البابا الراحل كان من الشجاعة والإقدام إلى الدرجة التي مكنته من الاقتراب وبجرأة كبيرة من كثير من الملفات الشائكة بل الملتهبة (رويترز) عرب وعالم هل ترك فرنسيس كنيسة منقسمة أم قادرة على ضبط مساراتها؟ by admin 26 أبريل، 2025 written by admin 26 أبريل، 2025 17 مواجهات سابقة ومستمرة بين المحافظين والتقدميين داخل أروقة الفاتيكان وإرث البابا الراحل بات عبئاً على خليفته لا سيما إذا كان غير أوروبي اندبندنت عربية عرفت البابوية عبر ألفي عام سلسلة من الأحبار الرومانيين، كان فرنسيس آخرهم، وحمل الرقم 266. تميزت بابوية كل واحد من هؤلاء البابوات بسمات قائمة بذاتها، وعادة ما كانت ترتبط بشخص البابا نفسه، كان منهم قديسون، وعلماء ومفكرون، ومنهم من هم دون ذلك بكثير، لا سيما في القرون الوسطى، التي كانت مجالاً للصراعات بين العقل والنقل. على أن منتصف القرن الـ20، شهد سلسلة من البابوات الذين وسمت صفاتهم ملامح معالم الكرسي الرسولي. على سبيل المثال لا الحصر، يمكن الإشارة إلى بابوية البابا بيوس الـ12، الذي شغل كرسي ماربطرس في الفترة ما بين 1939 وحتى 1958، بأنه رجل الحرب العالمية الثانية، وقضايا النزاع العرقي في أوروبا، لا سيما الهولوكوست، ومن بعده وصل إلى السدة البطرسية البابا الكبير السن يوحنا الـ23، الذي لم يمتد به العمر لأكثر من خمس سنوات من 1958 حتى 1963، على أنه على رغم قصر تلك المدة الزمنية، إلا أنها كانت كفيلة بأن ترسم ملامح ومعالم أهم حدث في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية المعاصرة، المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الذي افتتحه عام 1962، مع كثير من الاهتمام بحالة السلم العالمي، لا سيما أن حبريته شهدت أحداثاً كادت أن تقود العالم إلى حرب عالمية ثالثة، ومن هنا كتب رائعته الشهيرة “السلام على الأرض”. سريعاً غادر البابا الطيب عالمنا، ليحل محله البابا بولس السادس الإيطالي العقلاني، الذي ستمتد حبريته من 1962 حتى 1978، ويتخللها كثير من الاهتمامات بالقضايا العصرانية، وفي مقدمها النزاع العربي – الإسرائيلي، إذ جرت حرب الأيام الستة في عهده، ناهيك بقضايا من سبيل النوازل كتحديد النسل والإجهاض، والعلمانية التي تفشت في أوروبا في ومظاهرات الطلبة. ستقرر الأقدار أن تعرف البابوية لاحقاً بابا لن يدوم به الحال سوى 33 يوماً، يوحنا بولس الأول، الذي سيمضي سريعاً، ليحل محله العتيد يوحنا بولس الثاني الذي ستكتب نهاية الشيوعية على يديه، وليسجل ثالث أطول بابوية في التاريخ (27 سنة)، من 1978 حتى 2005. بعدها سيحل البابا النخبوي الألماني بندكتوس الذي سيستقيل بعد ثماني سنوات، في حبرية عاصفة، ليجد فرنسيس البابا الطيب المظهر، المثير للشغب الفكري طريقه إلى البابوية من 2013 وحتى 2025. هل كانت بابوية الرجل بابوية وفاق أم افتراق؟ هل سيترك كنيسة متحدة ذهنياً أم مفترقة أيديولوجياً؟ هل سيتمكن كرادلة الفاتيكان من تجسير الفجوة التي اتسعت في عهد فرنسيس بين التقدميين والمحافظين؟ كثير من التساؤلات التي نحاول تقديم إجابات عنها في السطور التالية. الخلاف الأكبر خلال عهد البابا فرنسيس جرى من حول “مجتمع الميم” (أ ب) قضايا محور الوفاق والافتراق لعل فرنسيس كان من الشجاعة والإقدام إلى الدرجة التي مكنته من الاقتراب وبجرأة كبيرة من كثير من الملفات الشائكة بل الملتهبة، التي تجنب التعرض لها من سبقوه من البابوات، ولهذا كان من الطبيعي جداً أن يحدث من حولها ضجيج كبير، بين موافق ومعارض. على سبيل المثال في شأن قضية الإجهاض، كرر فرنسيس ما قاله أسلافه من أن الحياة البشرية مقدسة ويجب الدفاع عنها، ووصف الإجهاض، وكذلك القتل الرحيم، بأنه دليل على “ثقافة الإسراف” السائدة اليوم، وشبه الإجهاض بـ”استئجار قاتل مأجور لحل مشكلة”. لكن في الوقت عينه، لم يشدد على موقف الكنيسة بقدر أسلافه، وقال إن النساء اللاتي يجهضن يجب أن يرافقن روحياً من الكنيسة، كما سمح فرنسيس للكهنة العاديين، وليس فقط للأساقفة، بإعفاء النساء الكاثوليكيات اللاتي تجهضن حملهن علناً. لم يوافق فرنسيس على محاولات أساقفة الولايات المتحدة حرمان الرئيس جو بايدن من المناولة المقدسة بسبب موقفه في شأن حقوق الإجهاض، قائلاً إن الأساقفة يجب أن يكونوا قساوسة وليسوا سياسيين. ومن القضايا الخلافية ذات الشق السياسي، علاقة الفاتيكان بالصين. ففي عام 2018، وافق البابا فرنسيس على اتفاق في شأن ترشيحات الأساقفة في الصين لإنهاء نزاع استمر عقوداً من الزمن، وتنظيم وضع نصف دزينة من الأساقفة الصينيين الذين جرى تكريسهم من دون موافقة البابا. لم يجر الكشف عن تفاصيل الاتفاق مطلقاً، لكن منتقديه من المحافظين انتقدوه ووصفوه بأنه بيع للصين الشيوعية، في حين دافع الفاتكيان عنه باعتباره أفضل صفقة يمكن الحصول عليها قبل أن تغلق بكين الباب بالكامل. أحدث مسألة هي إمكان متابعة الكاثوليك المطلقين لحياتهم الروحية داخل الكنيسة مما أوقع خلافاً حاداً في واقع الأمر، بين المحافظين والتقدميين. تقول تعاليم الكنيسة الكاثوليكية إنه من دون إبطال الزواج الأول فإن هؤلاء الكاثوليك يرتكبون خطيئة الزنى، وبالتالي لا يستطيعون تلقي الأسرار. سهل فرنسيس في البداية الحصول على إبطال الزواج ثم لم ينشئ قبولاً عاماً للأسرار المقدسة لهؤلاء الكاثوليك دونها، بل اقتراح في حاشية رسالته البابوية “فرح الحب” أن يرافق الأساقفة والكهنة هؤلاء الأزواج على أساس كل حالة على حدة. أما الخلاف الأكبر فجرى من حول “مجتمع الميم”، ففي عام 2013، عندما سئل عن أحد أساقفة الفاتيكان الذي يزعم أنه مثلي الجنسية قال “من أنا لأحكم”. تابع فرنسيس مؤكداً للمثليين أن الله يحبهم كما هم، وأن “كونك مثلياً ليس جريمة وإنما خطيئة”، وأن الجميع للجميع مرحباً بهم في الكنيسة. خلال حبريته، تراجع الفاتيكان، عن موقفه، وأقر تعميد المتحولين جنسياً، وخدمتهم كعرابين وشهود في حفلات الزفاف، لكن على رغم لقائه مرات عدة بأفراد من مجتمع الميم، لم يغير البابا فرنسيس تعاليم الكنيسة مصرحاً بأن الممارسات المثلية “مضطربة بطبيعتها”. هل هذه كل القضايا المختلف من حولها؟ بالطبع هناك كثير مثل قضايا الإساءات الجنسية، ومواقفه من الرأسمالية والبيئة وعقوبة الإعدام، عطفاً على علاقاته مع العالمين العربي والإسلامي، ثم الأسلحة النووية، مما جعل من إرثه قولاً وفعلاً مثاراً لكثير من الاختلافات قبل أن تتحول إلى خلافات. ما الذي فعله فرنسيس على وجه الدقة، مما أظهر للعلن كثيراً من المواجهات والمجابهات بين فريقين حداثي ومعاصر من جهة، ومحافظ تراثي من جانب آخر؟ الباباوان الراحلان فرنسيس وبينيدكتوس (رويترز) زلزال في مواجهة التيار المحافظ يحاجج بعض منهم بأن فرنسيس لم يكن السبب الرئيس في هذا الانقسام الأيديولوجي، وليس الدوغمائي، داخل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، لا سيما أنه ورث على حد تعبيرهم كنيسة منقسمة بشدة بعد استقالة سلفه بندكتوس الـ16 عام 2013، ومن ثم تفاقمت الفجوة بين المحافظين والتقدميين بعد انتخاب فرنسيس كأول بابا غير أوروبي منذ 1300 سنة. لمدة عقد من الزمان تقريباً، حتى وفاة البابا بندكتوس، كان هناك رجلان يرتديان اللون الأبيض في الفاتيكان، مما تسبب في كثير من الارتباك بين المؤمنين، وأدى إلى دعوات إلى وضع قواعد مكتوبة في شأن دور البابوات المتقاعدين. في هذا السياق، جرى الكشف عن شدة العداء المحافظ للبابا فرنسيس في يناير (كانون الثاني) 2023 عندما ظهر أن الكاردينال الأسترالي الراحل جورج بيل، وهو شخصية بارزة في الحركة المحافظة وحليف لبندكتوس، كان مؤلف مذكرة مجهولة المصدر في عام 2022 تدين بابوية فرنسيس باعتبارها “كارثة”. كانت المذكرة بمثابة بيان محافظ للصفات التي يريد المحافظون أن تتوفر في البابا القادم. غير أن فرنسيس عين ما يقرب من 80 في المئة من الكرادلة الناخبين الذين سيختارون البابا القادم، مما زاد، وإن لم يضر من احتمال أن يواصل خليفته سياساته التقدمية، وتوقع بعض خبراء الفاتيكان خليفة أكثر اعتدالاً وأقل إثارة للانقسام. في عهد فرنسيس، سمح دستور الفاتيكان المعدل لأي كاثوليكي معمد، بما في ذلك النساء، برئاسة معظم الإدارات في الإدارة المركزية للكنيسة الكاثوليكية. كان المحافظون غير راضين عن البابا منذ البداية بسبب أسلوبه غير الرسمي، ونفوره من البذخ، وقراره السماح للنساء والمسلمين بالمشاركة في طقوس خميس الأسرار التي كانت مقصورة في السابق على الرجال الكاثوليك. لقد رفضوا دعواته للكنيسة إلى أن تكون أكثر ترحيباً بأفراد مجتمع الميم، وموافقته على وثيقة “البركات المشروطة”، للأزواج من الجنس نفسه التي صدرت في ديسمبر (كانون الأول) 2023، وقيوده المتكررة على استخدام القداس اللاتيني التقليدي. كان فرنسيس يعي جيداً تلك المواقف، ولهذا وصف المحافظين بأنهم رجالات جعلوا من أنفسهم مرجعيين ذاتيين وأرادوا تغليف الكاثوليكية بـ”بدلة من الدروع”. بلغ الأمر بأحد قادة المحافظين، وهو الكاردينال الأميركي ريموند ليو بيرك أن قارن الكنيسة في عهد فرنسيس بمن سبقوه من البابوات بالقول إنها “سفينة بلا دفة”. وفي عام 2023، قدم بيرك وحفنة من الكرادلة الآخرين تحديات عامة عرفت باسم “الشكوك” متهمين البابا فرنسيس بإثارة الارتباك حول المواضيع الأخلاقية، وهددوا ذات مرة بإصدار “تصحيح عام” بأنفسهم. لقد وصل الأمر ببعض هؤلاء المحافظين إلى التحدث علانية في بعض المؤتمرات التي نظموها بأن فرنسيس يكاد يكون بداية لزمن المسيح الدجال ومن ثم نهاية العالم. كانت تصرفات هؤلاء في أول الأمر لا تزعج فرنسيس، ففي عام 2018 قال لوكالة “رويترز”، “لا أشعر برغية في الحكم عليهم وأدعوا الرب أن يهدئ من قلوبهم وحتى قلبي”. لكن بعد عام من وفاة بندكتوس، بدا وكأن فرنسيس فقد صبره مع الزعماء المحافظين، فحرم بيرك الذي نادراً ما كان يزور روما، من امتيازاته في الفاتيكان، بما في ذلك شقة مدعومة وراتب. البابا يوحنا بولس الثاني (الموسوعة البريطانية) هل تسبب فرنسيس في ألم للكنيسة؟ هذا تساؤل موضوعي وليس دعائياً، ويطرحه بقوة كثير من رجالات الإكليروس وكذا من العلمانيين الكاثوليك، الذين فاق عددهم مليار و400 مليون نسمة حول قارات الأرض الست أخيراً. كان عام 2018، بمثابة “السنة المروعة” بالنسبة إلى البابا فرنسيس، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى الأزمة المتصاعدة حول الاعتداءات الجنسية في الكنيسة، لا سيما من عدد من رجال الدين. بدأ الأمر برحلة إلى تشيلي في يناير (كانون الثاني)، إذ دافع في البداية بقوة عن أسقف اتهم بالتستر على اعتداءات جنسية، وقال للصحافيين بانفعال إنه “لم يكن هناك دليل واحد ضده”. تعرضت تعليقات فرنسيس لانتقادات واسعة النطاق من جانب الضحايا ومناصريهم، وفي افتتاحيات الصحف في مختلف أنحاء أميركا اللاتينية، حتى المستشار البابوي الرئيس الكاردينال شون أومالي، من بوسطن، نأى بنفسه عن الأمر، قائلاً إن البابا تسبب في “ألم شديد”. اعتذر فرنسيس لاحقاً، قائلاً “إن اختياره لكلماته ونبرة صوته أصابا كثيرين”. بعد عودته بفترة وجيزة، أرسل المحقق الأعلى في قضايا الاعتداء الجنسي بالكنيسة إلى تشيلي. لم تكن تشيلي فقط محور الأزمات، ففي يوليو (تموز) من عام 2018، تنحى الكاردينال ثيودور مكاريك، رئيس أساقفة واشنطن العاصمة السابق، عن منصبه ككاردينال بسبب سوء السلوك الجنسي، وفي أغسطس (آب) هز تقرير لهيئة محلفين كبرى في بنسلفانيا الكنيسة الكاثوليكية الأميركية، الذي تضمن تفاصيل 70 عاماً من الانتهاكات. “بخجل وندم، نقر كجماعة كنسية، بأننا لم نكن حيث ينبغي أن نكون، وأننا لم نتحرك في الوقت المناسب، مدركين حجم وخطورة الضرر الذي لحق بحياة كثيرين. لم نبد أي اهتمام بالصغار، بل تخلينا عنهم”، هذا ما كتبه فرنسيس في رسالة إلى جميع الكاثوليك، في الـ20 من أغسطس (آب) 2018. ومع ذلك، هيمن موضوع الاعتداء الجنسي على رحلته إلى إيرلندا في أغسطس (آب) 2018، إذ استغل رئيس أساقفة إيطاليا المحافظ وجود وسائل الإعلام لإصدار بيان غير مسبوق يطالب البابا بالاستقالة بسبب قضية مكاريك. جرد فرنسيس مكاريك من رتبته الكهنوتية في فبراير (شباط) 2019، ليصبح بذلك أبرز شخصية كنسية يفصل من سلك الكهنوات في العصر الحديث، وأظهر تقرير مؤسسي صدر عام 2020 عن مكاريك أن سلفي البابا فرنسيس، يوحنا بولس الثاني وبندكتس الـ16، كانا على علم بإشاعات عن سوء سلوكه الجنسي، لكنهما عززاه أو لم يؤيداه على أية حال، مما عمق من غضب المحافظين بالفعل. حظي فرنسيس بتقدير التقدميين حول العالم لجهوده الرامية إلى تحديث وتحرير جوانب من عقيدة الكنيسة” (أ ب) فرنسيس واتهامات بأنه مخرب لاهوتي “إنهم ينادونني بالهرطوقي”، هكذا تحدث فرنسيس، رأس الكنيسة الرومانية الكاثوليكية خلال زيارته إلى تشيلي في عام 2018، فاتحاً وبائحاً بمكنونات صدره لزملائه في الرهبنة اليسوعية هناك، ومتحدثاً عما يلاقيه في وسط روما. لكن من الهرطوقي؟ من دون الغوص في عمق أعماق التعريفات اللاهوتية، يظل الهرطوقي هو من ينكر الإيمان، وفي أضعف الإيمان من يغيره أو يحرفه، من يعدل أو يبدل فيه جذوره. حظي فرنسيس بتقدير التقدميين حول العالم لجهوده الرامية إلى تحديث وتحرير جوانب من عقيدة الكنيسة، إلا أنه واجه في الوقت عينه انتقادات لاذعة من المحافظين الذين اعترضوا على انفتاحه على البيئة والمهاجرين، على المسلمين وغير المؤمنين عموماً، الذين رفعوا شكواهم تجاه رؤيته للمثلية الجنسية والطلاق وغيرها من القضايا التي أسلفنا الحديث عنها. على سبيل المثال لا الحصر، اتهم الأب توماس ويناندي، الرئيس السابق لهيئة أركان لجنة الأساقفة الأميركيين للعقيدة، البابا فرنسيس بإحداث “فوضى لاهوتية”، وحذرت مجموعة أخرى من الأساقفة البابا من أنه يخاطر بنشر “وباء الطلاق”. في خريف 2017، وقع أكثر من 200 عالم وكاهن رسالة تتهم البابا بنشر الهرطقة، وقال الأب جون رايس، كاهن رعية شافتسبري بالمملكة المتحدة، “لم يكن هذا أمر اتخذته باستخفاف”، مدعياً أن نهج البابا الليبرالي سبب “انقساماً وخلافاً كبيرين، وحرباً وارتباكاً في الكنيسة”. ويومها أضاف رايس “ليس من الرحمة أن يترك الناس يستمرون في معصيتهم من دون أن ننطق بكلمة، إذا رأيت طفلاً يحاول وضع يده في النار، فقل له كفى”. الانحرافات عن العقيدة أمر سيئ بما فيه الكفاية، لكن فرنسيس كان يتعرض لانتقادات من جانب الخدمة المدنية في الفاتيكان المعروفة باسم “الكوريا الرومانية” أو “حكومة البابا”. بعد توليه منصبه البابوي في 2013، أرسى فرنسيس نهجاً جديداً بإنشاء مقره في دار ضيافة متواضعة للكهنة، بدلاً من القصر الرسولي الفخم. وعلى رغم أن هذه اللفتة تبدو في ظاهرها متواضعة، وتنم عن محبة للفقر الاختياري، إلا أنها لفتة انطوت على انتقاد ضمني لما يرى بعض منهم أنه تجاوزات من الماضي لباباوات سابقين. كما ألغى فرنسيس منح قبعة الكاردينال تلقائياً للأساقفة في بعض المناصب، وأثارت بعض مواقفه الأكثر ليبرالية استياء المحافظين. على سبيل المثال في عام 2015، أمر فرنسيس كل رعية باستضافة عائلتين من اللاجئين. وبجعله للعقيدة الكاثوليكية أكثر غموضاً ـ بحسب منتقديه ـ قوض فرنسيس سلطة الكنيسة فعلياً أو حاول أن يفعل ذلك، مقلصاً دور الكهنة وجعلهم مجرد مرافقين ومستشارين لأبناء رعيتهم فحسب، وهي قضية شائكة تعود لإصلاحات المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني المنعقد في ستينيات القرن الماضي. هل كان هذا هو الانقسام الحقيقي الذي يخشى منه فرنسيس بعد رحيله، أم أنه كان يرى أن هناك انقساماً آخر ربما أشد خطورة ووطأة من هذا؟ عن الانقسام الذي خشي منه فرنسيس هل تجنب فرنسيس الحديث عن قضية الانقسام بين التقدميين والمحافظين داخل أروقة الكنيسة الكاثوليكية؟ لعله من المؤكد أن هذا الإشكال غير مرتبط تاريخياً بالبابا فرنسيس، بل يمتد إلى ما هو أبعد زمنياً كثيراً جداً، وبالتحديد تعود الأزمة لانعقاد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، (1962 -1965)، هذا اللقاء الذي امتد لأربع سنوات، وكتب تاريخاً جديداً للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، في تعاطيها مع قضايا العالم المعاصر من جهة، وكذا مع الأديان غير الكاثوليكية، لا سيما الإسلام واليهودية. أظهرت النقاشات وقتها أن هناك فريقاً يؤمن بأن الخير في كل سلف والشر في كل خلف، وأنه ينبغي أن نسير في هدي الأقدمين، وفريقاً آخر يرى أنه حان الوقت للتغيير بالفعل، وإيجاد صيغ عصرانية لعيش المؤمنين. صباح الـ21 من ديسمبر (كانون الأول) 2023، وخلال استقباله لكبار المسؤولين في الكوريا الرومانية المهنئين بعيد الميلاد تكلم فرنسيس قائلاً “بعد 60 عاماً من انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني، ما زلنا نناقش الانقسام بين التقدميين والمحافظين، بينما يكمن الفرق الحقيقي بين المحبين ومن فقدوا شغفهم الأول”. في تلك المناسبة، تذكر فرنسيس أن كاهناً متحمساً قال له ذات مرة “ليس من السهل إعادة إشعال الجمر تحت رماد الكنيسة”، وأضاف فرنسيس “اليوم نسعى جاهدين إلى إشعال الشغف في أولئك الذين فقدوه منذ زمن طويل”. في ذلك النهار، أكد فرنسيس لكبار قادة الكنيسة على أنه يتوجب عليهم أن يسمعوا رسالة الكاهن المتحمس تلك، وأن يحملوها من جديد، لا سيما في هذه الأيام التي اتسمت بعنف الحرب والأخطار الجسيمة التي يشكلها تغير المناخ والفقر والمعاناة والجوع، وجميع مشكلات العصر الراهن الخطرة”. ويومها أيضاً أضاف “إنه لأمر مريح أن نكتشف أنه حتى في تلك الظروف المؤلمة، وجميع مشكلات أسرتنا البشرية الهشة، يحضر الله نفسه في هذا المزود، إذ اختار أن يولد ويحمل محبة الأب للجميع، يفعل ذلك بأسلوبه الخاص، بقربه ورحمته وحمايته”. يومها بلور فرنسيس الخلاف بين الجبهتين بقوله “حتى عند الحديث في ما بيننا نخاطر بأن نكون كالذئاب الجائعة، قد نلتهم كلمات الآخر من دون أن ننصت إليه حقاً، ثم نعيد صياغتها بما يناسب أفكارنا وأحكامنا. أما الإنصات الحقيقي للآخر، فيتطلب هدوءاً داخلياً ومساحة من الصمت بين ما نسمعه وما نقوله. أولاً ننصت، ثم في صمت نفكر فيما سمعنا ونتأمل فيه ونفسره، وعندها فقط نصبح مستعدين للرد”. هل حاول فرنسيس التغلب على المشهد الانقسامي الحادث بالفعل داخل أروقة الفاتيكان؟ السؤال مهم للغاية، ذلك لأنه سينسحب على عملية اختيار البابا القادم، ومن أية جهة أو جبهة سيكون. فيما الأهم هل ستكون عملية اختيار البابا الـ267 الجديد، عملية سياسية تجري برسم استقطاب دولي، لا سيما من جانب الولايات المتحدة الأميركية؟ يحاجج بعضهم بأن مستقبل الكنيسة الكاثوليكية مرتبط باختيار بابا أميركي أو له ميول أميركية، فيما يرى نفر آخر أنه لا بد وأن يكون بالضرورة آسيوياً، وما بين هذه وتلك ينتظر الجميع الكونكلاف القادم وما ستجري به الأقدار في طريق خليفة بطرس الصياد مرة جديدة. المزيد عن: الكانيسة الكاثوليكيةالبابا فرنسيسالبابا بندكتوس السادس عشرالبابا بولس السادسالفاتيكانخلافة الباباالكرسي الرسولييوحنا بولس الثانيقضية الإجهاضالكهنة والأساقفةمجمع الكرادلة 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post ماذا أراد عراقجي بتوقيع “قوة التفاوض” بين يدي ويتكوف؟ next post علماء يحددون بقايا أقدم نملة عاشت قبل 113 مليون سنة You may also like ترمب يطالب بـ”عبور مجاني” للسفن الأميركية في قناتي... 27 أبريل، 2025 الولايات المتحدة والانزلاق إلى دولة بوليسية سرية 27 أبريل، 2025 10 أطنان من الذهب ملاذ الأسر السورية في... 26 أبريل، 2025 ماذا أراد عراقجي بتوقيع “قوة التفاوض” بين يدي... 26 أبريل، 2025 جنازة مهيبة لـ”بابا الفقراء” والأجراس تقرع حزنا 26 أبريل، 2025 سوريا ترد على المطالب الأميركية: “تجميد” وضع المقاتلين... 26 أبريل، 2025 وداع مهيب للبابا وجولة ثالثة لنووي إيران و”حماس”... 26 أبريل، 2025 الاستهدافات الإسرائيلية للمنازل الجاهزة بجنوب لبنان تحرم السكان... 26 أبريل، 2025 حسين الشيخ… أول فلسطيني من الداخل ينال أعلى... 26 أبريل، 2025 هل باتت المصالحة الفلسطينية مستحيلة بعد شتيمة عباس؟ 25 أبريل، 2025