كما لو أن النهر لا يزال طاهراً، قادراً على منح البركة أو درء الخطر (صورة مولدة بالذكاء الاصطناعي – غروك) ثقافة و فنون رحلة مع روبرت ماكفارلين عبر الأنهار by admin 7 مايو، 2025 written by admin 7 مايو، 2025 20 يصفها بأنها كائنات حية تستحق الرعاية والإصغاء لا الاستغلال والسيطرة اندبندنت عربية / سناء عبد العزيز في زمن تنهال علينا الكوارث البيئية مثل الصواعق، ويختل توازن الطبيعة أمام أعيننا المرتعبة، لم يعد من الحكمة أن ننظر إلى الأنهار كمجرد مشاهد طبيعية أو مصدر للماء، بل بالأحرى، مرايا تعكس فشلنا في التفاوض مع الطبيعة. غير أن النهر لم يكن يوماً مجرد مجرى مائي نشرب منه أو نغتسل فيه، بل ظل عبر العصور كائناً حياً في مخيلة الشعوب، يتلوى في الجغرافيا كما يتدفق في الأساطير والحكايات، منذ أن صوَّر المصريون القدماء “حابى” إله النيل وهو يحمل الجرَّتين على كتفيه، باتت الأنهار كائنات حية تستحق الرعاية والإصغاء، لا الاستغلال والسيطرة. هذا التصور القديم يعالجه الكاتب البريطاني روبرت ماكفارلين، أحد أبرز أصوات أدب الطبيعة والفكر البيئي المعاصر، في كتابه “هل النهر كائن حي؟” (Is a River Alive?)، الصادر حديثاً من دار “هاميش هاميلتون”، وهو من الإصدارات اللافتة التي تمزج بين التحقيق البيئي والكتابة التأملية. الغابة تشهد أن النهر ضحية يبدأ الكتاب من ضفة نهر طباشيري ضئيل، لا يبعد كثيراً عن منزل الكاتب في كامبريدج، نهر جف في صيف 2022 تحت وطأة موجة حر استثنائية، لكن ماكفارلين يصر على إحيائه، فيجعله يتدفق على امتداد النص ككائن مهدد بالحذف من خريطة العالم، من هذا الجدول الضيق، الذي يتسع كجرح مفتوح، تنطلق الرحلة نحو غابات السحب في الإكوادور، ومنها غابة لوس سيدروس، واحدة من أكثر البيئات تنوعاً في العالم. هناك، يتعرف إلى نهر استطاع أن ينتزع اعترافاً قانونياً بـ”حقه في الحياة”، وبعدما أصدرت المحكمة الدستورية في الإكوادور حكماً غير مسبوق، اعتبرت فيه الغابة كياناً قانونياً مستقلاً، له الحق في البقاء والدفاع عن نفسه أمام أية تعديات، وأدى هذا الحكم إلى إلغاء تصاريح التعدين التي كانت تهدد النظام البيئي بالغابة، كان ذلك انتصاراً رمزياً وعينياً لحقوق الطبيعة، استطاع أن يمنح الأنهار والغابات للمرة الأولى بطاقة هوية تمكنها من رفع دعاوى قضائية ضد البشر البُغاة. من هذا الخيال الأخلاقي تدفقت شرارات إلى جهات الأرض الأربع، في نيوزيلندا عام 2017، حظي نهر وانجانوي باعتراف نادر: صار كائناً روحياً ومادياً في آن، وبعدها بخمسة أيام فحسب، اعترفت الهند بنهري الجانج ويامونا كـ”كيانات حية” جديران بالحماية لا لأنها موارد، بل أقرباء، وفي كندا، 2021 اكتسب نهر موتيهيكاو شيبو شخصيته الاعتبارية، ليصبح أول نهر هناك يعامل ككائن حي. غلاف الكتاب (صفحة المؤلف على إكس) حتى نهر أوز في ريف إنجلترا، الذي طالما ترنح بصمت بين المزارع، اعترف مجلس محلي في ساسكس بحقوقه وكينونته القانونية، لكن هذا النصر لم يكن بلا ثمن، فبين الأشجار التي تصارع الفناء، قتلت ناشطة بيئية شابة، كانت حاملاً في شهرها الخامس، رمياً بالرصاص في شمال الإكوادور، بينما تدافع عن حق الغابة في البقاء. إن مشهد اغتيال امرأة تنبض الحياة داخلها لا يختلف كثيراً عن صورة نهر مهدد بالجفاف، كلاهما مصدر حياة يستباح، تماماً كما في مشهد الختام برواية “عناقيد الغضب” لشتاينبك، حين تحولت المرأة ذاتها إلى النهر الأخير، ترضع غريباً على شفير المجاعة، في لحظة تتجاوز الغريزة لتلمس جوهر الأمومة الأبدية. نهر الأمومة وأمومة النهر في الهند، يأخذنا ماكفارلين إلى نهر يامونا، أحد أكثر الأنهار تلوثاً في العالم، وهنا يختلط الرماد المقدس بمياه الصرف الصناعي، وتستمر الطقوس كما لو أن النهر لا يزال طاهراً، قادراً على منح البركة أو درء الخطر، وهذا التناقض المريع، بين القداسة الراسخة في الوجدان الشعبي وواقع النهر المسموم، يفتح سؤالاً لا مفر منه، كيف نستمد الحياة من نهر يحتضر؟ لكن ماكفارلين لا يفتش عن إجابة في تقارير البيئة أو بيانات المنظمات الدولية، بل يصغي إلى أجساد النساء القرويات، اللاتي خرجن من صمت طويل بعدما فاض بهن الكيل وعزت عليهن قطرة الماء النظيفة، فكما تدرك المرأة، بفعل الغريزة، أن جسدها هو المعبر الأول للحياة، تدرك أيضاً أن النهر هو الحليب الذي يسري في شرايين الشجر والبشر معاً، تقول كلاريسا بنكولا في “نساء يركضن مع الذئاب، “حين تجرح المرأة، تذهب إلى النهر، هناك، بين الطمي والعظام والطيور، تستعيد صرخاتها الأولى”. الكاتب البريطاني روبرت ماكفارلين (أمازون) لهذا، لم يكن غريباً أن تقف النساء القرويات على ضفاف يامونا، يصرخن باسمه كما لو كن يستعدن رحماً كونياً، وقد تحول النهر إلى أم كبرى تمد ذراعيها المثخنتين بالجراح. شبح النهر الأول في القسم الثالث يأخذنا ماكفارلين إلى كندا، حيث تجري محاولات لاستعادة الأنهار وإعادة ترميم ما أفسدته قرون من الاستعمار والاستخراج الجائر، هنا، تتشكل لغة جديدة في العلاقة بين الإنسان والطبيعة، لغة تعترف بحق الأنهار في الوجود، بل وفي أن تكون طرفاً قانونياً يملك صوتاً في وجه الجشع، غير أن الصورة لا تخلو من التباس، فالرأسمالية التي دمرت سابقاً، تحاول اليوم التجمل بخطاب “التنمية المستدامة”، بينما تواصل نهبها للماء والأرض تحت شعارات براقة. على أن استعادة النهر ليست عملية قانونية أو بيئية فحسب، بل روحية أيضاً، كأنها استدعاء لشبح النهر الأول، للذاكرة التي حملتها الشعوب القديمة عن الماء كمصدر للقداسة، ففي الأساطير السومرية، كان نهر الفرات ينبع من حديقة الآلهة، وفي ملحمة غلغامش، يشق البطل رحلته عبر المياه بحثاً عن الخلود، وفي الميثولوجيا الهندية، لا يزال نهر الغانج يعبد كإلهة تطهر الأرواح، أما الشعوب الأصلية في الأميركتين، كثيراً ما اعتبرت النهر روحاً حارسة، تحفظ الذاكرة وتنقل الحكمة عبر الأجيال. ضفة ثالثة يمزج ماكفارلين بين الرحلة والتأمل والاستقصاء في نثر يشبه تدفق الماء لتصبح النتيجة نصاً عصياً على التصنيف، يجمع بين الرحلات والتقارير بلغة أقرب إلى الترانيم، تطمح في أن تصير شعراً، فاليراعات “تخدش الظلام كرصاصات تتبع بطيئة”، وطيور الفلامنغو “تقف في انعكاساتها، مضاعفة كملكات ورق اللعب، تحمر الماء خجلاً”، الديدان المتوهجة “تضع دبابيس على فانوسها الأصفر”، والشهب “خدوش على صفيحة العالم”، والهلال “عملة معدنية مقطوعة”. ونادراً ما يتعثر في “لغة حبه” للعالم الطبيعي، لدرجة أنه عندما يصف الشمس، قرب تشيناي، “تشرق حمراء كعلبة كوكاكولا فوق المحيط”، يبدو الأمر مبالغاً فيه، لكن المغزى هو المبالغة، فإلى جانب الزجاجات البلاستيكية والفضلات والنفايات السائلة، تمثل علبة كوكاكولا رمزاً لساحل ملوث. لكن القلب النابض لهذا السرد يظل ذلك الجدول الصغير قرب منزل الكاتب في كامبريدج، نهر الطباشير، الذي جف مع موجة الحر، وهو ما يظهر كشبح يرافق الكاتب في كل محطة من رحلته، فكلما ابتعد جغرافياً، عاد إليه روحياً، كما يعود الشعراء إلى رمزهم الأول، إلى اللحظة التي تشكل فيها الإحساس بالجمال، ثم الخوف من زواله، ومن هذه الفتات، يعيد ماكفارلين تشكيل سؤال البيئة كسؤال وجودي، لأن كل ثقافة، بطريقة ما، تعلمت أن تحترم ما لم تصنعه، وأن تبجل الغامض، وتلتزم بحدود الأرض. في بريطانيا، يصف الكاتب كارثة الأنهار بـ”اليأس التدريجي”، مسجلاً من خلال منصة ساخرة تدعى “قمة البراز” كم الإهانات التي يتعرض لها النهر كل عام، وللوقوف ضد هذا، يذكرنا بأن مصيرنا يتدفق مع مصير الأنهار، ودائماً ما كان كذلك، مستشهداً بالمثل الماوري “أنا النهر، النهر هو أنا”. المزيد عن: الأنهارمصرالهندبريطانياروبرت ماكفارلينهل النهر كائن حي؟الإكوادور 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post حين دخل أدونيس قصر الرئاسة اليمني… خرج عبدالفتاح إلى المنفى next post هل تقاعست “ناسا” عن التحقيق في قضية الأجسام الجوية المجهولة؟ You may also like القطار الأخير إلى الحرية: حكاية الخادمة تكتب فصلها... 8 مايو، 2025 مهى سلطان تكتب عن: متحف نابو يوثق ذاكرة... 8 مايو، 2025 هاملت: من شخصية مسرحية إلى مادة لشتى الدراسات 8 مايو، 2025 رحيل محمد الشوبي الفنان المغربي الأكثر إثارة للجدل 8 مايو، 2025 لماذا سمى بودلير ديوانه «أزهار الشر»؟ 8 مايو، 2025 محمود الزيباوي يكتب عن: سرير أميرة ثاج 8 مايو، 2025 لماذا يخطئ المثقفون؟… دور التنوير في مجتمعات ملتهبة 7 مايو، 2025 بيرليوز يستلهم صائغا نهضويا في أوبرا مشاكسة 7 مايو، 2025 مرصد الأفلام… جولة على أحدث عروض السينما العربية... 7 مايو، 2025 الأوروبيون أضفوا طابعا أسطوريا على فرقة “الحشاشين” 4 مايو، 2025