هيكتور بيرليوز (1803 – 1869) (ويكيبيديا) ثقافة و فنون بيرليوز يستلهم صائغا نهضويا في أوبرا مشاكسة by admin 7 مايو، 2025 written by admin 7 مايو، 2025 18 “بنفينوتو تشيليني”: الأوبرا المختلفة التي استقبلها الجمهور الباريسي بالشتائم والغضب اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب تعني كلمة بنفينوتو في اللغة الإيطالية ما يوازي تماماً التعبير العربي “أهلاً وسهلاً”، لكنها في تلك اللغة يمكن أن تطلق في ظروف خاصة كاسم علم على وليد في أسرة تريد أن تبالغ في الترحيب به، وهي، في هذا السياق، تعد عادة من أجمل الأسماء على رغم ندرة من تطلق عليهم في الأزمنة الحديثة. ولحد علمنا ليس ثمة كثر من مبدعين وقوم مشهورين يحملون اسم بنفينوتو. ومن هنا حين يذكر شخص ذو مكانة فكرية أو إبداعية ما، ويتبين أنه يدعى بنفينوتو، يفهم الجميع أن هذا الشخص ما هو سوى بنفينوتو تشيليني الذي اشتهر كنحات ورسام وجوهرجي في المرحلة المتأخرة من زمن النهضة في فلورنسا الإيطالية. غير أن بنفينوتو هذا اشتهر كذلك بكتابته سيرته الذاتية التي روى فيها سيرة حياته والصراعات التي خاضها ضد السلطات السياسية والكنسية في بلاده، وكادت، مرات عديدة، تورده موارد الهلاك. والواقع أن هذا الجانب من حياة ذلك المبدع الاستثنائي كان هو بالتحديد ما لفت انتباه الموسيقي الفرنسي هيكتور بيرليوز، بعد قرون من رحيل سلفه الإيطالي، كي يلحن عنه أوبرا يمكننا أن نصفها الآن بأنها، وبالمعنى المزدوج للكلمة، كانت الأكثر ذاتية في تاريخ فن الأوبرا الذي لم يعتد كثيراً ان يكون فناً ذاتياً. وأكثر من هذا، أن يعبر فيه مبدعه عن همومه الذاتية من خلال سيرة حياة مبدع آخر وجد قدراً كبيراً من التطابق بين همومهما ونمط حياتيهما وغضبهما المشترك ضد قوى الإكراه التي أساءت إليهما. ومن هنا يمكننا القول إن بيرليوز قد أحس أن الجرح الذي أصيب به بالغ العمق وشخصي حين استقبل النقاد العروض الأولى لأوبراه تلك زاعقين مع جمهورهم “مالفينيتو”، الكلمة التي تعني في الإيطالية أيضاً: “لا أهلاً ولا سهلاً” في لعب جارح على اسم الشخصية المحورية في الأوبرا! سنوات من جهود مضنية إذاً حدث ذلك في عام 1838 وأتى على شكل رد فعل سلبي على لجهود بذلها هيكتور بيرليوز طوال ما يقارب ست سنوات، وتحديداً في عام 1833 حين حدث له في لحظة فراغ وتساؤلات من حياته، أن قرأ كتاباً ما كان ليخطر على باله أن يقع بين يديه ويقرأه، وهو مذكرات تشيليني. في ذلك الحين كان بيرليوز يعاني قدراً كبيراً من الاضطراب خلال فترة أنجز فيها قداسه الكبير، وربما في تحد إبداعي للسلطات الكنسية التي راحت تضيق عليه، وكان تفكيره منصباً على أوبرا جديدة يدهش بها العالم، وربما على استعادة مشروع كان يداعب خياله منذ سنتين يقوم على تأليف أوراتوريو كبير بعنوان “آخر يوم في العالم”. غير أن مذكرات تشيليني بدلت كل شيء. فبيرليوز ما إن قرأ ذلك الكتاب حتى هتف، أمام صديقه فرانز، ليس كما أمام جورج ساند صديقة الإثنين وحاميتهما: “… وكأن هذا الكتاب يتحدث عني!”. وهكذا ولدت تلك الأوبرا. غير أن إعدادها وإقناع المتمولين بها ومن ثم “فرضها” على برامج “الأوبرا كوميك” الباريسية ذات العقلية المتحجرة في ذلك الحين، كان في منتهى الصعوبة، لكنها صعوبة تلاشت في النهاية حين تبدل المجلس الإداري للمؤسسة العريقة، وصار على رأس صالتها فنان متفتح، وبات بيرليوز نفسه مقرباً من حلقات مبدعين ذوي نفوذ من بينهم ألفريد دي فينيي وشوبان، وليس من الذين دعموه ولسوف يدعمون تجديداًته على أية حال. ولقد اشتغل بيرليوز على تلك التجديدات طوال الفترة التالية مدركاً أن ثمة أبواب إبداع عريضة ستفتح في وجهه إن هو تمكن من تقديم هذا العمل كما يتصوره، وأن ثمة انقلاباً في عالم الأوبرا سينتج من ذلك. إبداع في عالم الإيقاع غير أن ذلك كله لم يتمكن من التعجيل في مجيء اللحظة التي سيطرح فيها ذلك كله أمام مستهدفين حقيقيين: النقد والجمهور. ونعرف طبعاً أن ست سنوات مضت قبل أن يتحقق ذلك كله، وبالتحديد قبل أن يرمي بيرليوز روحه وتاريخه وشكاويه على خشبة المسرح الأوبرالي كما يفعل الشعراء في قصائدهم والرسامون على مسطحات لوحاتهم. وكان الرهان صعباً على أية حال، بخاصة أن بيرليوز سيستعين بتاريخ تشيليني الملعون كنسياً للوصول إلى غايته. وسوف يلاحظ النقاد منذ اللحظة الأولى لتقديم العمل مساء أحد أيام ربيع عام 1838 كم أن موسيقى بيرليوز بدت إيقاعية صرفة في تلويناتها كما فاقعة في تفاصيلها المدهشة، وكأن المبدع يريد أن يقول فوراً: “أنا هنا… وها أنا ذا أتحداكم وأرد كيدكم كيدين” ولمن؟ للسلطتين الأعلى في البلاد، الدولة والكنيسة. ولكن أيضاً في وجه تلك الحياة الثقافية الجامدة والمرتاحة في جمودها، هي التي كانت تصارع للبقاء في وجه كل مبدع يحاول تجديدات عسيرة على الفهم بالنسبة إليها. لقد كان من الواضح منذ اللحظات الأولى أن بيرليوز إنما تعمد أن يكون عمله مشاكساً، ضد البلاط كما ضد بابا روما، حتى وإن كان قد استبدل شخصية البابا الواردة أصلاً في مذكرات تشليني، في النهاية، بشخصية كارينال، بناءً على إلحاح الرقابة. ويحمل أكبر قدر من التبجيل للفنان، كل فنان يجابه تينك السلطتين، من خلال شخصية بنفينوتو تشيليني الذي لم يخف على أحد، منذ تلك الليلة، أنها ليس في حقيقة أمره سوى الأنا/الآخر لهيكتور بيرليوز نفسه. ولقد كان لافتاً حقاً أن المدخل الأساس للألحان الأوبرالية هنا إنما كان عبر جمل لحنية متتابعة وصاخبة فاجأت الحضور حتى من قبل أن يجلسوا في مقاعدهم. وكأنه ضوء أخضر أطلقه الموسيقي في لحظة غير متوقعة ليقول، مرة أخرى، ها أنا ذا هنا فانتبهوا! بين البرود والحرارة السلبية على رغم البرود أو الحرارة السلبية التي جوبهت بها أوبرا بيرليوز هذه بعد سنوات من اشتغاله عليها، كان من الواضح أن هذا المبدع قد أنتج في “بنفينوتو تشيليني” عملاً تقصد منه أن يكون مناوئاً لكل سلطة، ولا سيما من خلال ذلك الربط الذي أقامه بين ذاته وشخصية بطله. ففي الحقيقة تعمد الموسيقي هنا عبر تهكمه الروسيني المستقى على أية حال من تهكمية روسيني، بل كذلك عبر سخرية متعمدة من “الأفكار” الأوبرالية الكبرى، أن يجعل من تشيليني، بالنسبة إليه، هو نفسه كفنان فرنسي كبير، ناطقاً باسمه هو باريسي القرن الـ19، حتى وإن كان قد صاغ ألحانه تبعاً لأسلوب سيمفوني لا عهد للتلوين الأوبرالي به، مصراً على أن تؤدي الأوركسترا الاندفاعات الموسيقية بدقة وسمو غير معروفين مسرحياً، حيث كان من المعهود أن يكون أداء الموسيقيين مجرد مصاحبة لأداء المغنين. ولعل هذا ما جعل تلك الأوبرا تبدو شديدة التعقيد بالنسبة إلى ذلك النوع من المتلقين، ولا سيما من بين جمهور “الأوبرا كوميك”. ومع ذلك لا بد من الإشارة الأساسية هنا إلى أن الأداء الأوبرالي كأحداث وغناء، يتناسب إلى حد كبير مع ابتذال ذلك الجمهور، بينما تبدو الموسيقى غريبة عليه، ولنقل بكلمات أخرى أن ذلك الابتذال كان من شأنه، وبقوة، أن يتلاءم مع النص المستقى من تشيليني ويتحدث فيه عن صراعات عرضت له، وحياة وصلت إلى الحضيض بالنسبة إليه كفنان كان غالباً ما يتطلع إلى سمو استكثرته عليه السلطات فحاربته وحاربه جمهورها من حيث لم يكن يتوقع. وذلك عبر استغلال نقاط ضعفه وعواطفه وغرامياته للنيل منه والإساءة اليه، ولكن، بخاصة، إلى فنه الذي بذل طاقته وفنه وصبره ولكن أيضاً قوة شكيمته للدفاع عنه والتأكيد دائماً على تناقضه مع ما يتعرض له. والحقيقة أن هذا كله يقول لنا سر التناقض الكبير بين أحداث حياة تشيليني/ بيرليوز المبتذلة، وسمو الموسيقى التي راحت تعبر عن كل ذلك. ومن هنا تأتي عظمة تلك الأوبرا، ولكن يأتي أيضاً سوء الفهم الذي صاحب عروضها الأولى وتلقي تلك العروض. المزيد عن: أوبرا بنفينوتو تشيلينيهيكتور بيرليوزاللغة الإيطاليةالمسرح الأوبرالي 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “عربات جدعون”… أحدث خطة لتهجير الغزيين طوعا أو قسرا next post حين دخل أدونيس قصر الرئاسة اليمني… خرج عبدالفتاح إلى المنفى You may also like القطار الأخير إلى الحرية: حكاية الخادمة تكتب فصلها... 8 مايو، 2025 مهى سلطان تكتب عن: متحف نابو يوثق ذاكرة... 8 مايو، 2025 هاملت: من شخصية مسرحية إلى مادة لشتى الدراسات 8 مايو، 2025 رحيل محمد الشوبي الفنان المغربي الأكثر إثارة للجدل 8 مايو، 2025 لماذا سمى بودلير ديوانه «أزهار الشر»؟ 8 مايو، 2025 محمود الزيباوي يكتب عن: سرير أميرة ثاج 8 مايو، 2025 لماذا يخطئ المثقفون؟… دور التنوير في مجتمعات ملتهبة 7 مايو، 2025 رحلة مع روبرت ماكفارلين عبر الأنهار 7 مايو، 2025 مرصد الأفلام… جولة على أحدث عروض السينما العربية... 7 مايو، 2025 الأوروبيون أضفوا طابعا أسطوريا على فرقة “الحشاشين” 4 مايو، 2025