ثقافة و فنونعربي “الموت في البندقية” لتوماس مان… الوباء يسكن مدينة الجمال by admin 11 أبريل، 2020 written by admin 11 أبريل، 2020 136 أسئلة الجمال والإبداع على محكّ الكارثة اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب لو أجرى المرءُ استفتاءً بين أنماطٍ عديدةٍ من البشر حول المدينة التي يرونها الأجمل في العالم، من المؤكد أن معظم الإجابات ستذكر اسم مدينة البندقية، باعتبارها واحدة من المدن الخمس الأجمل في العالم. فهي، وبصرف النظر عن الروائح الكريهة التي تهبّ عليها بها الرياح أواخر فصل الصيف، آتيةً من الأعشاب البحرية التي تملأ مياهها البحرية، واصلةً إلى أقرب الأمكنة منها، مدينة في غاية الجمال، عمراناً وطوبوغرافية، واعتدال مناخ وامتلاء بالمتاحف الداخلية والخارجية. ومن هنا تغنّي كبار المبدعين بها، وحرص أي محبّ للسفر والجمال على زيارتها ولو مرة في حياته. فهل لهذا السبب يا تُرى جعل منها الكاتب الألماني توماس مان مسرح الأحداث الكئيبة والحزينة التي تشكّل موضوع واحدة من رواياته الأساسية، “الموت في البندقية”، هادفاً إلى أن يقيم ذلك التعارض القوي بين جمال المدينة وحيويتها والموت الذي يترصّدها في مجرى الرواية؟ ليس في هذا أدنى شكّ، خصوصاً إن تذكّرنا أن مان كتب هذه الرواية القصيرة في عام 1912، في فترة بالغة الكآبة من حياته، متأثراً فيها بموت الموسيقي غوستاف ماهلر، الذي سيبدو وجوده طاغياً في الرواية. لكن، الأهم من هذا أنّ تساؤلاته الفنية تبدو أكثر طغياناً فيها، مرتبطة بحقبة كان من الواضح خلالها أنّ الفن كله كـ”قيمة جمالية مطلقة” كان مطروحاً على السجال. فبالنسبة إلى مان كانت الخشية كبيرة من أن تهجم الحداثة غير المرتبطة بتلك القيمة، على الفنون مدمّرة جوهرها. ونعرف أنّ هذه التيمة في الرواية هي التي اجتذبت السينمائي الإيطالي لوكينو فيسكونتي إليها، فحوّلها إلى فيلم، يمكن اعتباره واحداً من أجمل أفلامه. لقاء منطقي حول مدينة الموت كان لقاءً منطقياً إذن بين رواية وفيلم حققهما مبدعان لم يكفّا عن نعي الجمال في أعمالهما. بل يمكن القول إن فيسكونتي كرّس القسم الأكبر من أفلامه الكبيرة قبل رحيله للتعبير عن ذلك النعي. وواضحٌ أنه عثر في رواية مان على ضالته، إذ أتاحت له أن يصوّر ببعد مرئي محمّل بالرعب، مدينة الجمال التي هي البندقية، وطالها الوباء وباتت مدينة للموت يغزوها بالتدريج، وبصورة خاصة، من خلال العدوى التي يصيب بها الشخصية المحورية في الفيلم، والرواية، آيشنباخ (الذي لعب دوره الإنجليزي ديرك بوغارد في أداء استثنائيّ). حسبنا في الحديث عن هذا الرعب في الفيلم أن نتذكّر ذلك المشهد، الذي لا يمكن نسيانه والذي نشاهد فيه آيشنباخ جالساً على كرسي فندقه في مواجهة شاطئ البحر يراقب بشغف، كما كانت حاله منذ مفتتح الرواية، الفتى تادزيو وهو يُهزم للمرة الأولى لاعباً مع رفاقه، بينما صبغة الشعر التي سوّد بها آيشنباخ شعره راحت تسيل على محيّاه وخدّيه تحت تأثير حرارته التي ترتفع بفعل إصابته بالوباء. إنها في الحقيقة واحدة من أكثر اللقطات رعباً في تاريخ السينما، واللقطة الأكثر دلالة على انتشار الوباء، متفوّقة في هذا على عشرات اللقطات الأخرى التي تصوّر في الفيلم التقاط العربات للموتى في الطرقات، ومشاهد المدينة الجميلة وقد أضحت بؤرة للموت، والشوارع وأقنية الماء وقد باتت أشبه بأفواه تلتهم كل حيّ. في الحقيقة، يمكن القول إن قوة الفيلم، بل حتى تفوّقه البصري على الرواية، إنما كمنا هنا، في ذلك البعد البصري الذي لا بدّ من القول إن الرواية في حدّ ذاتها ما كان ممكناً لها أن تعبّر عنه. هي في المقابل عبّرت، وربما بشكل أقوى بكثير، عن الموضوع الأساس الذي أراد توماس مان طرحه هنا، مستخدماً جمال البندقية مقابل قبح الموت فيها، كناية كما اعتاد أن يفعل كثرٌ من الكتّاب من قبله، وكما فعلوا من بعده. كتب توماس مان “الموت في البندقية” تحت تأثير مباشر من موت ماهلر، كما أشرنا قبل سطور، لكنه كتبها أيضاً وكما يبدو تحت تأثير ذلك السجال الذي كان مان خاضه في العام السابق لكتابته الرواية، مع الفيلسوف تيودور ليسنغ (1872 – 1933) من حول “جردة حساب الحداثة”، وهو كتاب انعطافي كان أصدره صمويل ليبنسكي في ذلك الحين. أسئلة الكاتب بعد لقاء غامض الشخصية الرئيسة في رواية “الموت في البندقية” إذن هي شخصية الكاتب لا الموسيقي كما في فيلم فيسكونتي، آيشنباخ، الذي كان يعيش مرحلة انتقالية من حياته، ونوعاً من إعادة نظر في أفكاره، فرضها عليه عبوره يوماً مقبرة مدينة ميونيخ، واضطراب تسبب له فيه لقاءٌ غامضٌ، فقرر أن يتوجّه ليمضي بعض الوقت في “أجمل مدينة في العالم”، البندقية. وكانت غايته المُعلنة على الأقل، أن يرتاح قليلاً من الشهرة التي تدفقت عليه بفضل أعماله، ويجد من الهدوء ما يتيح له إعادة التفكير في الفن والحياة. هو الذي كان اشتغل قبل ذلك منهكاً نفسه ليجد أنه يكاد يضيع في أفكاره، وسط زمن تتكالب فيه المادة، وتكاد تقضي على كل مثل أعلى جمالي. كانت، إذن، تلك هي الروح التي حرّكت آيشنباخ، ودفعت به إلى ذلك الفندق الساحر في الليدو (البندقية) على شاطئ البحر، حيث بدأ منذ وصوله يجلس متأملاً عند الشاطئ، وقد راح نوعٌ من الخدر اللذيذ يستبدّ به، ويسلّمه إلى أفكاره الهادئة، وسط جمال بيّن ومؤكد في الطبيعة والناس. وذات لحظة، وآيشنباخ مسترسلٌ في أفكاره الهادئة، يطلُ عليه “الجمال المطلق” من خلال الفتى البولندي الذي سيعرف بعد وهلة أن اسمه “تادزيو”، وأنه هنا مع أسرته في إجازة. تادزيو هذا، فتى رائع الحسن ومحاط دائماً بعناية أهله وخدمه، وسيبدو لآيشنباخ وكأن يطل مباشرة من روح محاورة “أيون” لأفلاطون. وبالتدريج يبدأ تادزيو، صمتاً ومن دون أي لقاء مباشر، يهيمن على أفكار آيشنباخ ويومياته، ليس باعتباره كائناً بشرياً، بل كفكرة ترمز إلى تلك المثل العليا، الفنية والجمالية، التي يحاول آيشنباخ العثور عليها. وأمام حسن ذلك الفتى، يشعر آيشنباخ أنه عثر على ضالته بين الإنسان والمدينة، وقد صارت لهما صورة القيمة المطلقة القادرة بعدُ على إنقاذ الفن الكبير من هجمة المادة. الحياة تقلّد الفن غير أن آيشنباخ بعد ساعات الفرح الأولى بالعثور على رمزيّ الجمال هذين (المدينة والفتى)، يشعر بتقلُّص في روحه، يشعر بعبء كل تلك الأفكار، إذ إنه بدلاً من أن يُشفى مما جاء ليشفى منه، ها هو يندفع أكثر وأكثر نحو إرهاق جديد يصيبه ولا يدرك للوهلة الأولى كنهه، ولا يدرك أنه يخوض لعبة تتجاوز قدراته على التحمّل. وسرعان ما سيتجسّد وهنه هذا وهو على وشك أن يتخذ قراراً بمبارحة المدينة: ففي الوقت الذي يبدأ زوال بعض السحر عن الساحر (عادية تادزيو تبدأ بالانكشاف لآيشنباخ بالتدريج. بل سيكتشف، ربما، أن تادزيو منذ اكتشف بعفويته، اهتمامه، شغف الكاتب به، راح يبدي حركات وتصرفات متعمدة “أفقدته” في نظر بطلنا بعض سحره). اقرأ المزيد من “حاجز” ماركر إلى “قرود” غيليام… ما بعد نهاية العالم “الخيّال فوق السطح” لجيونو… مصير الفرد في عالم مضطرب في ذلك الوقت نفسه يحلّ الوباء القاتل بالمدينة، محولاً إياها من رمزٍ للجمال إلى رمزٍ للموت. وهكذا يفقد آيشنباخ اهتمامه وافتتانه، إذ يصاب هو نفسه بذلك الوباء في الوقت الذي يبدأ الزوّار مغادرة المدينة هرباً لئلا يصابوا بالوباء، ويتحولوا إلى جثث كريهة في تلك التي كانت أجمل مدينة في العالم. وفي النهاية، يموت آيشنباخ وحيداً مقهوراً، وقد خسر آخر آماله بالعثور على المثل الأعلى الجمالي الذي كان يصبو إليه. من الواضح، أنّ جزءاً أساسياً من اشتغال توماس مان المبكّر على هذا العمل، أتى معبّراً لديه عن تأرجحه بين نزعة جمالية مثالية من ناحية ورؤية واقعية تعبر عن التدهور الحتمي للقيم، من ناحية ثانية. وما يهيمن على العمل في خضم ذلك كله، هو خيبة المبدع إزاء العصر، لكن أيضاً إزاء لعبة المظاهر، ما يدفعه إلى البحث عن تعويض جماليّ على الانحطاط. لكن، البحثُ لا يسفر عن نتيجة. ومن هنا ذلك التشاؤم والسوداوية اللذان تنتهي إليهما الرواية. والحقيقة، أن الذين اتهموا مان بنزعته السوداوية هذه، قد يكون عليهم أن يتابعوا ما يحدث في إيطاليا اليوم ليتساءلوا بعده: أترى أفلسنا مرة أخرى هنا أمام الحياة وقد راحت تقلّد الفن بدلاً من أن تترك الفن يقلدها؟ المزيد عن: توماس مان/الموت في البندقية/غوستاف ماهلر/لوكينو فيسكونتي 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post رائحة البخور الهندي تهب من رواية كي بي رامانوني next post رحيل “فيلسوف العمارة” العراقي رفعت الجادرجي You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.