ثقافة و فنون شربل داغر .. يكتبُ بشهوة الشاعر في نطاق النثر by admin 24 يناير، 2025 written by admin 24 يناير، 2025 17 نصير الشيخ (في العدد الفصلي الممتاز عن قصيدة النثر، في مجلة “الأقلام” العراقية، بغداد، كانون الثاني-يناير 2025). بين مياسم القرية وأشجارها وينابيعها، عبوراً إلى دهشة الشعر واحتطاب الأفكار والفلسفات، ومن ثم فهم الدرس البلاغي على مقاعد الدرس الجامعي، انتقالاً الى سماوات المدن البعيدة وصخبها ومقاهيها، ومن ثم الإندماج بالعمل الصحفي، لتتبعها عودةً الى الجذور الأولى، حيث بيروت وضواحيها، وهنا تستكين الروح الى خضرتها، ويهدأ الجسد من متاعبهِ. هي رحلة الشعر في أقاصيهِ، وبين الصحافة والحوارات وكتابة الأمكنة. إننا الآن في حضرة تجربة ثقافية مكتملةٍ. في حوار مع الشاعر والمفكر د. شربل داغر. – من أين أتى الفتى شربل، وإلى أين هو ذاهب ؟ = لا أحسن الجواب على الشق الأول من السؤال، ما دامت أمي أخبرتني أنني ولدت في مطالع الصيف، فيما يرد في القيود الرسمية أنني من مواليد نهايات الشتاء. أيعني هذا – وشهادة أمي هي الأوثق – أنني نطفة انتظرت ميلادها ؟ أما لجهة الشق الثاني من السؤال، فإنني لا أحسن الجواب عنه، ما دمت لن أكون شاهداً لِما سيحدث لي عند انقطاع الطريق أمامي. الأكيد في هذا كله هو أنني عَبَرتُ وحسب في هذه الطرق، من دون أن أتوقف كثيراً في مشيي للتحقق مما جرى، مما يحصل. إلا أنه كانت لي وقفة مديدة، انتقالة، بين ما كنتُ عليه، وما فعلتْه الحرب بي، كما لو إنني ولدت إثرها من جديد. ذلك أن الفتى، بل الطفل الذي درج بصنداله الممزق في الطريق قبلي، لا يزال يسابقني : بين حكمة وطيش، بين رغبة ونهم، بين هوس وتأنٍ. لهذا أبدو اثنين، بل أكثر من واحد، في جرياني، بين ثبات وعَدْوٍ، بين عزمٍ ورغبةٍ في اللاوصول. لعل في هذا ما يفسر إقبالي الشديد على الكتابة، على تعددها، على تنوعها، كما لو أن فيها ما يكافئ أكثر من حياة في حياتي. – كيف تشربت بروق الشعر روح ذلك الفتى وجسده ؟ = لعل الشعر هو الحياة، أي بديلها، لا ظلها. لعله الهبة من لا أحد. مثل لقاء من دون موعد، بين غريبين فوق رصيف مغادرة. مثل موعد يطول، على الرغم من ذلك، مع نسيان الوقت. لا أحسن تأكيد ما جرى، من دون وعد أو آمال. ولا أحسن وصفه، إذ لم أكن خارجه، ولم أتحقق من انقضائه. فهو إذ يباشرني في عمليات التلفظ، أكون قد أصبحتُ في زورق، في عالي الصخب، في رقة الكلام. وإذ أنتهي منه، لا أحسن العود إليه، ولا تفقدَه، من دون حدود أو بطاقة دخول. ذلك الرَّوَحان من دون رسم، والتَّوَهان من دون بوصلة. ذلك الشرر البرقي المباغت من دون تعاليم أو ذكريات. فالشعر من دون ذاكرة، على أنه لا يتوانى عن تذكر ما لم يعرفه. – هل الشعر أبقى فيكَ حلماً لم تدونهُ بعد ؟ = كنت أظن، إذ قرأتُ عن شعراء، أن للشعر ينبوعاً ينضب مع تقدم العمر. هذا ما لا أقوى على قوله مثلهم، ولست أكيداً من أنني أكتب وأكتب ما هو أشبه بتعقب أحلامي العامرة. ذلك أن القصيدة تكتبني، في ما يَخفى من انبثاقها، ما هو أقرب إلى خلاء، إلى برية، مثل نطفة حياة، مثل فرصة إنقاذ من الجاري. أكتفي بالقول إن القصيدة توجدني مثل فعل حياة، تشدُّ أطرافي مثل اجتماع العزم، حيث الفرصة متاحة لتشكيل بيتي الممتد، والذي من هواء اللحظة في عمران الشهوة. لا أكتب من دون لذة، من دون التذاذ، من دون إفلات قواي المحتشدة في هباء. – “وجهكِ منحوتٌ من الأبنوسِ والذهب” : تُرى ما وجهُ القصيدة التي رافقتكَ كل هذا العمر ؟ = جميلٌ أن تستحضر هذا الوجه، هذا الجزء من سطرٍ في قصيدتي الأولى المنشورة في العام ١٩٧١… جميلٌ أن تستحضر وجه القصيدة الأول، ذلك أنه كان لقصيدتي وجوه عديدة بلسان واحد. هي وجوهُ تقلبي في الزمن، في المشاغلة والمراودة، مثل فارس بعدة أسلحته المختلفة. هي عيون التلفت والتوقف، وعيون التذوق والانهمام. كنتُ أمشي فيما أعيش. كنت أعيش فيما أمشي. كنتُ ألهج بالشعر، في تمتمة، في رقة المخدة وصخبها، في استخراج الألم عندما يصبح خيط نور فوق لوح المدرسة، أو جدار الوطن. حياتي التي عشتُ، حياتي التي لم أعشْ، حياتي التي كرهتُ بعضها، وحلمتُ بغيرها، حياتي المؤجلة، المنتظِرة : بتصرف القصيدة. أعيش حيوات مختلفة في الحياة، وأعيش في القصيدة حيوات مزيدة، أحلى، ما دام القلق، وذباب البلادة، ووهاد الخيبة، واسوداد البهيمة، وطعم الخسران المقيت، والانتظارات المقيتة، تتحول إلى انبثاقات جمالية. – شربل داغر، الفتى الذي تشرب روائح القرية ونسائمها، ماذا تبقى لديه من ضجيج المدن الصاخبة ، عبر مسيرة طويلةٍ : حياةٌ وشعرٌ وحضورْ ؟ = إخالني إذ أعود إلى القرية صيفاً، أستعيد خطى طفولتي البعيد، مع أن خفة الراكض في الوادي ابتعدتْ عن لقاء الهواء الحميم والعاصف. أصبحتُ أكثر تمهلاً في ما أتقدم فيه. هذا ما أعاوده في الممرات عينها، فوق ضفة النهر، على أن خطاي مختلفة في كل مرة. أصبحتُ كذلك أكثر تنصتاً لِما يجري، لِما نتلاقى فيه، في مكاشفات عارية من دون خجل، في مباهج مباغتة من دون قيود أو التزامات. لم يبقَ الكثير لكي أكون متردداً أمام عناق العناصر الصاخب، ولا لكي أكون بخيلاً أو مقتراً، ولا لكي أتحسب من زلات لسان. إذا كانت الحرب هزمتني، والحياة خذلتني، فإن القصيدة جعلتني حراً. – “القصيدة لا تنسى محبيها، وإن غدروا بها، أو تنكروا لها” : هل القصيدة تراودُ عشاقها، أم أن العشاق لم يعودوا مخلصين لها ؟ = تشبه القصيدة ما قالتْه الولادة بنت المستكفي : “وأعطي قبلتي مَن يشتهيها”. القصيدة فتّانة ومراوغة، مثل الشاعرة الولادة، ويبقى الشاعر منقاداً إليها، مشاغلاً لها، من دون كلل. فالشعر حياة، وإن يتجلى في لحظات، في ومضات، في انبثاقات مباغتة، مثل قبلة في هواء المحاولة. ذلك أن الشعر لا يشبه غيره من الممارسات الإبداعية، بين التهيوء له وبين تجليه. ليست له مواعيد منتظمة، مثلما يقوى على ذلك الباحث أو الروائي. وليست له افتتاحات ممكنة، أو متابعات ممتدة، مثلما يفعل الكاتب في استعادة مسودته والمضي فيها. لقاءٌ حر، من دون موعد، ولا سيما إذ يخرج الشاعر من القواعد النظامية… – من يشكلُ لحظة التكوين في وجودك ومنجزك الشعري : المرأة ُ وحضورها المقدس والمراوغ على حدٍ سواء أم القصيدة وتجلياتها ؟ = يصعب إيجاد لحظة تكوين واحدة، أو اختصار انبثاقات القصيدة في وجهة أو اثنتين. فالقصيدة، مهما ضاقت، تلمُّ تكويناً أوسع من فضائها، ويتنفس فيها غير طير وصوت وصراخ. للمرأة عالَمُها في شعري، ويمكن قول العكس : للشعر عالَم في أنثاي. أما ما استوقفَ أحدَ النقاد في شعري، فهو أن المرأة استعارة لقصيدتي. كما يمكن قول العكس، ما دامت الأنثى تتنفس في قصيدتي غير الهواء المستعمل. فمع الأنثى مشاغلةٌ، ومراودة، ومطارحة، ومكاشفة، وفضاء قيد التشكل : ألا يمكن قول الشيء عينه في القصيدة، ومعها ؟ – “من يرثي درويش، هو الذي كان يتكفلُ بمراثي طيور الياسمين وليمون الآهاتِ وعزلة الذهب” ؟ ماذا بقيّ من التماع الشاعر، الصديق، القصيدة بكونه الجمالي محمود درويش ؟ = أفتقد محمود درويش الممعِن في غيابه، هو الذي كنتُ أرافقه عن قرب أو بعد، ه وألتقيه أكثر بكثير من معارفي من الأدباء. فجلستُه من ألذ الجلسات وأمتعها، بحضوره المرح، والتفاتاته الذكية، وسعة نظره، فيما كان يتعاظم تباعده عن العالم المحيط به صوب عالَم أكثر فردية واستبطانا وشعرية. يحضرني كثيراً في الشهور الأخيرة السؤال المضني : ماذا كان ليقول أمام انسداد الأحوال، إلا للعنف وحده ؟ – كيف استدلالكَ بأن محمود درويش هو “خلاصة” لشعرية البياتي وقباني في بداياته، وصولاً لتفرده بقصيدة باتت “عنواناً لنفسها”، و”علامة دالة على ما تقيمه ُبعد قيامه” ؟ = هذا ما تحققتُ منه في درس شعره الأول، وهو ما قالَه بنفسه، لا سيما عن البياتي، بكيفية ما. ولم يكن هذا بالغريب إذ انخرطتْ قصيدته في اليومي، وفي الحض المتمرد. وهو ما أمكنني التحقق منه، مع البياتي نفسه، إذ كان يتبرم علناً من درويش، فيما لم يكن يخص غيره من الشعراء المتقدمين الخصومة عينها. وهذا يعني التحاور والتنافس بينهما في فضاء متقارب للقصيدة. أما عن تفاعل درويش مع نزار قباني، فلنا البحث عنه في لغة القصيدة، حيث كانت أقرب إلى بلوغ القارئ، مما كانت عليه في تجارب غيرهما من الشعراء الحديثين. وهو ما يلتقي بـ”النجومية” كذلك… – الذهابُ من القصيدة وفضائها الكوني نحو تماوجاتِ السسطح البصري (اللوحة)، عبر مسباركَ الرؤيوي، نصاً ولغة. ماهي أدوات الكشف لديك في مجال الفن التشكيلي ؟ = سعيتُ إلى عالم اللوحة والفن عموماً سعياً دراسياً، أكاديمياً، وهو ما توازنَ مع درس الأدب. إلا أن ما حداني إلى هذا الدرس الثاني، وبعد المضي في غماره وأحواله، بين الفن الإسلامي والفن العربي الحديث، هو أنني تحققت من الغفلة عن جانب كبير من التعبيرية العربية، في قديمها وحديثها. وهي غفلة مزدوجة في الفن الاسلامي : فقد غفلَ الدرسُ القديم عن معاينته وتفقده ودرسه، فيما غفل هذا الفن نفسه، بسبب قيود وامتناعات، عن إظهار العالَم الإسلامي القديم. أما الغفلة العربية الحديثة عن الفن، فهي تمادتْ لعقود وعقود بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين بسبب مكابرة إبداعية كانت ترى في الشعر القيمةَ العبقرية العليا… هكذا كان الفنانون العرب الحديثون أكثر قرباً من عوالم القصيدة الحديثة، مما كان عليه حال الشعراء الحديثين في عليائهم الاعتقادية. لحسن الحال، تغيرت وتتغير الأحوال… حتى إن الشاعر أدونيس، الذي كان شديد البعد عن الفن لأكثر من عقد في حياته الإبداعية العامرة، بات يطلب ويعمل في السنوات الأخيرة على أن يصبح… رساماً كذلك. – “يحلو لي أن أعبثَ بهذا كله” : مختارات ٌ شعرية ٌ عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد، في العام 2023 : هل منحتكَ هذه الطبعة جسر تواصل ٍمع القارئ العراقي للاطلاع أكثر على نتاجك الشعري الثر. وهل تشعر بالرضا وسعاداتٍ أخرى ؟ = راقني للغاية مشروع المختارات الشعرية حين جرى عرضه علي، إذ لاقى رغبتي في التواصل والتفاعل مع وسطٍ شعري ونقدي عراقي لي الكثير من الصداقات والمناقشات والتلاقيات معه منذ سنوات بعيدة. لهذا لبت المختارات رغبتي هذه، آملا في أن تلاقي رغبات شعراء ونقاد وقراء عراقيين كذلك. يبقى أن أشير إلى أمر آخر، وهو أن مجموعتي الشعرية الأولى، “فتات البياض”، مُنعت في العراق عند صدورها، فيما تصدرَ كتابي، “رسائل رامبو”، وهو الثاني في مؤلفاتي، المبيعات في “معرض الشرق الكبير” ببغداد… لهذا فإنني لا أتوانى عن مخاطبة القارئ العراقي في ما أكتب، وأتبادل معه أقرب العلاقات. – “أبيحُ لنفسي ما لا يبيحه ُغيري بالضروة ِ في كتابة القصيدة : أكتبُ في نطاق النثر بشهوة الشاعرِ، وأبقي خيطاً رفيعا أو سميكا ًبين كرم النثر وأقتصاد القصيدة” : هل هذا المنطوق يشكل سلافة العملية الكتابية لديكَ،طوال مسيرتكَ الإبداعية ؟ = القصيدة بالنثر حررتني، وجعلت التعبيرية تتشكل وفق ممكنات متنوعة، بما يناسب تموضعي في العالم الحديث. وأولُ وجوه التحرر تمثل في إتاحة الإقبال النهم والشغوف على عالم الشعر، من دون القيود والاشتراطات، التي اسميها بـ”النظامية”. ذلك أنني مقتنع، بعد غيري ومثلهم، من أن المبدع بات هو القيِّم على إنتاج معايير البناء، لا القواعد المفروضة والجماعية. وهذا يعني، في إنتاج القصيدة بالنثر، أن الشاعر يتوكل بإنتاج بناء ذي معايير ومقومات يرتئيها بنفسه، وبتقيد بها. وهي القيود والاشتراطات الجمالية الحرة، التي تتلاقى مع ما بلغتْه فنون أخرى، مثل التصوير وغيره، في بناء العمل الإبداعي. القصيدة بالنثر ليست في خدمة عمود، أو اشتراطات، غير ما يقترحه الشاعر الحر على قراء أحرار في إقبالهم وتذوقهم وأحكامهم. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post قانون عراقي قد يسمح بالإفراج عن مهاجمي القوات الأميركية next post وقود يكفي 260 صاروخا.. تفاصيل شحنة صينية خطيرة إلى إيران You may also like ( 60 قصيدة ) لعشرين شاعرا أميركيا حازوا... 24 يناير، 2025 رحلة هتشكوك الغامضة من أحياء لندن البائسة إلى... 24 يناير، 2025 محمود الزيباوي يكتب عن: مجامر من موقع سمهرم... 23 يناير، 2025 أنسي الحاج… الصمت الناطق 23 يناير، 2025 “إغراء الغرب” مراسلات أندريه مالرو مع “أناه” 22 يناير، 2025 رواية “وجوه طنجة” تسترجع مأساة الموريسكيين 22 يناير، 2025 محمد بنيس: على القصيدة أن تبقى مقاومتنا الدائمة... 22 يناير، 2025 نساء وسمن العصور الوسطى الأوروبية بموسيقاهن وأصواتهن 22 يناير، 2025 هل حولت “نوبل” ستاينبك إلى مناصر لحرب فيتنام؟ 22 يناير، 2025 “ملفات بيبي”… محاكمة سينمائية لطموحات نتنياهو 22 يناير، 2025