ثقافة و فنونعربي تأملات في الهويّة من خلال «رأيت رام الله» لمريد البرغوثي (١/٢) by admin 19 أغسطس، 2020 written by admin 19 أغسطس، 2020 36 مجلة رمان الثقافية / عبدالله البياري – كاتب وباحث من فلسطين ننشر بين وقت وآخر مطوّلات بمثابة الأوراق البحثية، ضمن صفحاتنا آراء وآداب وأفكار وأفلام وفنون، في زاوية سمّيناها «أوراق رمان»، مكتوبة بالعربية أو مترجمة. هذا الجزء الأول من البحث الافتتاحي. نصّ مريد البرغوثي، الروائي، المعنوَّن «رأيت رام الله»(١)، ينبني على مونولوج داخلي عميق، حادثٌ في فضائين اثنين: التاريخي بتداعياته السياسية والاجتماعيّة والاقتصاديّة و”الوطنيّة”، والذاتي الإنساني بتمظهراته الفرديّة والجمعيّة، إلا أنّ هذا المونولوج الهويّاتي لم يطرح سؤال الهوية بالمعنى الميتافيزيقي الفلسفي، إنما طرحه ضمن حدود البراغماتي التاريخي المُعاش اليومي، أي أنه يطرح سؤال “من هو الفلسطيني؟!” من خلال تجربة فرديّة ذاتيّة للكاتب تتمثل بالعودة، وتحديدًا فيما يفرضه العنوان من مسافة بين فلسطين/الذاكرة وفلسطين/الرؤية، ولحظة وجود الفلسطيني في تلك المسافة، وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا المنولوج وموقع سؤال الهويّة المركزي منه لا ينجو منه أيّ فلسطيني، أو هكذا يجب، كما يقول الراحل إدوارد سعيد: “على كل فلسطيني أن يحكي حكايته” . ماذا يعني الجسر وهو الموقع الذي يبدأ منه السرد؟ بالعودة لإدوارد سعيد في دراسته عن “البدايات” في الأدب، في كتابه الذي يحمل نفس العنوان: “البدايات”، حيث يقول: “البداية ليست فقط نمط من الفعل، إنما هي أيضًا حالة ذهنيّة، سلوك، ووعي”(٢) الجسر كفضاء حدّي الجسر كمشهد بداية في السرد، يخبرنا ولو بشكل رجعي/استعادي عن وعي الذات الفلسطينيّة –ويمثلها مريد البرغوثي/السارد- بموقعها الذي منه ترى “فلسطين” متمثلةً في رام الله (كما يخبرنا العنوان)، بحدودها الوجوديّة، كفلسطيني منفي، يصبو إلى العودة. وعليه؛ فإن النفي هاهنا ليس فقط حالة فعليّة اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، ولكنها كذلك بشكل فردي وجودي للسارد/مريد. الجسر وهو عنوان الفصل الأول من النصّ، وهو أيضًا حلقة وصل بين عالمين اثنين. يمنح الجسر المار/ة عليه الحق في الانتقال من المعنى الأول للمعنى الثاني. وبالتالي يستلزم الجسر بذاته درجة (ما) من الانفصال بين عالمين، وثيمة هذا الانتقال تظل حاضرة على طول المونولوج الداخلي الخاص بالكاتب/السارد، فهو لم ينفصل تمامًا عن عالمه، ولم يصل تمامًا إلى فلسطين، ما يطرح اشكاليّة عميقة في صلب عنوان “رأيت رام الله”؛ ماذا رأى الكاتب/السارد/العائد؟ هل هي فعلًا رام الله؟ وهل عاد حقًا؟ وإلى أين عاد؟ ومن أين عاد؟ كل هذه الأسئلة تتمدد في النص لتلقي بظلالها على سؤال الهويّة؛ من هو الفلسطيني؟ ما هي فلسطين؟ هل عادت فلسطين؟ هل خرجنا منها؟ وهل عدنا إليها؟! باتجاهين: باتجاه رام الله/فلسطين وباتجاه المنفى. تحيلنا هذه البداية، وموقع الجسر فيها، إلى موقع الذات الفلسطينية عندما تمارس رؤيتها إلى “فلسطين”، وإلى سياسات النظر والرؤية، ليظل الجسر حالة حاضرة في تأملنا لفلسطينيتنا وذواتنا، بقدر تأملنا لفلسطين كموضوعة. الجسر مشهد تخوميٌ بين عالميّن، يدفع الكاتب وهو حبيس هذا المشهد/الجسر بشكل متجاوز، وأعني مشهد التخوم تحديدًا، كما سنرى في الآتي من النص. بمعنى آخر الكاتب/السارد/الفلسطيني/العائد لم يخرج تمامًا من فلسطين، ولم يعد إليها تمامًا، وينطبق الأمر على المنفى والشتات، فالفلسطيني لم يخرج تمامًا من منفاه، ولم يصل إلى وطنه تمامًا. يقول مريد/السارد/الكاتب/العائد/الفلسطيني: “الغريب هو الشخص الذي يجدد تصريح إقامته. هو الذي يملأ النماذج ويشتري الدمغات والطوابع. هو الذي عليه أن يقدم البراهين والإثباتات.”(ص7) أي أن “الغريب” –وحتى قبل صعوده الجسر- هو دائمًا بحاجة إلى إثبات وأدلة، أي أن حالة تحققه ووجوده مشكوك فيها بقدر ما هي أكيدة غُربته، وهل ستنتهي غربته برؤية رام الله/فلسطين؟! لعل الغربة للفلسطيني تتأتى من كون هويته وأناه هي حالة ثقافيّة ووجودية، مساحة التأويل فيها تسمح بشكلٍ ما بدرجة من درجات التماهي مع قيم أساسية كالعدالة، بما لا يجب أن تظل به حبيسة الإدراك النيوليبرالي والعولمة، التي أثبتت كل الحلول السياسية التي انبثقت من هذا الإدراك فشلها في امتحان العدالة والإنسانية. المجتمع الفلسطيني لا تجمعه وحدة جغرافيّة سياسية واحدة، ذات قاعدة اقتصاديّة اجتماعيّة مركزية منتجة، بل ثقافة “فلسطين” هي التي تجمعه، فمنذ النكبة 1948، تميَّز المجتمع الفلسطيني بكونه مجزأً؛ كل جزءٍ من هذا المجتمع محكوم بموقعه من السياق والصراع الاستعماري، وكل جزءٍ مرتبطٍ بدرجة ما ببنىً اجتماعيّة، واقتصاديّة مختلفه مع سياقه (الاحتلال/المنافي/مناطق الحكم الذاتي الفلسطينية المحتلة). كما أنَّ أغلب هذه الأجزاء تميّزت بكونها تعيش على هوامش البنى الاجتماعية السائدة في أماكن وجودها. لذا يغدو الفلسطيني دائمًا غريبًا، بدرجة ما أو بأخرى، حبيس جسرٍ ما على الدوام. وبالعودة للنص، يشير السارد إلى الغربة حتى عن الإنساني في بوتقة المنفى، فيشير للغريب بأنه “هو الذي يسألونه دائمًا: “من وين الأخ؟” أو يسألونه “وهل الصيف عندكم حار؟” لا تعنيه التفاصيل الصغيرة في شؤون القوم أو سياساتهم الداخليّة، ولكنه أول من تقع عليه عواقبها. قد لا يفرحه ما يفرحهم لكنه يخاف عندما يخافون. هو دائمًا العنصر المندس في المظاهرة إذا تظاهروا، حتى لو لم يغادر بيته ذلك اليوم”. الجسر بالنسبة للسارد هو حالة مكانيّة تضعه على الأكيد من وجوده في مقابل الغريب القلق منه، بمعنى أنها تمثل له خروجه من مكانه الذي يرفضه لغربته عنه وفيه، إلى مكانه الذي يجب أن يعود إليه، ولذا نستطيع تفهم الإشارات المتكررة للسارد عن “طقطقة الخشب على الجسر” بأنها صوت الواقعيّة اللاواعيّة في مونولوج السارد، وهذه الواقعية لم يعِ بها السارد إلا في نهاية السرد، عندما تبدى له على طول الأحداث أن رام الله التي “رآها” ليست هي رام الله التي خرج منها، وبالتالي يتحرك السؤال الثقيل على الهويّة الفلسطينية: ما هي فلسطين التي خرج منها الفلسطيني؟ وماهي تلك التي سيعود إليها إن عاد يومًا؟! على الجسر يتبدى السؤال الواعي والأهم على طول المونولوج السردي، وهو سؤال الهويّة باعتباره المركزي في نظرنا، حين يقول السارد: “ما هي استثنائيّتها لو لم نكن قد فقدناها؟! هي أرض كالأرض”(ص11). إنّ ما يُكثف الجانب القمعي والمهيمن في الهويّة الفلسطينيّة بما يحولها لمنظومة أبوية للمعاني؛ هو أن تجبر كل أفرادها على منطق أحاديٍّ بطوليٍّ ودرامي للهويّة. ليس الإنساني فينا وحده، إنما التراجيدي، هو ما يدفع الهويّة إلى حدودها العنيفة بأن تفترض في كل فلسطيني بطلًا رومانسيًا غنائيًا ما، قبل أن يكون إنسانًا مجردًا ذا هموم في المعاش اليومي. وليست تلك المشكلة الوحيدة في هذه المنظومة الهوياتيّة العنيفة، إنما ماتستلزمه تلك البنيّة الهوياتيّة الأحادية من وجود للاحتلال، أي أنها تجعل وجود الفلسطيني الهويّاتي يبدأ حصرًا من الاحتلال وليس من الإنسان، فتبدأ الذاكرة والوجود والتجربة والقيمة والمعنى من “وجود” الإسرائيلي، بلفظ آخر؛ تبدأ حكاية الوجود الفلسطيني من ظهور الاحتلال في ظله. يقول السارد: “نحن لا نرفع لها الأغنيات إلا لكي نتذكر الإهانة المتجسدة في انتزاعها منّا. الإهانة تنغص حياة المُهانين. نشيدنا ليس للقداسة السالفة. بل لجدارتنا الراهنة، فاستمرار الاحتلال يُشكل تكذيبًا يوميًا لهذه الجدارة.”(ص11)، لكن الجدارة تبدأ من الإنسان وليس من الاحتلال. فلسطين الإجابة لو كانت نصًا سرديًا مكتوبًا، لا يجب أن تقع ضحية “فتنة الخالق بالمخلوق”(ص12)، لا يجب أن نكون فلسطينين لأن الاحتلال هو ما يحدد معنى فلسطينيتنا ومداها، ومعناها. الجسر في الفصل الأول وفي بداية النص، يمثل حالة الانتقال، أو البينية، بكل انفصالها عن الشقين الوجوديين على طرفي الهوية، ولكنه كذلك في وجه من الوجوه يمثل حالة من الانتظار، الانتظار ريثما ننتقل من حال إلى حال. لذا ثمة مرآوية ما، ما بين حدثين هووين(٢) اثنين: الأول عودة السارد إلى فلسطين من منفاه، وثانيًا قدرة الشاعر مريد على الكتابة، وكأن الكتابة باعتبارها حالة خلق وإيجاد، تساوي بين فلسطين المكتوبة والشعر، يقول الكاتب: “قلق الانتظار ينعكس قلقًا على النصوص. قبل النشر مباشرة أفقد الحماس وأتشكك في قيمة النصّ الذي يوشك على الإفلات من سيطرتي. أحب القصيدة وهي تتخلق بين أصابعي وتتشكل صورة بعد صورة، حرفًا بعد حرف. بعد ذلك يبدأ الخوف ويهرب اليقين. تنتهي عندي تلك اللحظة الراضية التي يسمونها “فتنة الخالق بالمخلوق””. هل الفلسطيني بحاجة لأن يتخلص من فتنة فلسطين ليتمكن من معايشة فقدها؟! أو بلفظ آخر، هل مجازية فلسطين المحتلة، باتت سجننا كفلسطينيين، وبتنا نحن بحاجة إلى مجاز آخر يخرجنا من المجاز الأول، لنتمكن من “رؤية” فلسطين؟ تقودنا تلك الفتنة متى تخلصنا منها -وهو ما يفعله الكاتب على طول النص- إلى مواجهة واقع القول بأن فلسطين من الخارج أجمل كثيرًا مما هي من الداخل. يتساءل السارد بعد هزيمة حزيران 67: “تُرى هلى انهزم العرب وضاعت فلسطين لأنني كتبت الشعر؟ ضحكنا، ولم نضحك. أغادر الغرفة ثانيةً. أخرج لأتمشى في المساحة القليلة بينها وبين النهر. أتأمل المشهد. لم يكن لديّ ما أفعله سوى التأمل”(ص13). التخوم، تمنح الذات فرصة تأمل هويّتها، هنا على الجسر، وفي غرفة الانتظار يتأمل السارد هويّته، وفلسطينيته بين حدّين اثنين: الوطن والمنفى، هنا يمكنه أن ينظر أقرب ما يكون للعالم من فلسطين، وأن ينظر إلى فلسطين من العالم، كيف ستبدو له حينها؟ في تأمل هذه اللحظة السرديّة، وجبت الإشارة إلى إحدى أهم أدوات التحليل السردي وهي “التبئير”؛ وهو مصطلح استخدمه جيرار جينيت كبديل لمصطلحات سرديّة كثيرة مثل “المنظور”، “وجهة النظر” و”الحقل” ومعناه أن الوقائع والأحداث والشخصيّات لا تُقدم لنا في “ذاتها” وبصورة مباشرة، بل من منظور شخصيّة معينة أو أكثر، كما أن البؤرة التي يمر من خلالها كل شيء، ليست ذاتًا مفردة فحسب، بل قد تكون ذاتًا جماعيّة كذلك، وهو ما يمكننا إطلاقه على علاقة السارد الفردية كذات فلسطينيّة بالذات الجماعية الفلسطينية ككل؛ فرام الله باعتبارها كيانًا رمزيًا وليست مجرد مدينة عابرة، فموضعتها هدفًا للرؤية بالنسبة للسارد الفلسطيني، يجعلها على مستوى رؤية فلسطين ككل، وبالتالي فهذه الرؤية كواقع يشكل صورة ومعنى للذات الفلسطينيّة تتشكل زمنيًا من لحظة الفقدان الأول الناتج عن نكبة 1948، إلى كل الأزمنة اللاحقة (إلى يومنا هذا)، وكل تلك الأزمنة السردية للذات الفلسطينية جمعيّا وفرديًا تقوم على تكرار “لحظة الفقدان الأولى”، فنرى مثلًا أنّ بنيّة السرد الفلسطينيّة هي على الشكل الآتي: “كان لنا وطن، في لحظة زمنية (توجت بـ1948) فقدنا فيها الوطن”، أي أن السرد الفلسطيني هو حركة بين الشيء” (فلسطين/البيت/الشجرة/الأرض/…إلخ) الذي تأثر بالحدث، وفقدان هذا “الشيء”، والتناقض الديالكتيكي الأساس في هذا السرد هو أن شكل الفقدان لم يتم حله بعد، وهو ما يعبر عنه بالخط ذو اللون الأحمر في الشكل التوضيحي التالي: ولكن عندما يتم طرح السؤال الفلسطيني، من خلال منظومات حداثيّة معولمة مثل: السياسة وتاريخانية الدولة الحديثة (في نموذجها الممأسس غربيًا وليس المجتمعي) جعلت الحركة السرديّة الفلسطينية المتكررة بين حدث الفقدان والحل (المفترض بحل الفقدان)، والتي توجت بأوسلو كحدث مفصلي للذات الفلسطينية الجماعيّة، قد تعرضت إلى تحوّل أساسي مفاده: أن الشيء الفلسطيني أصبح “فقدان الشيء”، بمعنى أن الفلسطيني فقد (من خلال أوسلو) إحساسه بـ”فقدان الشيء” الفلسطيني، في حين أن بنيّة النظام الاستعماري ظلت كما هي. بكلمات أخرى، فشل مسعى استعادة ما فقده الفلسطيني، فلم يعد يحتمل “حمل” الفقدان ذاته فأجهضه، وبذلك خرج الفلسطيني وهويته من التاريخ إلى الأسطورة، وحالة فقدان الفقدان هذه لا تؤدي إلى عودة سويّة للتاريخ، بل تؤدي إلى الوقوف فيه ناظرًا إليه من خارجه، ولذا يقول السارد في النص (ص11): “نشيدان ليس للقداسة السالفة، بل لجدارتنا الراهنة. فاستمرار الاحتلال يُشكل تكذيبًا يوميًا لهذه الجدارة”. وبالتالي يغيب الخط الأحمر الزمني الواصل بين الحدث وحل المسألة، كما في الشكل التالي: ويغدو حينها حل المسألة الفلسطينيّة ليس مقابلًا ولا إجابة عن “انطلاق الحدث”: الفقدان، وهو ما انعكس على طول النص، بأن حالة الغربة التي يعاني منها السارد العائد، جعلت “رؤية” رام الله (حل المسألة)، ليست مرادفًا لرؤية فلسطين (انطلاق الحدث/الطرد/النفي). أتراه هذا ما أسس لحيز من الغياب والغربة في الهويّة الفلسطينية؟! هذا الانقطاع في العلاقة القيميّة (كالعدل والحق والحرية وحق تقرير المصير وغير ذلك) بين “انطلاق الحدث” و”حل المسألة”، يتبدى واضحًا في قول السارد : “ما مصدر هذه الغصّة الصغيرة في البال، وأنا هنا في داخل الحلم ذاته؟ إنني لم “أعد” بالضبط. عدنا للسياسة إذًا.”(ص53) وهذا الانقطاع يتبدى في المعاش اليومي للفلسطيني، إذ يقول السارد: “مع التبعثر الجغرافي المتكرر إثر الحرب، لم تستطع الوالدة الاحتفاظ بطقم الشاي التاريخي”، وفي (ص54): “تساؤلك عن السبب في أنّ الصمت، حتى الصمت على المقابر يكون مبلولًا. السياسة هي عدد فناجين القهوة على المائدة.”(ص57) وفي موضعٍ آخر: “نجحت إسرائيل في نزع القداسة عن قضية فلسطين، لتتحول، كما هي الآن، إلى مجرد “إجراءات” و”جداول زمنيّة” لا يحترمها عادة إلا الطرف الأضعف في الصراع.”(ص74) يتأثر الوجود الفلسطيني كذات جماعية وفردية بالانقطاع في “انطلاق الحدث” وهو فقدان الوطن وحل المسألة الفلسطينية حلًا يعيد هذا الوطن وينهي حالة الفقدان للتمكن الذات الفلسطينية من تكوين ذاتها وآخرها بشكل متزن، ويتضح ذلك من خلال الأشكال التالية: مايعني بشكل ما أو بآخر أن المحاولات المتتالية لتطبيع وتطويع حالة الفقدان ضمن حلول غير عادلة ولا أخلاقية ولا تعيد الوطن المفقود لدى الفلسطيني يتم تعويضه من خلال أسطرة الوجود والطبيعة الفلسطينيّة، وبالتالي تغدو المدينة (باعتبارها تكثيفًا للمكان الفلسطيني المفقود هاهنا) جزءًا رمزيًا لن يتحقق، وواقعًا في الجزء المفقود، واستعادته لا تتم إلا بالرمز والخيال لا بالواقع، وبالذات أن سردية الخروج/الاقتلاع الفلسطيني، حادثة في القرية كمكان بؤري في الذاكرة الجمعية. الأفعى (و) الهوية في الصفحة التاسعة عشر يقول السارد: “هل في هذا العالم كله بلد واحد يحار الناس في تسميته هكذا؟ في المرة السابقة كنت واضحًا والأمور كانت واضحة. الآن أنا غامض ملتبس والأمور كلها غامضة ملتبسة. هذا الجندي ذو القبعة ليس غامضًا على الإطلاق. على الأقلّ بندقيته شديدة اللمعان. بندقيته هي تاريخي الشخصيّ. هي تاريخ غربتي. بندقيّته هي التي أخذت منا أرض القصيدة، وتركت لنا قصيدة الأرض. في قبضته تراب. وفي قبضتنا سراب.”(ص19) إذا توقفنا عند هذا الحد من السرد، ظهرت لنا مشكلة سرديّة تتعلق بقمع ذات “التابع” (وهنا نستعير من غيتاري سبيفاك مصطلحها “التابع” عن المستعمَر/المضطهَد من مقالتها بعنوان “هل بمقدور التابع أن يتكلم؟!” (1988)) وحقها في السرد وامتلاك ذاكرة خاصة بها. وبالذات إذا كانت “بندقيّة” الجندي هي تاريخ الفلسطيني الشخصي، فليس الفلسطيني غامضاً، كما ترى السطور أعلاه إلا إذا موضع نفسه في بندقيّة الإسرائيلي. بمعنى آخر، غموض الفلسطيني المدعى هو ترادف استحواذ البندقية “على التاريخ الشخصي” للفلسطيني، أي أن من يمنح وضوح الفلسطيني ويمنعه هو بندقية الاحتلال، ما ينزع عن الفلسطيني حقه في السرد وفي تاريخه. إلا أن الكاتب/السارد يكمل في نفس الموضع، ويقول: “لكنه (ويقصد الجندي الإسرائيلي: الكاتب) ملتبس من ناحيةٍ أخرى، هل جاء أبواه من ساخسن هاوزن أم من داخاو؟ أم أنه مستوطن جاء حديثًا من بروكلين؟ وسط أوروبا شمال إفريقيا؟ أمريكا اللاتينية؟ هل هو منشق روسي مهاجر؟ هل ولد هنا ووجد نفسه دون أن يتأمل لماذا هو هنا؟ (…) هل هناك من امتحن إنسانيته الفرديّة؟ إنسانيته هو بالذات؟ أعلم كل شيء عن لا إنسانية وظيفته. إنه جندي احتلال.”(ص19) ثمة تماهٍ هاهنا يمنح الكاتب أو ينتزع به الكاتب حقه في السؤال وامتلاك المصير: فهو يتحدث عن ابنه في نفس الصفحة ويقول: “المرة السابقة لم يكن أحد يجادلني في حقي في رام الله، الآن أتساءل عن دوري في حفظ حقه في رؤيتها. هل سأخرجه من سجلات اللاجئين والنازحين وهو لم يلجأ ولم ينزح وكل مافعله أنه ولد في الغربة؟”(ص19) هذا التماهي يطرح سؤال الوجود والإنسانية على الفلسطيني والإسرائيلي سواءً بسواء، حيث أنّ من أهم ديناميات التي انبنت عليها الحداثة، هي أنها “لحظة أنا” لا تقوم إلا بآخرويّتها اللانهائيّة في الأنا؛ وقد ابتلعت تلك الديناميّة كل أنماط السرديّات، حتى الدينيّة منها -على سبيل المثال- جاعلة من آدم و/أو الله آخرًا لإبليس، والعكس كذلك. وعليه فإن أي محاولة لسبر أغوار الذات/الأنا الحداثيّة لا تكون من دون الاصطدام بتمثلات لا نهائيّة للآخر داخل الأنا؛ والمعرفة -الحداثيّة- ليست استثناءً لهذه السيرورة، بل هي إنتاج وإعادة إنتاج لهذه الثنائيّة، ثنائيّة الأنا والآخر، وما ينتج عنها من أنماط لإدراك الواقع المعاش والمتخيَّل، إنتاجًا واستهلاكًا، ومن هؤلاء مفهوم “الهويّة” باعتباره نتاجًا حداثيًا. ويغدو السؤال أساسيًا: من أين يأتي الآخر الحاضر أبدًا في الأنا/الذات، ومن أين يبدأ هذا الآخر وإلى أين ينتهي؟ وهل يمكن أن تقوم الذات من دون آخر، بكل ما تحمله تلك الثنائية من عنف تفسيري وإدراكي؟ هذا السؤال الهوياتي لا ينجو من المكان؛ يقول الكاتب: “في هذه الغرفة التي هي جسر بين عالمين”(ص21) وقوله: “أقارن بين الملصقات في مكتب غسّان في بيروت (ويقصد “غسّان كنفاني”: الكاتب). عالمان متناقضان: في عالم غسّان متسع لأشعار نيرودا، ومقتطفات أميلكار كابرال، وبيريه لينين وبصيرة فرانز فانون والألوان الشخصية التي يحاول بها الروائي أن يرسم الحلم، بالكحلي والمشمشي والبرتقالي وبما يقترحه قوس قزح واسع على سماءٍ ضيقة كابية تنذر بالخسران والويل. أمّا هنا؟! أنظر إلى الجدران وإلى الصور. إنها مناظر من بلادي. لكن سياقها ومعنى وجودها في هذا المكان على بوابة الحدود المحرمة كان عدوانيًا.”(ص22) لو افترضنا مجازيًا أن تلك الأماكن هي هويات، أو تمظهرات مكانية للهوية، باعتبار أن الفكرة، أي فكرة، والهوية فكرة، بحاجة لتمظهر مكاني يمكن للجسد أن يتحرك فيه(٣). ألا يجعل ذلك من اتساع الهوية وانفتاحها على التأويل فخًا قد يتسع للذات والآخر معًا دون ممارسة مسافة تأويلية بينهما؟ أليست عناصر هوية الفلسطيني تتقاطع كثيرًا مع ما يمكن للإسرائيلي (وبالذات الجيل الثالث المولود في فلسطين المحتلة) ادعاءه من عناصر؟ أيمكن أن تكون الهويّة هي الفخ الذي وقع فيه محمود درويش والإسرائيلي معًا في صديقته “سيناريو جاهز”، وأن تلك الأفعى التي هددتهما هي هويتهما المشتركة؟ أو هكذا تنفث لهما؟! الفقدان كمعرفة وقيد الفلسطيني يعيش في المؤقت وهو الوجه الآخر للفقدان، فـ”فلسطين” مكان وزمان في الهوية الفلسطينية هي برسم المؤقت، فثمة عودة ما لها، لكن من أين؟ وإلى أين؟ ومتى ومن أيّ زمن إلى أيّ زمن؟ “تذكرت قصر المسافات عمومًا بين كل الأماكن في فلسطين”(ص34)، لكن ما الذي فعلته الهويّة بالمسافات؟ ما الذي فعلته الهويّة بالأماكن؟ فبين تناقضين يقع المكان/فلسطين، بين الذاكرة للمنفي المطرود منها في 1948 (لحظة الفقدان) وواقع رؤيته لرام الله؛ يقول السارد: “كنت أقول لزملائي وزميلاتي المصريين في الجامعة أن فلسطين خضراء مغطاة بالأشجار والأعشاب والزهور البريّة، ما هذه التلال؟ جيريّة كالحة وجرداء! هل كنت أكذب على الناس آنذاك؟! أم أن إسرائيل غيّرت الطريق الذي تسلكه سيارات الجسر وحولته إلى هذا الطريق الكالح الذي لا أتذكر أنني سلكته في سنوات الصبا؟ هل قدمتُ للغرباء صورة مثالية عن فلسطين بسبب ضياعها؟”(ص35) حوار الذاكرة هو جزء أساسي من استراتيجيات مواجهة الغربة أو/و الاغتراب، ولكنها أيضًا جزء أساسي من سياسات الهوية. يجادل جان لوك بأن الهوية تنبني على الذاكرة، وأن غياب الذاكرة كمكون والتذكر كفعل يغير من الهوية، ما يسوقنا إلى القول بأن انحباس فلسطين في زمنية/لحظة الفقدان (نكبة 1948) سيؤثر على الهوية ويجعلها حبيسة نفس اللحظة، أو أن يقلل فعاليّتها فيما بعد ولنا في أحداث حرائق الجليل والكرمل خير مثال، عن عطابة الهوية التي تتأمل فلسطين المكان والزمان من خلال لحظة 1948 دون أن تجعلها لحظة مستمرة حتى زمنية كتابة هذه السطور. وبالتالي فثمة ذاكرة فلسطينية ما في فلسطين الآن وهناك، ولعل هذا ما غاب عن الكاتب/السارد مريد لأن ذاكرته الشخصيّة قد توقفت في لحظة النكبة، ولكن الذاكرة الجمعية الفلسطينية لم تتوقف هناك، ما يعطي الهوية فرصة الانفتاح على تراكبية الذاكرة الجمعية: ذاكرة الشتات، ذاكرة فلسطينيي الداخل المحتل، وذاكرة ما بين 1948 – 1967، وذاكرة ما بعد 1967، وذاكرة ما بعد أوسلو إلى الآن. عندما طلب نوحٌ من ابنه: أن تعال معي فالطوفان آتٍ، رفض الابن والتجأ إلى أعالي الجبال، ظنًا منه أن لا طوفان يمكن أن يمسَّه هناك. ببساطة، اتبع الابن صوت العقل لا صوت المعجزة. كما تمسك فرعون بأن العصا عصا، ولا يمكن أن تكون مادة حيةً كأفعى وأن تتغير طبائعها على غير تغير خواصها الماديّة، هذا هو صوت العقل؛ الشك، المعاينة، التساؤل والقياس فالنتيجة. فإذا كانت المعجزة هي نوع من المجاز الذي يفوق العقل في الطريق للإيمان، فمن هنا اضطربت علاقة الإيمان بالعقل، وهنا أيضًا تكمن الحاجة إلى “التأويل السردي” ليتوافق العقل مع الإيمان (ولو) قليلًا. ففي السرد (والدينيّ منه تحديدًا) ثمة فُرجاتٌ بيضاء تُترك للمتلقي ليملأها، دون أن تحكم عليه سماء ولا سارد ولا نصٌ -أو هكذا يجب، حتى وإن “قَتَلَ الكاتب”- ولا أن يهجره العقل كليةً، تلك الفرجات هي فرجات تتكثف فيها سُحب التأويل وإمكاناته، بقدر ما ينفتح على الأسئلة وتنفتح الأسئلة عليه، ليغدو السرد عقلانيًا وإيمانيًا بقدرٍ ما، فلا طمس العقل حكمٌ، ولا إلغاء المجاز والإعجاز بتأويل. ثمة “قمع سردي” (ما) وقع على نوح، حينما لم يسأله السرد –وبالتالي نحن- عن ابنه، ألم يتألم لموته؟ ألم يحزن عليه؟! ألم يكن أحدنا ليضحك لو قيل له أن عصا قتلت تنينًا ونامت بجانب النبي ثم أمطرت سماءً إلى أن تفوقت على غيرها بأن صارت حيةً لتدل على إله فوق سماءٍ وعقل فوق مسرح الفرعون (راجع/ي “مجالس الأنبياء” للثعالبي)؟! في هذه الفرجات البيضاء يكمن اشتباك التأويلِ والعقلِ معًا في كل ما يحدث لنا. هنا فقط وفي تلك الفُرجات يمكننا أن نكون عقلانيين ومؤمنين وواقعيين قدر الإمكان، دون أن نفقد إنسانيَّتنا وأبوَّتنا وبنوَّتنا وبلادنا بل وحتى إيماننا، وكل ما نحن عليه، ودون أن تنهار جماليّة السرد. حينما هبّت على فلسطين ريح سموم ولهب، كانت للبعض مثل عقابٍ ربّانيّ، كطوفان نوح لكن من نارٍ ولهب، ذا لبوسٍ سماويّ، ففرح وتغنى لها باسم المقاومة. وغيرهم قال أنها بلادنا فلسطين تحترق، وأسلف آخرون أن ما يحترق هو ظاهر الأرض الاستعماريّ الممأسس (وهو كذلك، بوجهٍ ما!) من غابات وغيره واستحضروا لذلك تاريخ الاستعمار الزراعي للاحتلال، وهو ما دفع البعض للقول: فلتحترق بمن عليها وما عليها، وسنزرعها ثانيًة حين نحررها، حتى أنّ بعض الصحف (جريدة الأخبار اللبنانيّة)(٤) وعلى صفحتها الأولى قد اعتبرت تلك الحرائق “بروفا الجحيم”، متناسين أن تلك البلاد بلادنا، وأننا لا نزال هناك، كما كان ابن نوح وقت الطوفان! كلٌ من هؤلاء تعامل مع “البلاد” ضمن ثنائية حادة للغاية وأحاديّة البُعد ضمن ثنائيات سياسية خطابية، لدرجة الاختزال، والتي تقوم على: مُستعمِر/مُحتل ومستعمَر/مُحتل، وهي ثنائية لا نشكك فيها للحظة، إلا أنها لا تختلف كثيرًا في حديَّتها عن ثنائية: مؤمن وكافر، تلك الثنائيّة الحادة التي انبنى عليها السرد الديني/التوحيدي واستمد منها فعاليته، في تعامله مع ذاته وآخره. ما يخيف في الأمر أن هذه الفعالية على أرض الواقع، تجعل من أتباعها محض عميان عن الواقع وتفاصيل المواجهة مع الآخر /المحتل ومع الذات الفلسطينية، معًا، إلى درجة أنهم بحاجة لتفسير ظاهرة الاحتلال بما هو خارجها: السرد الديني المعجز وعصر النبوّة، والحرائق ليست معجزة ولا الفلسطينيون أنبياء! ولذا علينا أن نفككها ونعيد تركيبها ضمن مساحة تفسيرية تتخطى الثنائيات، من دون الوقوع ضحيةً لتلك الحدّة والاختزال، ناهيكم/ن، عن حاجتنا لجعل أوطاننا فكرة واقعيّة، ومجازية، غير مقيدة بالسياسي، بمعناه البراغماتي الإجرائي بالمنطق السياسي هو الحكم، وبنية السلطة، في شكلها الأبسط: التملك. تلك المقولات باعتباطيّتها، تشي بمشكلة إدراكيّة عميقة يعاني منها العقل الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال على مستويات الوجود الفلسطيني ككل: في فلسطين المحتلة، وفي المنافي واللجوء، فمن يصلي لـ”بروفا الجحيم” ومن على استعداد أن يحرق الأرض بمن عليها وما عليها من أجل أن “يعيد زراعتها من جديد حينما يحررها”(٥)(!!)، هو لا يزال متوقفًا أمام لحظة 1948 (زمانيًّا) إلا أنه كذلك خارج الجغرافيا الفلسطينية (مكانيًّا) وسيرورتها، تلك اللحظة التي وإن أسست الوعي الفلسطيني وإدراكه لهويته، إلا أنها أيضًا إن لم تُدار بشكل واعٍ باتت معضلة وجوديّة ذاتيًة أخرى، حتى وإن زال الاحتلال سنظل نعاني من تبعاتها. وهذا في ذاته يموضع/يسجن الفلسطيني حينها على بعد 70 عامًا قبل الآن، في تعامله مع زمانه ومكانه الواقعيِّن تحت الاحتلال الآن، وبالتالي فالمواجهة ليست منطقيّة ولا متحققة بأي حالٍ من الأحوال، فالنكبة التي لا تزال مستمرة إلى الآن، هي مكثفة لدى الفلسطيني في زمنيّة 1948 حصرًا، ولا زمن بعدها، ولا مكان بعدها. ولو سُئل الفلسطيني/ة في الداخل المحتل والفلسطيني/ة في الشتات و المنفى، عن كيف يبدو العالم من داخل فلسطين (للأول/للأولى)، وكيف تبدو فلسطين من خارجها (للثاني/للثانية)، لما أتت أيُّ الإجابتين منطقيًة و/أو واقعيّة، وما كانت فلسطينيّة كما هي فلسطين الآن وهنا. فلسطين ليست محض معجزة، ننبهر أمامها ونترك لقوى متجاوزة متعالية حمايتها وتفسيرها وتحريرها، منطق الديني في تفسير الظواهر من خارجها هو منطق أثبت عجزه النقدي والواقعي، وقد تخطاه العقل الإنساني منذ قرون، لذا فما من ردٍ على أن الحرائق هي انتقام من لدن عزيز حكيم، إلا الضحك! هنا تتحول فلسطين إلى دين أو عقيدة، لسنا نحن من نملكها، بل قوة سماوية متجاوزة ومتعالية، لا تثبت إلا بمعجزة من السماء، خارجة عن العقل والمنطق والمادة والواقع والمواجهة، معجزة على وزن الطوفان والعصا. التخوم في الفصل الثاني من النص، والمعنوَن “هنا رام الله”، ارتأينا تسمية مغايرة له وهي: “التخوم”، حيث يمتد حضور فكرة التخوم في هذا الفصل أيضًا. يقول السارد: “يالها من بدايةٍ لاستئناف العلاقة بالوطن! ولماذا تداهمني السياسة هكذا؟ إن في رام الله والبيرة أشياء أخرى غير المستوطنات! (…) ما الذي يجعل فرحك يعتمد على المحاولة لا على التجلي؟ ألأنك تعرف أن هناك شيئًا غير مكتمل في المشهد كله؟ شيئًا ناقصًا في الوعد، وفي المتحقق من الوعد؟ ألأنك مثقل؟ ألأنك لم تألف الألفة بعد؟ هل أنت في الرقصة أن في الاعتذار عنها؟ أتعترض على المعزوفة أم على العازفين؟ الفرح تدريب وخبرة. ولا بد أن تتخذ الخطوة الأولى. رام الله لن تتخذها. رام الله متكيفة بما هي. مكتفية بما عاشته، القريب منها قريب، والبعيد عنها بعيد.”(ص43). الذات التي تمثلها رام الله (فلسطين) ذات تم إخراسها لحساب أنماط إدراكية مختلفة ومتشابكة، منها: أنماط الحداثة التي تمثلها الدولة الحديثة، التي أنتجتها أوسلو، وهو ما ينعكس على سكان رام الله وتحول هويتهم إلى هوية حداثيّة، تجعل من رام الله “المحررة” على نمط أوسلو مركزًا معياريًا للهوية المكانيّة، ومثال ذلك المفارقة بين الهويّة الفلسطينية الغزيّة والهوية الفلسطينية لرام الله والهوية الفلسطينية للمنافي، وموقع الذات الدولانية من كل منهما، ولعل تلك التقسيمات السياسية هي أولى ثمار أوسلو. أنماط جندرية، وهو ما نتج عن إخراس فلسطين/رام الله، واستحواذ حق السرد للذات المذكرة، وفي هذا السياق تحولت رام الله (وفلسطين ككل) إلى ذات منفعلة وليست فاعلة، وتحول الفلسطيني إلى (الـ) فاعل الوحيد، ما أدى إلى توزيع أدوار جندرية بين مؤنثة منفعلة ومذكرة فاعلة حصرًا، ولعل هذا ما نجده في فضاءات سردية كالشعر الحديث الذي طابق بين فلسطين الأنثى وفلسطين المرأة في المجتمع، وجعلها دائمًا في حاجة لذكر محرر وذكر فاعل، وجعل الأنثى نصًا منفعلًا لأثر وفعل الذات المذكرة للفلسطيني المقاوم، المناضل، العريس، المحرر وما إلى ذلك. فتحولت معايير النص السبعة (بحسب رولان بارت) والتي هي: التماسك الداخلي Cohesion، والاتساق Coherence، والقصد Intentionality، والقبول Acceptability، ومراعاة مقتضى الحال Situationality، والإخبار Informativity، والتناص Intertextuality إلى فضاءات منفعلة لحضور الذكر، وبالتالي تحكم الذكر في في موقع فلسطين كنص في الخطاب، وبالتالي تحكم في المستويات الخمس التداوليّة Pragmatic Levels له، وهي: المقاصد Intentions، الوظائف Functions، والسياق Context، والعلاقات Relations، وأخيرًا الإحالات Refrences، وهذا يتبدى واضحًا من استحواذ الذكر على منح المعنى والقيمة والفعل. وبالتالي تحولت رام الله وفلسطين إلى ذوات قيميّة سالبة، يمنحها الذكر القيم المناسبة لمقتضى فعله. في اللقاء الملتبس للفلسطيني ووطنه والذي يتحدث عنه مريد ويستحضر من خلاله صوت منيف، يقول: “لقاءٌ ملتبس. لا نعرف فيه من منا يعطي ومن منا يأخذ. كنت تقول ذلك للمرأة (المرأة مستمع منفعل على الأغلب: الكاتب) هذا حديث عن الحب. حسنًا. هاهي الدجاجات تستجيب للاستدراج التلقائي (هل هناك استدراك تلقائي؟!) ها أنت تقول خذوني إلى مدرستي. إلى شارع الإذاعة. إلى دار خالي أبو فخري. إلى عمارة اللفاتوي. خذوني إلى دار الحاجة إم إسماعيل، إلى منازل سكنتها وطرق مشيتها. ها أنت تستطيع أن تعود لتمشيَّها، ذلك مالم يستطعه “منيف” الراقد الآن في مقبرة في أطراف عمّان. موته ليس هو الذي منعه من العودة، بل مَنعُهُ من العودة هو الذي أماته فيما بعد”(ص44). حالة الالتباس هذه بين التخوم/على الجسر بين الذاكرة والخيال، وفي لقاء فلسطين، ومن بها، هي حالة سؤال فلسطيني هوياتي عن الذاكرة والواقع والخيال، فهنا الكاتب ينتقل من ذاكرته إلى خيال منيف، وتتداخل الفواصل بين ذاكرة مريد وواقعه من ناحية، وذاكرة وخيال منيف، ما يقودنا للسؤال: لو كان الأمر كما يصوره الفيلسوف بول ريكور إذ يقول: “إن النسيان نعيشه أولًا وبكل ما أوتينا كطعن في وثوقنا بالذاكرة. طعن، ضعف، نقص. إن الذاكرة بهذا الصدد، تحدد نفسها، على الأقل في الفترة الأولى، على أنها صراع ضد النسيان. (…) واجب الذاكرة الشهير عندنا يقال أنه حض على عدم النسيان. ولكن في الوقت عينه، وبالحركة العفوية عينها نبعد شبح ذاكرة لا تنسى أي شيء، بل إننا نعتبرها مخيفة (…) إن النسيان ليس إذن عدو الذاكرة من كل النواحي، وعلى الذاكرة أن تتفاوض مع النسيان كي تجد تلمسًا القياس الصحيح لتوازنها معه؟”(٦) ما الذي يحاول السارد قوله باستحضار ذاكرة الفقيد الذي لم يطأ فلسطين وبالتالي فهي الحالة المقابلة جدليًا للذاكرة ونعني النسيان منه إلى ذاكرة مُريد؟ ما الملتبس بين نسيان منيف وذاكرة مريد؟ وإذا استمر الديالكتيك إلى ذاكرة تميم، التي تتجاوز النسيان والذاكرة والخيال معاً فيما يتعلق بفلسطين (فهو لم يولد بها إنما في المنفى، ولم يرها كذلك)، فما هي هويته وموقع الذاكرة منه، وهذا هو سؤال الهوية للجيل الفلسطيني المولود في المنافي، ولماذا هذا الانفصام المركب بين كل تلك النسيانات والذاكرة؟ ألا يجعل ذلك من فلسطين كيانيّة اعتبارية ليست مادية؟ ألا تتكثف كل تلك النسيانات والذاكرات في لحظة مرآة لاكانيّة أمام الفلسطيني جاعلة من هويته على الدوام هدمًا وبناءً؟! من هذا الذي يراه الفلسطيني في مرآته؟ هل هو هذا الفلسطيني؟ “أطل من هذه النافذة التي تقع على بعد ثلاثين عامًا من العمر، وتسعة دواوين من الشعر، وعلى بعد العين عن دمعتها تحت صفصاف المقابر البعيدة. أطل من النافذة على مسعى العمر الوحيد الذي منحته لي أمي، ومسعى الذين غابوا إلى أقصى درجات الغياب وإلى عزاء النفس بـ”ولا تحسبنّ”. ولماذا في نافذة البهجة تداهمني ذاكرة المراثي؟ إنهم هنا. هل يطلون معي من النافذة؟”(ص46) عن أي نافذة يتحدث؟ هي تخوم أخرى لكن هذه المرة ليست بين الفلسطيني وآخره، ولا بين فلسطين والعالم/المنفى، ولكنها في ذاخل الفلسطيني وهويته، هي مرآته التي يرى فيها نفسه، وتنكسر عليها مفاهيم الحياة والموت: “إذا كان الأحياء يشيخون، فإن الشهداء يزدادون شبابًا.”(ص47) هذا الجزء الأول من البحث، لقراءة الجزء الثاني… هنا. والبحث كاملاً متوفر هنا بصيغة PDF. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post «غارقون بالضحك» لزياد خداش… احتمالات الضحك في رام الله next post السيسي يوجّه الجيش: حافظوا على أعلى درجات الاستعداد القتالي You may also like مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.