لبنان بعد اغتيال الحريري ربح الاستقلال وخسر الدولة

يشهد البلد منذ عام 2005 انحداراً سياسياً واقتصادياً وصولاً إلى أزمة خانقة اليوم

اندبندنت عربية / دنيز رحمة فخري صحافية @deniserf_123

حضر رئيس الحكومة اللبنانية السابق سعد الحريري إلى وسط بيروت اليوم الأربعاء، وسط حضور شعبي كبير، حيث قرأ الفاتحة على ضريح والده، ثم جال بين مناصريه مصافحاً إياهم. وقال في تصريح مقتضب لوسائل الإعلام قبل التوجه إلى منزله في بيروت (بيت الوسط)، “حافظوا على البلد، نحن معاً وأنا جنبكم، وكل شيء بوقته حلو”.

وبعد مرور 19 عاماً على اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في وسط بيروت، لا يزال اللبنانيون يتذكرون تفاصيل ذلك اليوم الذي غير مسار بلاد الأرز، وشكل حدثاً غير مسبوق لجهة التداعيات المحلية والإقليمية التي خلفها، فضلاً عن أن لبنان شهد منذ الـ14 من فبراير (شباط) 2005 تبدلات في الخريطة السياسية اللبنانية اتخذ بعضها بعداً إقليمياً. وإذا كان اغتيال الحريري شكل الشرارة الداخلية والدولية في الدفع باتجاه تطبيق القرار الدولي 1559 وعجل انسحاب الجيش السوري من لبنان وإعلان “استقلاله الثاني”، إلا أنه لم يتمكن حتى اليوم من التحرر من الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية والمالية المتلاحقة التي فتكت به وأدت إلى انهياره مع تراجع الآمال ببناء الدولة القوية المستقلة والخالية من الفساد التي يطمح إليها اللبنانيون. ويعتبر كثيرون أن أسباب الانهيار تعود لانتقال الهيمنة السورية على قرار الدولة اللبنانية إلى ميليشيا “حزب الله” وإيران. ويعيش لبنان منذ انتفاضة الـ17 من أكتوبر (تشرين الأول)2019  أزمة مالية غير مسبوقة، وانهياراً للعملة الوطنية وانسداداً سياسياً وفراغاً في موقع رئاسة الجمهورية وفي مواقع إدارية عديدة، وسط استمرار في الانقسامات السياسية وتباعد في المواقف، كان آخرها التباين حول مشاركة لبنان في حرب غزة، في ظل رفض أغلبية اللبنانيين حرب “الإشغال” التي يقودها “حزب الله” التي أدت إلى تعريض القرى الحدودية مع إسرائيل لقصف مستمر ونزوح معظم الأهالي.

الحفرة الضخمة التي أحدثها تفجير اغتيال رفيق الحريري في بيروت (أ ف ب)

اغتيال الحريري كان انقلاباً ضخماً

بحسب النائب مروان حمادة، صديق الرئيس رفيق الحريري وأول المستهدفين في التفجيرات التي طاولت الشخصيات السياسية “السيادية” قبل الانسحاب السوري من لبنان وبعده، “إن اغتيال رفيق الحريري لم يكن حدثاً عابراً بل انقلاباً ضخماً أطاح بأهم شخص وبالبيئة التي كانت تمثل قناعة لبنان، أمام الزحف السوري الإيراني”، ويضيف حمادة في حديث لـ”اندبندنت عربية”، “يجب النظر إلى اغتيال الحريري على أنه حدث مزلزل بقوة رختر عالية تشبه نقاط تحول في المنطقة غيرت من وجهها ومن توجهها، مثال الحروب العربية – الإسرائيلية وهجوم الـ11 من سبتمبر (أيلول) واجتياح العراق”.

ويؤكد النائب العضو في كتلة الحزب “التقدمي الاشتراكي”، “أن ما تفاجأ به لبنان والقوى السيادية التي حاولت أن تجعل من اغتيال الحريري قوة دافعة نحو مزيد من الاستقلال والتحرر من المحور المسيطر وما سمي لاحقاً بمحور الممانعة، هو الهلال الإيراني غير الخصيب الممتد من طهران عبر بغداد ودمشق إلى بيروت مع تفرعاته اليمنية”.

الانهيار السياسي

بحسب حمادة فبعد اغتيال الحريري اندحرت المناعة الوطنية التي تكونت في مرحلة معينة بوجود الحريري ورفاقه مع البطريركية المارونية ولقاء قرنة شهوان (الذي ضم قوى المعارضة للنظام السوري وترأسه المطران يوسف بشارة) والقوى السيادية المعتقلة والمنفية آنذاك، وتراجعت مع سقوط الحريري والانهيار السياسي الذي أصاب المكون السني، أحد أعمدة استقلال لبنان منذ عام 1943، فكان هذا الاغتيال بمفاعيله بحسب حمادة مثل اغتيال رياض الصلح (أول رئيس وزراء لبناني بعد الاستقلال من 1946 إلى 1951)، حين أصيب أركان الاستقلال بضربات موجعة، و”غيبت ثلاثية الديمقراطية والعروبة والاستقلال لصالح ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة التي أرساها “حزب الله“، الذي لم يترك مجالاً لا للجيش ولا للشعب”. ويضيف النائب المعارض لـ”اندبندنت عربية”، “إن ما حل بلبنان بعد اغتيال الحريري وعلى مراحل سريعة من اغتيالات واعتصامات وإغلاق للمجلس النيابي واجتياح لبيروت ومحاولة اجتياح الجبل وتمرد على الحكومة، كلها محطات في الانقلاب الزاحف للثنائي الشيعي، لا بل الأحادي ’الحزبلاوي‘ المقاد من طهران، إلى أن وصلنا إلى تدمير مبرمجٍ لكل مكونات لبنان ولآخر معالم الحياة السياسية والثقافية والروحية التي ميزته في هذه المنطقة”.

ارتبط رفيق الحريري بعلاقة صداقة قوية مع الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك (أ ف ب)

الانحدار الاقتصادي

ويتوقف النائب حمادة عند أبرز محطات التراجع التي حلت بلبنان بعد اغتيال الحريري بدءاً من اتفاق الدوحة إذ “تم تسليم قرار شل الحكومة” كما يقول، مروراً بقانون الانتخابات الجديد الذي أدى إلى شرذمة القوى السيادية، وصولاً إلى انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية الذي شكل تسليماً للرئاسة الأولى بعد الرئاسة الثانية (رئاسة مجلس النواب) المحتكرة من حركة “أمل” منذ 30 عاماً والرئاسة الثالثة (رئاسة الوزراء) التي كلما انتقلت ولو لفترة وجيزة لنجل الرئيس رفيق الحريري سعد الحريري، كانت تعطل وتشل. ويعتبر حمادة أن ما جرى عام 2011 عندما أطيح بسعد الحريري الداخل إلى البيت الأبيض والإتيان بنجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة، وهو حليف النظام السوري آنذاك و”حزب الله” حالياً، كان أول تحول انحداري للاقتصاد اللبناني، وكانت قمة القضاء على الاقتصاد. ويضيف “عندما كلف شخص منكر هو حسان دياب (رئيس الحكومة التي شكلت على أثر تظاهرات الـ17 من أكتوبر)، تم إعلان إفلاس لبنان وهو البلد الذي لم يخل يوماً منذ استقلاله عام 1943 بتشريف توقيعه على أي التزام مالي داخلي أو خارجي”.

الهيمنة العسكرية

ويعتبر حمادة أن الهيمنة العسكرية بمحاصرة الجيش اللبناني مؤسساتياً عبر القوى التي احتكرت قرار مجلس الوزراء المسؤول دستورياً عن تحريك القوى المسلحة، إضافة إلى الهيمنة على رئاسة الجمهورية المناط بها قيادة الجيش والقوى المسلحة الشرعية، وصولاً إلى خطف رئاسة الحكومة وعضوية مجلس الوزراء وإخلائها من حزبي “القوات اللبنانية” و”الكتائب” والمستقلين التغييريين وحتى “التقدميين”، إشارة إلى الحزب التقدمي الاشتراكي الممثل في الحكومة بوزير واحد غير سياسي، كل هذه الأمور مجتمعة جردت لبنان من جينات المناعة الاستقلالية والعروبية والحرية والديمقراطية، وسلمت قرار الحرب والسلم والمصير إلى ثنائي هو في النتيجة بحسب حمادة قوة واحدة تابعة إيديولوجياً قسرياً أم إرادياً إلى “ملالي” طهران. وهكذا بحسب النائب المعارض، انتهت في دماء الحريرية بقايا الاستقلال والوجود اللبناني.

القوات السورية تغادر لبنان بعد اغتيال الحريري (أ ف ب)

بعد اغتيال الحريري توقف مشروع الدولة

أما في مقلب تيار “المستقبل” الذي أسسه رفيق الحريري والذي كان المتضرر الأكبر من اغتياله، يصف النائب السابق محمد الحجار الـ14 من فبراير (شباط) 2005 بالتاريخ الذي حفر في عقول وقلوب اللبنانيين، وبالفاجعة التي أصابت لبنان والمنطقة. ويعتبر الحجار أن رفيق الحريري كان يعني اللبنانيين كرجل العلم والإعمار والخير والعطاء وصانع اتفاق الطائف. ويضيف عضو تيار “المستقبل”، “في الـ14 من شباط 2005 اغتيل رفيق الحريري القائد والمقاوم الأول والعروبي والوطني واللبناني ورجل الدولة المميز الذي بذل دمه ثمناً لمشروع لبنان الدولة السيدة الحرة العربية الديمقراطية المستقلة”.

ويعود الحجار بالذاكرة لزمن تسلم الحريري مقاليد الحكم في شقه التنفيذي على رأس الحكومة عام 1992، ويشرح في حديث لـ”اندبندنت عربية” أن رفيق الحريري وضع منذ عودته للبنان مجموعة أفكار، وحدد أولويات عمل على تنفيذها، وهو كان يعلم أن طريق استعادة لبنان لموقعه في المنطقة يجب أن تمر بإعادة الإعمار وتقوية المؤسسات الدستورية وعودة المهجرين وأولوية التعليم وإعادة بناء الجيش اللبناني والقوى الأمنية لتفرض سيادة الدولة وحدها على كامل أراضيها. ويعترف النائب “المستقبلي” السابق أن الحريري دعم “المقاومة” حتى تستطيع تحرير الأراضي المحتلة في الجنوب حتى تحقيق التحرير عام 2000. ويؤكد الحجار أن رفيق الحريري “عمل على إعادة لبنان إلى خريطة العرب والمجتمع الدولي، وأراد توفير الظروف الملائمة اقتصادياً لمستوى عيش لائق للمواطن، ومن هنا كان تركيزه على البشر والحجر”. ويضيف الحجار أن رئيس الحكومة المغتال تعاطى بواقعية وبشكل “براغماتي” مع الأمور حتى يتمكن من تحقيق أهدافه في لبنان، وأنه كان يعلم ويدرك جيداً مدى تأثير هيمنة النظام السوري في ذلك الحين، ومشروع “حزب الله” والنظام الإيراني، ومصالح الزعماء اللبنانيين المنتقلين من خلف متاريس الحرب إلى مؤسسات الدولة، وهي مصالح إن لم ينظر إليها فكل شيء كان سيتعقد، فحاول قدر الإمكان المواءمة بين مصالح هؤلاء وموجبات قيام الدولة الحقيقية.

تظاهرة 14 مارس 2005 التي شارك فيها نحو مليون شخص وأسفرت عن خروج الجيش السوري من لبنان (أ ف ب)

لو كان الحريري لما سيطر الحزب على قرار الدولة

بحسب الحجار فإن رفيق الحريري كان يعرف أن أحد العوامل الأساسية المسببة والمشجعة للهيمنة السورية على البلد كانت ما خلفته الحرب اللبنانية من دمار و خراب وضعف في المؤسسات والدولة والاقتصاد. ويضيف لـ”اندبندنت عربية”، “هو لم يلعب لعبة الدم لأنه كان يدرك أن التخلص من هذه الهيمنة لا يمكن أن يحصل بالقوة، وأن المواجهة مع النظام السوري وحلفائه في لبنان كانت مكلفة جداً وستؤدي إلى الفتنة من جديد، فعمل على تطوير البلد لمواجهة مسببات الهيمنة، ووظف كل علاقاته العربية والدولية لجذب العالم إلى لبنان والاستثمارات العربية والدولية بهدف إعادة الإعمار وإعادة بناء البنى التحتية المناسبة والمتماهية مع مميزات لبنان التفاضلية لتطوير الاقتصاد بشكل سريع، وخصوصاً في قطاع الخدمات والسياحة”.

ويقول النائب السابق أن كل ما أنفق على الإعمار حينها لم يتخطى 8 مليارات دولار أميركي، مذكراً بأنه في أواخر 1992 كانت الأرضية المالية للدولة بحدود 6.2 مليار دولار، في حين أصبحت بعد اغتيال رفيق الحريري أضعاف هذا الرقم. ويقول الحجار “يعترف الجميع أنه بعد الحريري لم تضرب ضربة معول في لبنان على صعيد الإعمار والبنى التحتية”، مضيفاً أن القيادة السياسية الفريدة والتاريخية التي جسدها لم تتكرر من بعده، وهو ما يفسر الانهيارات التي حلت بالبلد، ومذكراً أيضاً بمؤتمري “باريس 1″ و”باريس 2” الذين عمل الحريري على عقدهما عبر علاقاته الدولية، وكيف أنه كان يدعو مراراً وتكراراً إلى تنفيذ الإصلاحات التي التزم بها لبنان أمام المؤتمرين، وخصوصاً أثناء نقاشات الموازنات منذ عام 2002، حتى يتمكن هذا البلد الصغير من تعزيز ثقة الدول المقرضة والمانحة به، وكان يحذر دائماً من أن عدم تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والمالية والهيكلية المطلوبة سيوصل البلد إلى الإفلاس والانهيار، لكن كانت الغالبية العظمى من القوى السياسية بحسب الحجار ترفض وتحت مسميات مختلفة تدير ظهرها لنداءاته.

يقول الحجار إن “رفيق الحريري قد يكون الرجل الوحيد الذي كان لديه هذا الهم الوطني، إذ كان يضع مصلحة لبنان أولاً وشعار لبنان أولاً، فهو الذي قال به قبل أي شخص آخر”. ويضيف النائب السابق أن “كل لبناني يسأل نفسه اليوم لو كان رفيق الحريري لا يزال موجوداً هل كان البلد بلغ هذا الانهيار الذي نعيشه؟ بالتأكيد لا”، معتبراً أن البلد مصادر اليوم و”حزب الله” مسيطر بشكل شبه كامل ويتصرف في البلد بالطريقة التي يريدها ويتحكم بقرار الحرب والسلم غير عابئ بالارتدادات السياسية والاقتصادية السلبية لذلك على الوطن.

المزيد عن: لبنانرفيق الحريريالأزمة اللبنانيةبيروتحزب اللهإيرانسوريا