ثقافة و فنونعربي أن تكون ناقدا وسط حفلة صاخبة من القتلة by admin 3 يونيو، 2020 written by admin 3 يونيو، 2020 121 رمان الثقافية – مجلة ثقافية فلسطينية/ لونيس بن علي- ناقد من الجزائر/ “إنّ كلّ نقد حقيقي يحدث على شكل أزمة” بول دي مان / العمى والبصيرة في عام 1894 ألقى بول فاليري محاضرة في جامعة أكسفورد حول الموسيقى والأدب، ومما جاء فيها قوله: “لقد جئتكم بنبأ، من أكثر الأنباء إثارة للدهشة، لم يحدث مثله من قبل. فقد عبثوا بقوانين الشعر”. صرخة فاليري، التي فاجأت الإنجليز آنذاك، مازالت صالحة لتوصيف وضع أدبي مستجد، كما لو أنّ التاريخ يعيد نفسه. فإذا كان هناك من كان يعبث بقوانين الشعر، فالعبث امتدت نيرانه إلى حقل الرواية، والنقد نفسه لم يسلم منه. سأتحدث عن النقد، فمن العادة أن تُشبَّه الكتابة عن النقد بمحاولة إسماع صوت الناقد وسط حفلة صاخبة للقتلة. الصخب القائم اليوم، هو إلى حد كبير محاولة قتل الناقد، لكن هناك مشكلة عويصة تواجه القتلة: كيف يُمكن التخلّص من جثته؟ أوّلا، ما هو النقد؟ سأعتمد على تعريف بسيط أورده ريتشارد اوهمان: “النقد هو الكتابة أو الحديث الرسمي الذي يرغب الناس أن نقوم به حول الأدب”. التعريف على بساطته يقدم لنا عناصر مثيرة للنقاش. أولا: النقد خطاب رسمي، ثانيا: النقد خطاب حول الأدب (كلام على كلام)، ثالثا: النقد هو ما يرغب الناس معرفته حول الأدب. وأعتقد أنّ العنصر الثالث يفتح رواقا للتفكير سيفضي بنا إلى مسائل شائكة. والحقيقة أنّ السؤال الذي يتحاشاه الجميع ، عطفا على العنصر الثالث، هو: ما هو النص الجدير بالقراءة؟ ولأنّ النقد هو خطاب “رسمي” كما أشار اوهمان، فهذا يعني أن هناك نصوصا رسمية تُفرض على أساس أنها الجديرة بالقراءة، كما أن هناك طرقا رسمية للقراءة تلك التي تؤدي بالضرورة إلى “إرضاء” حاجة الناس. ولو أنّ استعمال لفظة الناس مُربكة جدا، وتقف على حبل مهتزّ. نعود إلى تساؤلنا أعلاه: من أين أتى كلّ هذا الحقد اتجاه الناقد؟ ما الذي فعله ليستحق الموت؟ ثم من هم هؤلاء الذين يخطّطون للتخلّص من حضوره؟ هناك علاقة اطرادية بين ازدياد عدد القرّاء وانحصار مساحة القراءة؛ قال رولان بارت: “أنا لم أكوِّن قارئاً […] لكنّي كوّنتُ القراءةَ”. هناك جملة خفية في كلام بارت، وأتصوّر أنّه يضع القارئ في درجة أقل من القراءة، لأنّ القارئ ما هو إلاّ أداة لها. ليست كلّ الأدوات فعّالة، أو بتعبير أدق، ليست كلّ الأدوات مُنتِجة. ما حدث الآن، أنّ القارئ الحقيقي هو الذي يُنتج القراءة، ونظرا لندرة هؤلاء القرّاء أصبحت القراءة هي الأخرى نادرة. لا يغرّنك إذا كثرة القرّاء، فكان من آثار هذه الحشود ثرثراتهم وصخبهم الذي غزا العالم الافتراضي اللامحدود، والذي صار يهدد المركز الذي كان يتمتع به النقاد، بوصفهم يُشكّلون نُخبا. إذ كان للنقاد مكانة مرموقة في الحياة الأدبية، وكانت مقالاتهم التي ينشرونها في مجلات عامة أو في صفحات الجرائد تحظى بالاهتمام والإقبال والاحترام، فهم كانوا لا يقيِّمون الأعمال الأدبية فقط، بل كانوا يحرصون على الذوق الفني العام. واليوم، وفي ظل سقوط قيمة الثقافة في الفضاء العمومي سقطت معها قيمة النقاد، فمنهم من احتمى خلف أسوار الجامعة، و منهم من صار ينشر باحتشام في صفحات ثقافية تقاوم العبث العام، وآخرون لاذوا إلى صمت جنائزي، مكتفين بلعق جراحهم النرجسية. لتستمر حفلة القتلة. لقد صعد نجم القراء في وقت أصبح النقاد كائنات ليلية تتخفّى في أماكن العتمة، وهؤلاء القراء صنعتهم أوهام “الدمقرطة” التي فرضتها بذكاء لا يخفي خبثه، وسائط التواصل الاجتماعي، فصرنا اليوم نرى عصابات من القرّاء تُلقي بالأحجار على الكُتّاب الكِبار، دون خجل، ودون شعور بالإثم. وكل يوم نرى إخلالا بموازين الذوق العام، كما نرى إضرارا بقيمة الأدب. وهنا نسمع بوضوح صرخة فاليري. لم يعد هناك وجود للقارئ الذي يتلذذ بالكلمات، وفي المقابل هناك قارئ يتلذذ بعثرات النصوص؛ الأول عاشق، والثاني سادي. القارئ اليوم يقرأ بمنظور الفراغ الذي يعاني منه؛ يقول هارولد بلوم: “فالدمار أو الفراغ الذي يرونه حين ينظرون إلى قصيدة شعر هو فراغ موجود في عيونهم هم”. يتحدث بلوم كيف أنّ القراء اليوم لا يُنتجون القراءة، بل يقومون بإسقاط انفعالاتهم النفسية، وغيضهم الدفين، واستيهاماتهم المُزمنة على النصوص. ظهر منذ سنوات كتاب بعنوان «موت الناقد» لرونان مكدونالد؛ عنوان كهذا في ذاته يدعو إلى قراءته بتمعن شديد، لأنّه يناقش ما يتعرّض له النقاد من تحرّشات مستمرة. حاول أن يفسِّر ما الذي يجعل صورة الناقد اليوم تتحوّل إلى صورة بائع ملابس قديمة أو مجرد قاطع تذاكر في حافلة؟ لقد أرجع السبب، وهناك أسباب كثيرة ذكرها، إلى “قوى الدمقرطة” التي كانت بدايتها في احتجاجات ربيع 1968، المعادية لجميع أشكال السُلط، بما في ذلك سلطة النقد الجامعي. والبعض الآخر أرجع مشكلة النقد إلى عدم انتباهه إلى الثقافة الجديدة الموجّهة أساسا للجماهير، فقد اُتّهم النقد بخدمة طبقة برجوازية من أساتذة الجامعة، الذين يمثلون الثقافة الرفيعة. ولتوضيح الأمر بأسلوب أبسط، فمشكلة النقد اليوم أنه يكتب عن شِعر محمود درويش ولا يكتب عن أغاني الشاب مامي، ويكتب عن الروايات الكلاسيكية ويهمل مثلا فن الرواية البوليسية، أو يهمل تحليل مسلسلات تلفزيونية تجارية. طرح كهذا يتهم الطابع الرجعي في النقد، وهو وضع حديث نسبيا، وقع بتعبير ماري برات كجزء من عملية الانزواء العام لثقافة النخبة بعيدا عن الثقافة الجماهيرية، إذ ساهمت الأكاديمية – التي أصبحت تهمة وليست امتيازا – في توسيع الهوة بين النخبة وذوق الجماهير المتعطشة إلى ثقافة استهلاكية مائعة. وداخل هذا الجو، بدا النقد شبه منعزل عن الحياة الاجتماعية. لكن إلى أي مدى يصلح هذا التحليل؟ غير أنّ الأمر صار أكثر تعقيدا، فالحديث عن موت الناقد، من وجهة نظر البعض، هو كلام سخيف، والسبب أنّ جميع القراء اليوم يقومون بدور النقاد، بل هو زمن تكاثر فيه النقاد دون رقيب، فمواقع التواصل الاجتماعي، ونوادي القراءة تعجّ بهم، والصخب الذي يثيره هؤلاء القراء هو ضد أن يكون الناقد مرجعاً. لنتأمّل المسألة من زاوية أخرى؛ لم يعد القارئ ناقدا، بل أصبح “مستهلكا” للمادة الثقافية التي تخاطب العواطف والغرائز، وقد ساهمت بعض المؤسسات الاقتصادية الكبرى في تشجيع القراء – المستهلكين على بُغض النقاد، فشركة في حجم أمازون، وضعت مبدأ للقرّاء: “كلّ شخص له رأيه، وكل رأي مساو في أهميته لرأي الآخر”. المشكلة تدور حول “كل”؛ فهي مُلتبسة، لكنها في الوقت نفسه جد واضحة. هي تلغي كلّ شيء، إذ يُمكن لأي قارئ أن يبول فوق روايات ماركيز، أو بروست، أو نجيب محفوظ، ويُعدّ ذاك رأيا نقديا. لقد منحت مثل هذه المؤسسات ذات الطابع الاحتكاري فرصة للقراء للتنفيس عن غيضهم دون رادع يخيفهم. فليس هناك ما هو أخطر من إقناع أي شخص أن له الحق أن يحاكم مسرحيات شكسبير حتى لو أنه لم يقرأها أصلا. وكما قال رونان ماكدونالد صاحب كتاب «موت الناقد»: “إنّ عالم المدونات يحتشد بالأشخاص العابسين المهوسين الذين يملكون الكثير من الوقت”. هناك تفصيل آخر ينبغي الإشارة إليه، لا أحد يزدري الناقد أكثر من المُبدعين. وإن كنتُ أشك في أن يصدر من مبدع حقيقي مثل هذا الازدراء. لماذا؟ سأحاول أن أكون واقعيا في هذه المسألة بالذات. لماذا يحتج المبدعون على عمل النقاد؟ المسألة لا تتعلق بمستوى ما يُكتب من نقد. أصلا، من مازال يقرأ كتابا نقديا اليوم؟ المسألة تُفسَّر من الناحية السيكولوجية البحتة. الذين يتهجّمون على النقاد يطالبون فقط بحقهم في الانتباه النقدي لنصوصهم، فأنت ناقد جيّد إذا كتبتَ عنهم، وستكون عظيما إذا كان نقدك مُبهجا، وستكون ناقدا سيئا إذا لم تكتب عن نصوصهم. المسألة بسيطة كما نلاحظ. لهذا فإنّ التهجّم على النقاد في وسائط التواصل الاجتماعي اتخذ هذا الشكل من التعبير النفسي عن الحاجة إلى الظهور، وإذا لم يحدث ذلك أصبح الناقد آثماً، توجّب رجمه. كما لو أنّ معيار الحكم ليس قراءة المنجز النقدي، بقدر ما هو اختبار لمدى قابلية الناقد للكتابة عن الجميع. لا يكون للسن هنا علاقة بهذا العطب النفسي، فالآفة بقدر ما تجدها مغروسة في نفسية الكتّاب الجدد، وأغلبهم مجرد مبتدئين لا مرجعية إبداعية لهم إلا في حالات قليلة، كما قد تجدها مستفحلة عند الكتّاب الذين لهم تراكم إبداعي لسنوات، وهنا الطامة الكبرى. لقد اختبرتُ شخصيا النوعين، وفي كل مرة أشعر أنّ علاقتهم بي تنتهي بمجرد كتابة مقال عنهم، فكأن صلاحيتي تنتهي بانتهاء الخدمة التي قدمتها لهم، أما الشيء الذي يصعب تفسيره أنه حتى لو لم تكتب عنهم فأنت متهم كذلك. الحقيقة أني لا أكتب لأرضي أيّا كان، أنا أكتب للتعريف بالتجارب الإبداعية. كما أنّي أكتب المقال النقدي الذي يفكك عناصر العمل دون الوقوع في إصدار أي حكم تقييمي مباشر. يبقى السؤال الذي يتجنبه الجميع: هل سألنا لماذا غاب النقد في ساحتنا الأدبية؟ لكن في المقابل: أليس النقد هو مرآة تعكس الواقع الأدبي في أي مجتمع؟ فإذا كان النقد متطورا فهذا يرجع إلى نضوج الساحة الأدبية وإلى ازدهار نصوصها وتياراتها الأدبية، فالأدب العظيم يُنتج نقدا عظيما. لقد تحدث المرحوم بختي بن عودة عن “قلق العثور”؛ كان يقصد القلق الذي يعيشه الناقد وهو يبحث عن العمل الأدبي المُنفلت، المتفجّر، المتخم بالرؤى الجديدة، الثائر على الأشكال والتقاليد؟ ففي هذا المستنقع البائس المليء بالنصوص الضحلة من أين لك بنقد قوي وناضج؟ سيكون النقد هنا رهين هشاشة الأدب الذي أصبح أرضا يدخلها من هبّ ودب، فبين عشية وضحاها، صار عدد الكتّاب يفوق عدد القراء أنفسهم، وهؤلاء على اختلافهم يظنون أنفسهم حالات إبداعية استثنائية. فإذا لم تكتب عنهم شكلوا عصابات للبحث عن ذلك الناقد لأجل قتله. لنقرأ تاريخ النقد وعلاقته بالحياة الأدبية؟ لكن من يملك الوقت اليوم لفعل ذلك؟ إنّ رهان النقد اليوم وسط حفلة القتلة أن ينجح في تجربة العبور، أي بتعبير رولان بارت تجربة “عبور الكتابة”، فأن تكون كاتبا، بصرف النظر عن نوعية الكتابة التي تقترفها لا يعني ادعاء لقيمة ما، أو أداء لوظيفة أوكلت إليك، بل يتعلق الأمر جوهريا، بمدى قدرتك على تجاوز أداتية اللغة، إلى عتبة أسمى وهي التعامل مع اللغة كمشكلة. هي أن تحوّل اللغة إلى شكل لتجديد علاقتنا بالعالم، أمّا أن تحوّلها إلى سهام مسمومة توظّف في حروب طائشة على نص أو على قضية داخل نص أو على سيرة كاتب، فأنت هنا تُلغي كل شيء. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “الموساد” والمهمات القذرة next post نُقصان على حافة التاريخ والترجمة… إسبانيا نموذجًا You may also like مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.