لقطة من فيلم "الختم السابع" (1957) لإنغمار برغمان (موقع الفيلم) ثقافة و فنون عندما خاطب برغمان جمهوره السينمائي بلغة الفلسفة وتاريخ الفن by admin 28 أغسطس، 2024 written by admin 28 أغسطس، 2024 98 شيء من التوضيح في اللقاء الأول بين صاحب “الختم السابع” وهواة اعتبروه فيلسوف السينما اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب كانت النخبة السينمائية وفي فرنسا على وجه الخصوص، أي في ذلك البلد الأوروبي الذي كان واحداً من أول البلدان التي اكتشفت سينما السويدي إنغمار برغمان وأغرمت بها، كانت تلك النخبة قد تعرفت إلى برغمان ولكن ليس من خلال الفيلم الذي سيقدمه حقاً إلى العالم كله، “الختم السابع”، بل من خلال فيلم سابق له هو “صيف مع مونيكا”. غير أن ذلك التعارف لم يكن بفضل سينما برغمان في حد ذاتها، بل بفضل ممثلة فاتنة هي هنرييت أندرسون قدمها برغمان كبطلة لفيلمه ففتنت السينمائيين الذين راحوا يمطرونها بمقالات التقريظ التي تنم عن إعجاب شخصي. وكان قطبا النقد، ثم “الموجة الجديدة” جان لوك غودار وفرانسوا تروفو في مقدمة المفتونين. غير أن انتقال الإعجاب إلى برغمان نفسه قد احتاج إلى الانتظار زمناً قبل أن يتحقق. وبالتحديد كان عليه أن ينتظر عرض “الختم السابع” في إيطاليا وغيرها ومن ثم نشر السيناريو في ستوكهولم كما مترجماً في مدن سينمائية أوروبية أخرى ليتحول برغمان إلى ما يشبه “فيلسوف السينما وسينمائي الفلسفة” ويبدأ جمهور لا بأس بعرضه يهتم بما يقوله بقدر ما يهتم بما يؤفلمه. وفي هذا السياق لم يكن غريباً أن يكون التقديم الذي كتبه برغمان في عام 1956 كمقدمة للطبعة الأولى من الكتاب الذي أفرده لـ”الختم السابع”، واحداً من أول النصوص التي عرفت لبرغمان الذي سرعان ما سيكشف ككاتب مبدع بقدر ما هو سينمائي مبدع ومسرحي مبدع. والنص الذي نتحدث عنه هنا سينشر ويشتهر كثيراً بعد ذلك ليقدم عن صاحبه صورة بالغة الأهمية والعمق. المكر اللذيذ يستهل برغمان نصه هذا بشيء من “المكر اللذيذ” على أية حال بقوله، “يسألني الناس كثيراً في هذه الأيام عما أنتويه من خلال تحقيق أفلامي، وبالتحديد عما أريد قوله. ويا له من سؤال صعب ويتسم بقدر كبير من الخطورة!”. ويستطرد برغمان هنا قائلاً إنه يجيب سائليه دائماً بأنه إنما يحاول في أفلامه أن يقول ما يتصور أنه حقيقة الشرط الإنساني “الحقيقة كما أراها”. ويردف برغمان أن ذلك الجواب كان يبدو له دائماً أنه يرضي كل واحد من طارحي السؤال عليه “لكنه ليس بالجواب الذي أؤمن بصحته فهو الجواب الخطأ” ومن هنا يقول الكاتب: “لذا أفضل هنا أن أتحدث عما كنت لأود حقاً أن تبدو عليه غايتي الحقيقية”. وهكذا ينطلق برغمان في الحديث عن ذلك الجواب الآخر الذي كان دائماً ما يفضل عدم الحديث عنه قائلاً إن “هناك حكاية بالغة في القدم عن الكيفية التي شيدت بها كاتدرائية شارتر في وسط فرنسا إلى الجنوب من باريس”. فذات مرة “ضربت صاعقة مبنى تلك الكاتدرائية فدمرتها وسوتها بالأرض. وعلى الفور تقاطر الناس بأعداد ضخمة من كل أصقاع المعمورة وكأنهم جحافل من النمل تتدافع محاولة اقتحام الزحام للوصول إلى المكان. وكانوا ما إن يصلوا حتى ينصرف كل فرد منهم إلى الانخراط في عملية إعادة بناء الكاتدرائية بما يقدر عليه وبما تمكنه منه معرفته ومهارته فمنهم المعماريون والدهانون والعمال العاديون والحمالون والمعلمون والحرفيون. وفي زحامهم راح حتى المهرجون يمارسون فنونهم على سبيل الترفيه عنهم. وإلى جانب كل أولئك تزاحم النبلاء ورجال الدين ومندوبو البلديات كل منهم يسهم في تلك الحياة الصاخبة التي انطلقت من حول البناء الذي راح يعلو متراً متراً. وكل هذا ولا أحد من الحاضرين والمساهمين يعرف أسماء الآخرين ومن أين جاءوا. وهكذا بنيت الكاتدرائية بجهود أولئك المجهولين الذي بقوا مجهولين حينها ولا يزالون مجهولين حتى يومنا هذا”. إنغمار برغمان (2007 – 1918) (غيتي) “بعيداً من معتقداتي وشكوكي” تلكم هي الحكاية التي رواها إنغمار برغمان إذاً في أول مخاطبة له موجهة إلى جمهور أفلامه واستطرد فيها قائلاً وهذه المرة على سبيل التوضيح: “بصرف النظر عن معتقداتي وعن شكوكي الخاصة بي والتي لا أرى أن لها أهمية بالنسبة إلى ما أقوله في هذا السياق، فإنني أرى اليوم أن الفن قد فقد في زمننا هذا جوهر توجهه الإبداعي الحقيقي، وهو فقده منذ اللحظة التي انفصل فيها عن فعل العبادة نفسه. ففي ذلك الزمن كان الإبداع يخدم بوصفه رابطاً خلاقاً بين الكائن والكون، أما اليوم فإنه يعيش نوعاً من حياة عقيمة خاصة به، خالقاً نفسه وثم متلفهاً من فوره. ففي خاليات الأزمنة كان الفنان المبدع يبقى مجهولاً وقد كرس إبداعه لخدمة أمجاد السماوات. كان يعيش ويموت من دون أدنى اهتمام منه بأن يعرف بأكثر مما يعرف الحرفيون أو بأن تكون له أهمية تفوق أهميتهم. ومن هنا فإن مصطلحات مثل ’القيم الفنية الخالدة‘ و’الخلود‘ نفسه و’التحف الفنية‘ لم تكن مستخدمة على الإطلاق. كانت القدرة على الإبداع تعد مجرد موهبة، لذا عرفت قيم جماعية حقيقية كالتواضع الطبيعي وإنجاز الذات من خلال الإبداع عرفت كيف تسود وتسير حياة الناس”. فلسفة أخلاقية وهنا إذ ينتقل برغمان في حديثه من الفن للفلسفة، وربما الفلسفة الأخلاقية، يقول لنا إن الفن قد بات في أيامنا هذه قمة الإبداع الإنساني، وذلك بصورة تتواكب مع واقع أن “أصغر جرح نرجسي يصيب الفرد بات يتم تفحصه بالاستعانة بمجهر مكبر يعده فائق الأهمية بل ذا أهمية مطلقة. مما يعني أن المبدع بات يعد عزلته وذاتيته وفرديته أموراً مقدسة إلى حد كبير. لذا فإن الواحد منا بات ينظر إلى تلك العزلة والفردية والذاتية وكأنها فريدة لا تعرفها ذوات الآخرين من الذين يبدو أننا بتنا على غير استعداد للإصغاء إلى ما قد يشكون منه هم بدورهم. وكأن الآخرين ليسوا سوى أموات مقارنة بنا. نحدق في أعين الآخرين وكأن لا وجود لهم بينما نسير في حركة دائرية لا نهاية لها، حركة لا تحدها سوى ضروب قلقنا المتفردة والتي تجعلنا غير قادرين إطلاقاً على التفرقة بين ما هو مزيف فينا وما هو حقيقي. بين من هو لص ورجل عصابات ومن هو كائن بشري حقيقي. ومن هنا تراني إذا ما سئلت عما أبتغيه من تحقيقي أفلامي أجيب من دون أدنى تردد: إن ما أبتغيه ولا أبتغي سواه إنما هو أن أكون مجرد واحد من أولئك الفنانين الذين ينخرطون في عملية البناء الجماعي لتلك الكاتدرائية القائمة وسط تلك السهول”. وهنا إذ يصمت برغمان بعض الشيء مفكراً في ما قاله هو نفسه يتابع حديثه خاتماً: “إنني أبتغي أن أصنع رأس تنين أو رأس ملاك أو رأس شيطان – بل على الأرجح رأس قديس – مستخدما قطعاً من الحجارة لا أكثر. والحقيقة أنني لن أهتم كثيراً بنوع قطعة الحجارة التي سأستخدمها، ولا بلونها ولا حتى بحجمها ولا بالتأكيد بما إذا كان ذلك الحجم يتحمل أن أحفر عليه اسمي وتوقيعي وتاريخ نحتي للرأس. كل ما أتطلع إلى الاهتمام به إنما هو المعنى الذي سيعبر عنه ما نحته على قطعة الحجارة، بل إن ما سيهمني أكثر من أي شيء آخر إنما هو إحساسي بالرضا عما فعلت. لذا سواء كنت مؤمناً أو لم أكن، سواء كنت مسيحياً أو لم أكن، سيرضيني في نهاية الأمر أن أكون مجرد واحد من أولئك المجهولين الذين اندفعوا ذات يوم ليشاركوا في إعادة تشييد الأكاديمية من دون أن يحاولوا أن يلفتوا نظر أحد إلا بإتقانهم العمل الذي يحسنون القيام به معتبرين خلوده خلودهم الشخصي، ورضا الكون عنهم غايتهم التي لا غاية تسمو عليها”. ولعل في مقدورنا في نهاية الأمر أن نشير هنا إلى أن هذا التقديم الأول والبسيط في عمقه كان في نظر كثر من المبدعين الذين تعرفوا إلى إنغمار برغمان بصورة مبكرة في ذلك الحين ولا سيما من خلال “الختم السابع” الذي يبقى من أعظم أفلامه بل كذلك من أعظم الأفلام – العلامات في تاريخ السينما، خير تقديم يعرف به عن نفسه فنان كبير من فناني زمن الإنسانية والقيم الكبرى. ولنختم بأن برغمان الذي رحل عن عالمنا عام 2007 عن نحو ثلاث دزينات من الأفلام الكبيرة ونصف دزينة من الكتب لم يخيب أمل مريديه لا فنياً ولا أخلاقياً. المزيد عن: إنغمار برغمانفيلم الختم السابعالموجة السينمائية الجديدةجان – لوك غودارفرانسوا تروفو 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post ما مآلات انضمام السودان إلى حلف روسيا – إيران؟ next post عندما أثار كتاب “لماذا أنا ملحد؟” سجالا راقيا في قاهرة الثلاثينيات You may also like رسائل تنشر للمرة الأولى… حب مستحيل لأراغون 8 نوفمبر، 2024 سامر أبوهواش يكتب عن: في “معا في الجنون”... 8 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: بعلبك… آن لروح الشعراء... 8 نوفمبر، 2024 من “المراهق العزيز” الذي صاغ نصوص دا فنشي... 8 نوفمبر، 2024 “آخر المعجزات” يعيد سجال السينما المصرية وعيون الرقيب 8 نوفمبر، 2024 هل تصمد الرواية الرقمية أمام تحديات القراءة؟ 7 نوفمبر، 2024 “آلام جان دارك”… أسطورة واقعية وتراجيدية على الشاشة 7 نوفمبر، 2024 هل يستحق “جوكر 2” الفشل الجماهيري؟ 7 نوفمبر، 2024 ما الذي كان يمكن أن يحدث لو أن... 7 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: أحصنة برونزية من شبه... 6 نوفمبر، 2024