذا حصدتَ الروايات الشخصية، وإذا دمجتَ الفروق بين الأوساط والبيئات، الواسعة والضيقة. ولا تقُل إن هذه البيئة “متعلمة” أو “جاهلة”. الاثنان سيان في خفض شباب المرأة إلى ما بعد الثلاثين. والقصص المثيرة عن هذا “السقف”: أن تتفاجأ الواحدة منا، وهي في أواسط ثلاثينياتها، بأن شبابها انتهى، وهي في بداية طريقها إلى أن تكون “شمطاء”. ليس بمعنى الشيب، فقد يتخفّف شعرها منه، وأحيانا لا تشيب، أو قد تصبغه .. إنما بمعنى العمر الاجتماعي “المقبول” للشباب. أذكر شخصيا كم قيل لي “انتهى شبابك”، وأنا في بداية الثلاثينيات من عمري، وإنني صدّقتُ ذلك. إلى أن سمعتُ مديرة الشؤون الطلابية في فرنسا، وأنا أهيئ للدكتوراه، تقول عني “الشابة اللبنانية”. “شابة؟ أنا شابة؟” سألتها. وهي تعجّبت لتعجّبي، ولم تُجبْني. ولكنني أصررتُ عليها. “نعم شابة”. “ومتى ينتهي الشباب برأيك؟”. جوابها: “أوه… أمامك سنوات طويلة جداً!”. وبعد هذا الحوار السريع، صرت أدقّق بألأعمار الممنوحة لشبابنا، نحن النساء اللبنانيات، العربيات، وأدركتُ، يوماً بعد آخر، أن معدل شباب المرأة ينخفض عندنا أحيانا إلى أوائل العشرينيات. وهذا يجعل اختفاء النساء عن الشاشة يحصل باكراً، وبالتدريج. تهبط المعنويات، وتقدّم التنازلات، وتكثر أسرار السنّ الحقيقي، وتدور السوالف حول امتناع النساء عن البوح بأعمارهن، وتزيد المعالجات الجمالية الخارجية كلها (تجميل، كريمات، جلسات سبا)، ورعب داخلي حقيقي، تترجمه “الحالات النفسية” بالاكتئات، وتتوّجه عبارة “سن اليأس”. الطامة اللغوية الثانية. واليأس يكون قد تسلّل قبل وصول سنّه. اليأس من سن اليأس الذي يقترب، والهلع والتوتر والحرارة .. وينقطع الطمث، فيتنافس الجميع على تكريس “تقاعدها” المبكر. الاختفاء أولى سمات تقدّم النساء في العمر. لا الشاشة ولا الفن ولا “العلاقات الاجتماعية” تريد وجودها بينهم، فإذا لم تكن زوجة المموِّل، أو صاحب الكلمة، أو الموقع. أو إذا لم تكن هي نفسها ربّ عمل، وهذه من النوادر، أو ذات شبكة علاقات عامة مفيدة، أو ما زالت “شابة” تلهي الأنظار، أو تغذّي الخيالات .. فهي منْسية، “وُضعت على الرفّ”، كما هو دارج القول. وهذه أولى الاستثناءات. الاستثناء الثاني، أن تكون أم شهيد. أي امرأة ضحّت بحياة ابنها، غصب عنها، أو بإرادتها، من أجل أيٍّ من القضايا. عندها، تخرج هذه المرأة من العتْمة، يُحتفى بها. ولكن بشروط أن يقتصر هذا الخروج من العتْمة على المناسبات والأعياد، وتُلقى فيها الكلمات الرنّانة .. وبعد ذلك، تختفي أم الشهيد في رعين الوحدة، منزوية تبكي وحدها شوقها الأبدي لابنها. والحالتان نادرتان. لا كل النساء متمكِّنات، ولا كلهن أمهات شهداء. الغالبية العظمى من النساء مكتوبٌ عليهن الاختفاء بعد تقاعدهن المبكّر عن الشباب. وإذا كنَّ ما زلنَ على حياة زوجية، فهن وحيدات بوجه رجل يخدمنه، كما فعلن طوال عمرهن، “وفاءً” و”أخلاقاً”. الخدمة والرعاية، هذا ما تبقى من أدوارهن. بعيداً عن الأولاد والأحفاد الذين هربوا من الجحيم .. أما في حال كانت هذه المرأة أرملةً أو مطلَّقة أو عازبة، فهي مطوَّقة في سجن الصمت والاختفاء، بما يتجاوز إنسانيتها على التحمّل. وفي غالبية الحالات أيضاً: امرأة وحيدة. تخدم نفسها بنفسها، تقع على خط الفقر أو العوز، أو فوقهما بقليل. وهي أسهل من يُزاح عن الشاشة، وعن الحياة الاجتماعية، فضلاً عن الحياة السياسية، التي لم تكن يوما من نقاط قوتها، وعن العمل، المحدود بدوره. بضماناتٍ صحيةٍ فارغة، أو رواتب تقاعد الزوج المتوفى الشحيحة، أو بأي “ترْكة” نالتها، أو اقتصاد رعته في بداية شبابها. الغالبية العظمى من النساء مكتوبٌ عليهن الاختفاء بعد تقاعدهن المبكّر عن الشباب لكن أكبر خاسرات تلك المرحلة هي المرأة التي كانت تتمتع بسلطة جمالها. بماذا يُحْشى دماغ الحلوة؟ بأنها مرغوبة، مسموحٌ لها ما لا يُسمح للبشعة. صاحبة وجاهة، ولا تحتاج بذل الجهد في أيٍّ من المجالات أو الأنشطة .. إلخ. وعندما تصل إلى العمر غير المُباح، تتحوّل حياتها إلى جُلْجُلة لا نهاية لها. سقوطها مروّع، إذا ما قيس بذاك الذي أصاب الأقل جمالاً منها. كم منا سمع ذاك التعليق المشفق، الراثي، المُرفق بزمّة شفاه، وحركة باليد تدعو إلى الإهمال: “كانت جميلة .. ولكن الآن كبرت” .. أي لم يعُد لها أي شأن. أو ذلك القول الرائج، وقد كرّسه أحد “المؤثرين” على “يوتيوب”، في ردّه على مذيعة قالت، في برنامجها، كلاماً لم يعجبه: “اسمعي يا فلانة .. كان مسموحاً لكِ أن تغْلطي لأنك كنتِ حلوة .. أما الآن، فانتبهي لكلامك .. أنتِ تتقدّمين في العمر، وغداً سيذهب جمالك .. فبماذا سوف تتسلَّحين ساعتها؟!”. بعد التمييز اللغوي، قليلٌ من المقارنة: الرجال لا يفقدون شيئاً مع تقدّم العمر، إلا تضاؤل قدراتهم الجنسية والصحية. الواحد منهم لا يعيش وحده، إلا إذا كان هذا اختياراً عنيداً منه، يحب العزلة. أما في حال لم يطق العيش وحده، وهو لا يعرف كيف يتدبّر شؤون البيت والطبخ، فسوف يجد بسهولة رفيقة بقية دربه. وبحسب برستيجه وقدراته المالية، يستطيع أن يختار “زوجة” أو “رفيقة” درب “تُناسب” إمكاناته، مهما صغُرت. وهو إذا تقاعد، كموظف، لا يتقاعد عما يرغب القيام به في حياته. إمكاناته المالية أقوى، إذ خدمه التمييز الاقتصادي، على ضحالة هذا الاقتصاد، ومقامه بين الناس لم يتأثر بشيبة شعره. بالعكس. هو مزْهو بهذه الشَيْبة. في عيد المرأة العالمي: تحيّة إلى العجوز الشمطاء، الساخرة والحزينة، القلِقة والمطمئنة، الساكنة والصاخبة، المتوقدة والكسولة، الناسية والمتذكّرة، المتشدّدة والمتساهلة، خضراء القلب، ساكنة الكون كله والمسكونة به.. المزيد عن : الشيخوخة\العزلة\التمييز\العلاقات الاجتماعية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post جهات إسرائيلية تعتبر هجوم أربيل تغييرا في قواعد اللعب next post ماكرون يخلد ذكرى الكاتب الجزائري مولود فرعون You may also like رضوان السيد يكتب عن: ماذا جرى في «المدينة... 15 نوفمبر، 2024 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: ترمب ومشروع تغيير... 15 نوفمبر، 2024 منير الربيع يكتب عن..لبنان: معركة الـ1701 أم حرب... 15 نوفمبر، 2024 حميد رضا عزيزي يكتب عن: هل يتماشى شرق... 15 نوفمبر، 2024 سايمون هندرسون يكتب عن.. زعماء الخليج: “مرحبًا بعودتك... 15 نوفمبر، 2024 الانتخابات الأمريكية 2024: وجهات نظر من الشرق الأوسط 15 نوفمبر، 2024 نادية شادلو تكتب عن: كيف يمكن لأميركا استعادة... 14 نوفمبر، 2024 جهاد الزين يكتب من بيروت عن: تأملات ثقافية... 12 نوفمبر، 2024 نبيل فهمي يكتب عن: وماذا بعد؟ 12 نوفمبر، 2024 ماري ديجيفسكي تكتب عن: لماذا تفادى الناخبون الأميركيون... 12 نوفمبر، 2024