ثقافة و فنونعربي سليم بركات يستثمر روائيا في الأسطورة الإغريقية by admin 4 مايو، 2021 written by admin 4 مايو، 2021 16 ابتكار جدلية الكهف والمدينة في “ميدوسا لا تسرّح شعرها” اندبندنت عربية / سلمان زين الدين العلاقة بين الأسطورة والرواية ضاربة في القِدَم على رغم أن الأولى أقدم من الثانية بقرون. وهي علاقة جدلية بامتياز؛ فالأسطورة تفتح للرواية آفاقاً جديدة وتمدّها بتقنيات تعبير وأقنعة روائية، والرواية تحفظ الأسطورة من الزوال. والرواية العربية لم تكن بمنأى عن هذا التجادل بين النوعين السرديّين، ذلك أن كثيرين من الروائيين، من مختلف البلدان العربية، استثمروا في الأسطورة، على اختلاف درجة الاستثمار ونوعه، بين رواية وأخرى. ولعل رواية “ميدوسا لا تسرّح شعرها” (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر) للروائي والشاعر السوري سليم بركات التي يستلهم فيها أسطورة “ميدوسا” الإغرقية هي إحدى أواخر الروايات العربية في هذا الإطار. في الميثولوجيا الإغريقية، ميدوسا إلهة الحكمة والأفاعي، الخارقة الجمال، ترتكب الخطيئة مع إله البحر بوسيدون في المعبد المقدّس، فتغضب منها أثينا إلهة الحكمة والحرب، وتحوّلها إلى مخلوق مرعب، بِشَعرٍ ثعابين، وجِلْد أخضر، وعينين ثاقبتين تحوّل كل من ينظر إليهما إلى حجر، ما يدفعها إلى الفرار إلى إحدى الجزر والاختباء في كهف. يقتفي أثرها الملك البطل بيرسيوس، ويقوم بقطع رأسها وتقديمه إلى أثينا التي تضعه على درعها وسيلةً للحماية. وبذلك، تُعتبَر ميدوسا رمزاً للوحشية المرعبة، ويُعتَبر بيرسيوس رمزاً للبطولة. أمّا في الرواية فلكلٍّ منهما مسارٌ آخر ومصيرٌ مختلف. الثنائية المحورية “ميدوسا لا تُسرّح شعرها” هي الرواية الثامنة والعشرون لسليم بركات. ينطلق فيها من الأسطورة ليروي تَشَكُّل العمران في بعض بداياته الأولى. والرواية تقوم على مجموعة كبيرة من الثنائيات المتضادّة. غير أنّ الثنائية المحورية فيها هي ثنائية: الكهف/ المدينة. ولكلٍّ من طرفيها سياقاته في النص؛ وهي سياقات تتجاور، وتتنازع، وتتقاطع، وتتصارع. ولكلٍّ منهما شخوصه بمساراتها الكثيرة ومصائرها المختلفة. وهي مسارات ومصائر الآلهة والبشر والتماثيل والأفاعي وأنصاف البشر وأنصاف الأفاعي. تنخرط فيها: ميدوسا وبناتها الإحدى عشرة، وكلٌّ منهن هي امرأة في نصفها الأعلى وأفعى في نصفها الأسفل. بيرسيوس ورهطه الأربعون. المعماريون السبعة. المناطقة الثلاثة. المهرّجان. ومجموعة من العمال والرسامين والتماثيل والطيور. ويتمخّض عن هذه العملية مجموعة من الأحداث الغرائبية، تقوم بها شخوص أسطورية وواقعية، في فضاء مكاني غرائبي، وفي فضاء زماني خارج عن مقاييس الزمن الواقعية، ما يجعل الرواية تنتمي إلى الواقعية السحرية بامتياز. الطرف الأوّل من الثنائية المحورية يتمظهر، أوّلاً، في المكان الروائي/ الكهف الصخري ببهوه وحديقته ومزرعته وأجنحته المختلفة. وهو مكانٌ معزول عن العالم الخارجي، منقطع عن دورة الزمن الطبيعي، واقعي ـ سحري، يشكّل فضاءً مناسباً للأحداث الغريبة. ويتمظهر، ثانياً، في ميدوسا وبناتها اللواتي وُلِدْنَ من أفاعي رأسها، بعد ألفٍ وأربعمئة عام من الحَمْل الغرائبي، تعبّر عنه بصورة مرعبة مقزّزة: “الأفاعي هؤلاء تعانقن متعةً ألف عام، فاستحصلْتُ من أفواههن أربعين بيضة احتضنْتُها في فمي مُغلَقاً أربعة قرون. فقسَتْ إحدى عشرة بيضة لا غير. هؤلاء هنّ بناتي” (ص76). ويتمظهر، ثالثاً، في نمط العيش ووسائله وأدواته. المدينة البشرية الطرف الثاني من الثنائية المحورية يتمظهر، أوّلاً، في الرحّالة الذين ينتقلون، في رحلة لا متناهية، من مكانٍ إلى آخر. يحملون شيئاً من المكان المنتقَل منه إلى المكان المنتقَل إليه، حتى إذا ما انتقلوا منه يحملون شيئاً إلى آخر ينتقلون إليه، حتى ليصبحوا رهائن هذا الشيء المنقول. ويتمظهر، ثانياً، في الملك بيرسيوس ورهطه الأربعين الذين لا تتّضح أسباب زيارتهم الكهف. ويتمظهر، ثالثاً، في نمط العيش والمهارات الفنية التي يتمتّع بها الرحّالة والزائرون. والرواية، في نهاية المطاف، هي تردّدات الاصطدام بين طرفي الثنائية المحورية، عنيت بهما الكهف والمدينة. ثمّة محطّتان اثنتان يصطدم فيهما طرفا الثنائية، ويترتّب على كلّ اصطدام نتائج معيّنة، يمكن من خلالها تلمّس ملامح الشخوص المنخرطة فيه؛ الاصطدام الأوّل يتمثّل في وصول الرحّالة إلى الكهف، ذات زمن، مصحوبين بتمثال أفروديت هديّة للمكان، في نوعٍ من التلاقح الحضاري بين الأمكنة المختلفة. والاصطدام الثاني بين الكهف والمدينة يتمثّل في الزيارة التي يقوم بها بيرسيوس ورهطه، ذات زمن آخر. وتنجم عن الاصطدامين تردّدات معيّنة تؤثّر في مجرى الأحداث ونموّ الشخصيات. غلاف الكتاب (المؤسسة العربية) ميدوسا الرواية يكون من تأثيرهذه التردّدات أنّ ميدوسا التي مسختها الربّة أثينا أو مينرفا، في رواية أخرى للأسطورة، إلى كائن أسطوري مريع، نصفه الأعلى امرأة ونصفه الأسفل أفعى، عقاباً لها على فعلتها، تجمع بين التعدّد الجسدي المشار إليه وبين التعدّد الداخلي؛ فهي سيّدة الكهف القويّة التي توزّع الأدوار، وتأمر وتنهى، وتخدع وتغدر، تستعبد الآخرين وتسخّرهم في خدمة مشاريعها، وتصادر حقّهم في المغادرة، وتتحرّك في مواكبة بناتها، وفي ضوء أسراب الحمام الملتهبة التي تبدّد ظلام الكهف، من جهة. وهي صاحبة الفضول المعرفي الذي تترجمه طرحاً للأسئلة وبحثاً عن إجابات مقنعة، وهي صاحبة المشاريع العمرانية التي تخطّط وتأمر بالتنفيذ، من جهة ثانية. وهي ذات حسٍّ ديمقراطي في حرصها على استشارة الآخرين والوقوف على آرائهم، من جهة ثالثة. وبذلك، تجاور في شخصها، كما في جسدها، بين المتضادّات. هذا التعدّد، الشكلي الوظيفي، تتمّ ترجمته في وقائع روائية، فنراها تحسن استقبال الرحّالة، وتُسخّرهم في استحداث جناح جديد لزائرها المزمع، وتُصادر حقّهم في الرحيل، وتأمرهم ببناء مدينة داخل الكهف، وتخدع بيرسيوس من خلال استدراجه إلى النظر في مرآة ترسه ما يحوّله إلى تمثال من الحجر، وتأمر بناتها بالتخلّص من رهطه الأربعين لمجرّد تفكيرهم في العودة إلى مدينتهم. بيرسيوس الرواية ويكون من تأثيرها أيضاً أن بيرسيوس، الملك القوي يملي شروطه في البداية بالطلب إليها إخلاء الكهف من المرايا كي لا يتحجّر هو ورفاقه لدى النظر إليها، ويمارس معهم نمط عيشهم في الحركة والصيد والطعام، ويتعاطى معها من موقع الندّ للندّ، حتى إذا ما علمت ميدوسا بقراره مغادرة الكهف مع رهطه، وشكّل القرار حافزاً لدى الرحّالة للمطالبة بالشيء نفسه، ما يشكّل خرقاً فاضحاً لقوانين الكهف، كما تراها، تقوم بخداعه وتحويله إلى تمثال حجري، وتأمر بناتها المسلّحات بالأقوار بالتخلّص من الرهط المرافق. وبذلك، تجمع الشخصية بين الثقة بالنفس والقوة والسذاجة وسعة الانقياد. أما الرحّالة الآخرون، على تنوّع فئاتهم واختصاصاتهم، فيسقطون ضحيّة استبداد ميدوسا، ويُمارَس عليهم نوع من العبودية الوظيفية والحياتية؛ فيقومون بتنفيذ الأعمال العمرانية، ويُجبَرون على نوعٍ محدّد من الطعام، ويُصادَر حقّهم في المغادرة، ما يطرح جدوى المعرفة المهنية في مواجهة الفطرة البسيطة. وبذلك، تنهزم المدنيّة أمام البداوة، وتنتصر أحكام الكهف على قوانين المدينة، وتنقلب الأدوار رأساً على عقب، فتنتصر ميدوسا في الرواية بعد أن كانت مهزومة في الأسطورة، وينهزم بيرسيوس بعد أن كان منتصراً. إلى ذلك، لا يمكن، في ختام هذه القراءة، القفز فوق اللغة الروائية في “ميدوسا لا تُسرّح شعرها”، فسليم بركات الروائي صاحب الروايات الثماني والعشرين هو نفسه الشاعر صاحب المجموعات الشعرية الاثنتين والعشرين، ما يعني أن الروائي والشاعر كليهما يتنازعان اللغة الروائية، ويأبى الأخير إلا أن يطلّ برأسه بين فينة وأخرى، على شكل صورة شعرية أو استعارة جميلة أو تشبيه مبتكر أو نعتٍ مختلف، مما يجعل شعرية اللغة قيمة مضافة إلى روائيتها، ويحولها إلى شخصية أخرى تُضاف إلى شخصيات الرواية. المزيد عن: رواية/كاتب سوري/كاتب كردي/اسطورةا/لتاريخ/التخييل/الحضارة الإغريقية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post موت المؤلف وظهور “الزبون” عوض القارئ next post التونسية أمامة الزاير من اللون الغنائي إلى القصيدة المركبة You may also like سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024 فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.