ثقافة و فنونعربي عندما غاب البطل الملحمي عن رواية “يوليسيس” لجيمس جويس by admin 17 يناير، 2021 written by admin 17 يناير، 2021 18 أكثر من ألف صفحة لـ18 ساعة وألوف الهوامش لرواية لا تحتاجها اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب قبل سنوات من الآن وتحديداً يوم السادس عشر من يونيو (حزيران) 2004 تجمع عدد لا بأس به من الناس في أحد أحياء مدينة دبلن عاصمة إيرلندا ليحتفلوا بـذكرى مرور قرن بكامله على ذلك اليوم الذي خرج فيه ليوبولد بلوم من شقته عند التاسعة صباحاً. صحيح أن بلوم المذكور لم يفعل ما يمكن منطقياً التوقف عنده بعد خروجه وحتى طوال الثماني عشرة ساعة التي أمضاها خارج الشقة ليعود إليها عند الثالثة بعد منتصف اليوم التالي ويستأنف ممارسة حياته اليومية وكأن شيئاً لم يكن. والحقيقة أن شيئاً لم يكن، وما كان ثمة داع لذلك الاحتفال الغريب، لولا أن قلم جيمس جويس مرّ من هنا لـ”يصف” ما حدث مع ليوبولد بلوم طوال تلك الساعات التي غاب فيها عن شقته وزوجته موللي متجولاً في شوارع دبلن وأزقتها تجوالاً لم يكن في إمكان أحد أن يتخيل أي تماثل بينه وبين تجوال يوليسيس بطل الأوديسة الهوميروسية الإغريقية ما من شأنه أن يجعل الكاتب الإيرلندي يعطي روايته تلك اسم البطل الإغريقي، موحياً أيضاً بتشابه بين انتظار بينيلوبي بطلها الغائب في الملحمة القديمة وانتظار موللي زوجها السارح في الرواية الحديثة، لا شيء من شأنه هذا، اللهم إلا إن أخذنا في الحسبان إبداع جيمس جويس وخياله الذي مكنه من أن يكتب مئات ألوف الكلمات ليصف تلك اللاأحداث التي لا تحدث في روايته “يوليسيس”. والحقيقة أننا لا نرسم هنا لا أحجية ولا صفحة كلمات متقاطعة عملاقة. بل نتحدث عن عمل أدبي. في أساس الحداثة وبالتحديد عن رواية لا تزال حية تُقرأ وبشغف منذ ما ينيف على قرن من الزمن، بل تعتبر في أساس الحداثة الروائية في القرن العشرين لا تنافسها في ذلك، وبكثير من الصعوبة، سوى روايات تعد على أصابع اليد الواحدة منها رواية للفرنسي مارسيل بروست وأخرى للوي فرديان سيلين وربما “مسز دالاواي” للإنجليزية فرجينيا وولف مع إطلالة من هنا على الألماني روبرت موزيل “الرجل البلا سمات”، ومن هناك ربما على النمساوي هرمان بروخ “السائرون نياماً”. وحتى في هذه الصحبة الضئيلة العدد والمميزة، يبقى جيمس جويس و”يوليسيس” في الصدارة، وربما من دون أن يضطر أحد إلى التبرير. فالإبداع هو هكذا: لحظة غامضة، أسئلة لا أجوبة عليها واختيارات لا ينبغي تبريرها. ويقيناً أن “يوليسيس” تحمل كل ما للأدب من غموض وخفايا وقدرة على الإمتاع، حتى وإن كان ثمة بين الحين والآخر أصوات تطلع محتجة على هذا كله، ولكن من النادر أن يأخذها أحد على محمل الجدية. ثم، للمناسبة أوليس من خصائص الإبداع الكبير أن يفرز المتلقين من دون أن يسعى للوصول إلى أي إجماع؟ جيمس جويس (غيتي) يوليسيس الغائب تقريباً مهما يكن من أمر، قد يكون من المفيد هنا أن ننطلق من ملاحظة لا بد منها وهي، أنه إذا كانت الرواية تحمل اسم البطل الملحمي الإغريقي، فليس في متنها من يحمل هذا الاسم، بل إن اسم يوليسيس نفسه لا يذكر في الرواية سوى أربع مرات وبشكل عارض لا أهمية له في كل مرة. بيد أنه يذكر في الهوامش مرات عديدة. والرواية كما صاغها جيمس جويس تمتلئ بالهوامش في كل صفحة من صفحاتها، وهي على أهميتها القصوى، غير ذات فائدة للقراءة ولمعرفة أسباب وتفاصيل تلك الجولة التي قام بها المدعو بلوم خارج شقته إنما داخل المدينة لا يبارحها. ومع ذلك لا بد هنا من ملاحظة أساسية ثانية مفادها أن من لم يقرأ الأوديسة سيصعب عليه أن يدرك شيئاً من مسار رواية جيمس جويس، أما من قرأها فربما لا يكون في حاجة إلى الهوامش. لكن الهوامش تبدو بالنسبة إلى جويس جزءاً أساسياً من الرواية. حتى وإن كان في وسعنا أن نتصور بكثير من الإشفاق الجهود التي بذلها مترجمو الرواية، ومنهم صلاح نيازي في ترجمة عربية ممتازة صدرت في أجزاء عن “دار المدى”، الذين قد تستغرقهم ترجمة مئات الهوامش العلمية والدينية والأسطورية أضعاف الوقت الذي تحتاجه ترجمة النص الروائي نفسه. أعمال عديدة في عمل واحد والحال أن هذا كله هو ما صنع فرادة هذه الرواية التي ما كتبها جويس إلا بعد ما أصدر عدداً لا بأس به من نصوص بين قصص قصيرة وكتب سيرة ذاتية مباشرة أو مواربة بحيث، حين صدرت “يوليسيس” وقُرئت جيداً فُهم أن معظم ماكتبه جويس قبلها إنما كان نوعاً من التمهيد لها. ففي سياق “يوليسيس” نعثر على شخصيات ومواقع جغرافية تنتمي إلى مجموعته القصصية “أهل دبلن”، وفي سياق الرواية/ الخلاصة سنجدنا أمام نوع من الاستباق حتى لما سيطالعنا في “يقظة فينيغن” الرواية التي سيكتبها جويس بعد “يوليسيس” كما سنرى، وحتى أمام “صورة الفنان في شبابه”، بل حتى أمام “ستيفن بطلاً” ذلك النص الذي استنكف عن نشره بعد أن أنجزه وها هو يضمه هنا إلى “يوليسيس”. ومن هنا تبدو “يوليسيس” عمل حياة بأسرها في تجاوز مدهش للثماني عشرة ساعة التي تدور فيها لا- أحداثها، وللناس الذين يلتقيهم والذين يفكر فيهم بلوم من دون أن يلتقيهم بدءاً من ستيفن ديدالوس، وصولاً إلى سكان الذاكرة والصور وفكرة المدينة. الزمن في روايتين ومع ذلك كله قد يكون من المنطقي هنا أن نتوقف عند نوع من المقاربة الطردية بين الروايتين المتزامنتين تقريباً اللتين اعتاد المؤرخون والنقاد النظر إليهما باعتبارهما الإرهاص الأساس بالحداثة الروائية في القرن العشرين: “البحث عن الزمن الضائع” لمارسيل بروست و”يوليسيس” لجويس، (علماً أن ثمة دائماً روايات قليلة أخرى تضاف إليهما تبعاً لنظرة الباحث أو الناقد قد تكون من بين ما ذكرنا أعلاه، وقد لا تكون لكن هاتين ثابتتان في موقعيهما دائماً). فلئن كانت رواية بروست تسعى في كل صفحة منها إلى تحطيم الزمن وضغطه أو إلغائه بكل بساطة، مزيلة الفوارق بين أزمان عديدة جاعلة للغة قدرة على خلق تزامن بين مراحل مختلفة وأحداث متباعدة، فإن رواية جويس، على العكس من ذلك، تشتغل على الزمن بشكل مغاير تماماً، فهي “تفلش” الزمن، تمدده، تدخل في تفاصيل تفاصيله بشكل يُنسي القارئ أنه إنما مطلوب منه هنا أن يعيش ما لا يزيد على ثماني عشرة ساعة عبر أكثر من ألف صفحة! رواية أبدية ومن الواضح أن هذا الاشتغال على الزمن بهذا الشكل الغريب والمدهش هو الذي مكن الكاتب من أن يعطي قارئه إحساساً بأنه إنما يقرأ رواية أبدية، قد تدور في دقيقة واحدة وقد لا تتوقف عن الدوران إلى الأبد. رواية يتوقف فيها الزمن الحقيقي متيحاً للكاتب التسلل على سجيته وهواه داخل رؤوس وأفكار شخصياته، لا سيما شخصيته الرئيسة وحواراتها، وما يفعل أو كان يريد أن يفعل أو لم يكن يريد أن يفعل في كل ثانية. مهما يكن، في “النهاية” يعود بلوم إلى بيته وإلى سرير “بينيلوبه” أي زوجته موللي ما يتسبب في استيقاظها لتروح بدورها في حديث هذيان سيبدو وكأنه ثرثرة لا تنتهي ولا تعني شيئاً. لكن بلوم سوف يستيقظ كالعادة عند الثامنة من صباح اليوم التالي ليستأنف ما هو معتاد في حياته اليومية. يتناول فطوره من جديد. يتبضع من جديد. يشتري اللحم من جديد. يدخل المطبخ من جديد. ويذهب إلى عمله من جديد، ومن جديد يلتقي بـديدالوس الذي كان التقاه في اليوم السابق إذ بدأت الرواية به لثلاث ساعات تسبق التقاطها بلوم طوال الساعات “الطويلة” التالية…. ويتكرر كل شيء من جديد. وبقي أن نذكر، أخيراً، هنا أن جويس سيعود بعد حين ويستكمل “يوليسيس” بروايته الأخرى “يقظة فينيغين” التي ستبدو في نهاية الأمر وكأنها المعادل الليلي لـ”يوليسيس” التي يمكن اعتبارها بعد كل شيء رواية نهارية! المزيد عن: جيمس جويس/يوليسيس/دبلن/الأدب الإيرلندي 1 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post بريطانيا تجيز استخدام عقار يؤخر تطور سرطان المبيض next post أحمد أمين: هذا ما فعله بي بطل “ما وراء الطبيعة” You may also like مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 1 comment Laser 17 يناير، 2021 - 1:05 ص I am sure this article has touched all the internet viewers, its really really fastidious piece of writing on building up new website. Reply Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.